التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
٦
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ
٧
وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٨
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٩
وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
١٠
فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
١١
لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٢
-الشورى

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ }.
يحتمل قوله: { أَوْلِيَآءَ }: الأصنام التي عبدوها دون الله؛ كقوله تعالى:
{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 28] وقوله - تعالى - { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [الممتحنة: 1]، وقوله - تعالى -: { إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأعراف: 30].
وقوله - عز وجل -: { ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ }.
يخبر أنه لا عن غفلة وجهل منه يعملون ما يعملون، ولكنه حفيظ عليهم وعلى أعمالهم، لكنّه يؤخر ذلك عنهم لحكمة، والله أعلم.
وقوله: { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }.
يحتمل وجهين:
أحدهما: وما كنت عليهم بوكيل، أي: لا تؤاخذ أنت بمكانهم؛ كقوله:
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54].
والثاني: { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }، أي: بمسلط عليهم ولا حفيظ، إنما أنت رسول فعليك البلاغ، كقوله تعالى:
{ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [الشورى: 48]، وقوله: { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [النور: 54]، والله أعلم.
وقوله: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً }؛ ليكون أقرب إلى الفهم، وأولى أن يكون حجة عليهم وأبلغ في الحجاج؛ لأنه ذكر فيه الأنباء السالفة والأخبار المتقدمة باللسان العربي، غير لسان تلك الأنبياء، ومن غير أن يختلف إلى أحد من أهل ذلك اللسان؛ لتوهم التعلم منهم بلسانهم، والنقل بلسان نفسه؛ فدل أنه إنما عرف بالله تعالى، وقوله: { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا }.
أي: لينذر أهل أم القرى وأهل من حولها من القرى.
ثم يحتمل تسمية مكة: أم القرى وجوهاً ثلاثة:
أحدها: سماها: أم القرى؛ لما منها دحيت سائر الأرضين والقرى.
والثاني: سماها: أم القرى؛ لأنها أول بيت وضع للناس، وأول بناء بني في الأرض، فسماها لذلك: أمّ القرى، والله أعلم.
والثالث: سماها: أم القرى؛ لما على الناس أن يؤموها ويقصدوها بالزيارة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بعث رسولا فيها، فإليها يؤم ويقصد بالدعوة أول ما يؤم ويقصد، ثم من بعد ذلك يؤم إلى سائر القرى والبلدان، ويقصد، والأمّ: القصد، ومنه أخذ التيمم؛ ولذلك سمّاها: أمّ القرى، والله أعلم.
وقوله: { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ }، أي: وينذر بيوم الجمع.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ }، أي: ينذر بالقرآن يوم الجمع لا ريب فيه.
وقوله: { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } قد بين الله - تعالى - السبيلين جميعاً على الإبلاغ، وبين عاقبة كل سبيل إلى ماذا يفضي من سلكها، والله أعلم.
وقوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يخبر أن عنده من اللطائف والقدرة، ما لو شاء لجعلهم جميعاً أمة واحدة وعلى دين واحد، وهو ما قال:
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ... } الآية [الزخرف: 33]، فلو جعل ذلك لأهل التوحيد والإيمان، لكانوا جميعاً على دين الإسلام؛ على ما أخبر أنّه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعاً أهل كفر.
ثم قوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } لا يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة لوجوه:
أحدها: لما لا يكون الإيمان في حال الجبر والقهر؛ لأنه لا صنع لهم في ذلك، ولا اختيار لهم.
والثاني: أنّ كل أحد بشهادة الخلقة مؤمن موحد لله - تعالى - ثم لم يصيروا بذلك مؤمنين؛ فعلى ذلك بالجبر والقهر؛ إذ في الحالين يكون فعل المؤمن إنما هو فعل غيره؛ فدل أنه أراد أن يشاء منهم ما يكون مختارين في الإيمان لا مجبورين.
والثالث: أنّ الإيمان بالجبر والقهر ممّا لا يعرفه الناس، ولا يطلق اسم الإيمان عليه في العرف، وقد وعدهم الإيمان، وجعل الدين واحدا، وهذا عند المتعارف ينصرف إلى ما يوجد منهم عن طوع واختيار، لا بالجبر والقهر؛ فتكون الآية منصرفة إلى المعهود عند النّاس؛ على ما هو الأصل في الكلام، والله الموفق.
وعندنا: أراد به مشيئة الاختيار، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعاً عن اختيار، لكنه لم يعطهم ذلك ولم يشأ؛ لما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه، ولا يختارون ذلك، ولكن إنّما يختارون ضد ذلك ونقيضه؛ لذلك لم يشأ لهم، وإنما يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا.
وقوله: { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } يخبر أن من أعطى ذلك إنما يعطيه رحمة منه وفضلا، لا أنهم يستوجبون ذلك منه، ويستحقونه عليه، والله الموفق.
ثم إن الله تعالى سمى الإيمان مرة: رحمة بقوله: { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [الشورى: 8]، ومرة سماه: منّة بقوله:
{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [إبراهيم: 11]، وبقوله: { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ... } الآية [الحجرات: 17]، فلو كان الإيمان يقوم بالذي يكون الكفر من القدرة ولم يكن من الله - تعالى - إلى المؤمنين إلا وقد كان مثله إلى الكافر، على ما يقوله [المعتزلة]: إن الإيمان إنما يكون بالذي يكون الكفر، لم يكن لتسمية هذا نعمة ومنَّة ورحمة، وتسمية الكفر ضده - معنى، والله أعلم.
وبعد: فإنه لو كان على ما يقوله المعتزلة لكان ما ذكر من النعمة والمنّة والرحمة إنما يكون بالخلق منهم، لا بالله - تعالى - ومنه دل أن عنده لطائف، من أعطى تلك اللطائف آمن واهتدى، ومن لم يعطه إيّاها لم يؤمن، وقد أعطى المؤمن تلك، ولم يعط الكافر؛ لذلك كان ما ذكرنا، والله الموفق.
ثم في تخصيص أمّ القرى ومن حولها بالنذارة وجوه، لأنه ذكر في آية أخرى أنه نذير للعالمين جميعاً بقوله:
{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] فإذا كان مبعوثاً إلى جميع العالم، لا إلى بعض دون بعض، كما كان بعض الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد أن يكون لتخصيص أمّ القرى ومن حولها معنى وحكمة:
أحدها: لما يحتمل أن يكون لأهل مكة طمع في شفاعته وإن لم يتبعوه: إما بحق القرابة والاتصال، وإما بحق الأيادي، ومن حولهم بحق الجوار؛ فذكر تخصيصهم بالإنذار بيوم الجمع حتى يزول طمعهم بدون الاتباع، والنزوع عن الشرك؛ إذ ذلك لا يزول بمطلق الإنذار؛ لما عندهم - في زعمهم - أن المراد بذلك غيرهم؛ لما لهم من زيادة سبب الوسيلة معه.
والثاني: أن ينذر هؤلاء ومن ذكر شفاهاً، ولمن بعد منهم خبراً.
أو خصّ هؤلاء بحق البداية ثم بالأقرب فالأقرب، وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -:
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] على الوجوه التي ذكرنا.
وقوله - سبحانه وتعالى -: { وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }، أي: ما لهم من وليّ يشفع، ولا من نصير ينصرهم، ويمنعهم من عذاب [الله].
وقوله: { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ }، أي: أرباباً، { فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ }، أي: هو الربّ، { وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } وقد عرفوا أنّ الإحياء إنما يكون بالله - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوها، وإن كانوا ينكرون البعث والإحياء بعد الموت، فلو عرفوا أنه لو كان إنما يكون بالله - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوا دونه، { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ظاهر، قد تقدم ذكره.
وقوله: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } يحتمل قوله: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ } وجوها:
أحدها: في القرآن.
والثاني: في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول أو ليس برسول، فقد أقام من الدلائل والبراهين ما يدل على رسالته ونبوته: سمعيات وعقليات، ما لا يتعرض لردّها إلا من كابر عقله وعاند لبّه، وكذلك لو كان اختلافهم في الدين فقد أقام ما يعلم كل ذي عقل ولب: أنه هو الصواب، وأن غيره من الأديان ليس بحق.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } أي: إلى كتاب الله، كقوله:
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [النساء: 59] أي: إلى كتاب الله.
لكن هذا لا يصح، فإن قوله:
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [النساء: 59] إنما هو في المؤمنين إذا وقع بينهم الاختلاف في شيء من الأحكام يردّ ذلك إلى كتاب الله، وإلى سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا قوله - تعالى -: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } إنما هو في محاجة الكفرة، فهو في غير ذلك المعنى؛ إذ هم لا يعتقدون كونه حجة، وإنما يرجع إلى دليل آخر عقلي.
وقوله: { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي }، أي: ذلك الذي يفعل هذا هو ربي { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ }، في كل أمري، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } بالطاعة.
ويحتمل أن يكون اختلافهم الذي ذكر هو اختلافهم في الله - تعالى - كقوله:
{ وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ } [الشورى: 16].
وقوله: { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي }، أي: ذلكم الذي اختلفتم فيه هو ربي { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ }، أي: عليه اعتمدت، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }، أي: إليه أرجع.
ثم نعته فقال: { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }، وقال هو في موضع آخر:
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1]، وفي موضع آخر: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 1]، وقال في موضع آخر: { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة: 117].
قال بعض الباطنية: المبدع: هو الذي ينشئ الأشياء لا من شيء، والخالق: هو الذي ينشئ الشيء من شيء ولا من شيء، والفاطر: هو الذي ينشئ من شيء أو نحوه من الكلام.
وعندنا أن هذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها وافترق اشتقاقها ومأخذها، فهي في المعاني واحدة؛ الإبداع هو الإنشاء بلا احتذاء سبق، والخلق هو الإنشاء والتقدير، لكن غيره لا يجوز أن يسمى: خالقاً؛ لأنه لا يقدر على تقدير شيء إلا على مشاهدة: عاينه ورآه، والفاطر كأنه مأخوذ من الشق، يشق الشيء ويخرج منه أشياء، كله خلق، وفاعله خالق على الحقيقة، وهو الله تعالى، وبالله القوة والتوفيق.
وقوله: { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي: جعل من نفس آدم وحواء - عليهما السلام - أزواجاً نسبنا جميعاً إليهما؛ لأنهما الأصل، وإنا جميعاً إنما كنا من ذلك الأصل، وهو كنسبته إيانا إلى التراب بقوله:
{ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الروم: 20] وإنما خلق أصلنا من التراب، لكنه نسبنا إليه؛ لما منه كنا جميعاً؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي: من نفس آدم وحوّاء، ونسبنا إليهما؛ لما منهما كنّا جميعاً، والله أعلم.
والثاني: يقول: جعل بعضكم من بعض أزواجاً أي: حلائل، أي: خلق الإناث من الرجال، والرجال من الإناث، وهو ما ذكر في آية أخرى:
{ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا... } الآية [الروم: 21].
والثالث: أي: جعل لكم من مثل خلقكم أزواجا؛ أي: أصنافاً وأشكالا، جعل الخلائق كلها ذات أشكال وأمثال، وذات أزواج، وكذلك يخرج قوله: { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً } على وجهين:
أحدهما: يقول - والله أعلم -: إنه جعل الأنعام - أيضاً - ذات أزواج وأشكال.
والثاني: جعل منها الذكور والإناث - أيضاً - كما جعل من البشر.
وقوله: { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } اختلف في تأويل قوله: { يَذْرَؤُكُمْ }، والمراد بقوله: { فِيهِ }: أن الهاء كناية عن ماذا؟
قال بعضهم: { يَذْرَؤُكُمْ } أي: يكثركم.
وقيل: يعيشكم فيه.
وقيل: يرزقكم فيه، ويعمركم.
وقيل: يخلقكم.
وأما قوله: { فِيهِ } قال بعضهم: يجيء قوله: { فِيهِ }، أي: فيها، كناية عن الأنعام، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: { يذرؤكم فيها } أي: في الأنعام؛ لما جعل للبشر فيها من أنواع المنافع.
وأما من قرأه { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } بغير ألف فهو يجعله كناية عن العالم؛ كأنه يقول: { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي: يخلقكم في العالم ويكثركم فيه ويعيشكم ويعمركم.
وقال بعضهم: { يَذْرَؤُكُمْ } أي: يكثركم في هذا التزويج الذي جعل بينكم؛ أي: يكثركم بسبب هذا التزويج لم يكثر الناس.
وجائز أن يكون قوله: { فِيهِ } كناية عن التدبير؛ يقول: { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }: يخلقكم فيه نسلا بعد نسل؛ كقوله - تعالى -
{ ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [المؤمنون: 79]، وهو قول القتبي وأبي عوسجة.
وقوله - عز وجل -: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... } الآية.
يستدل بعض أهل التشبيه بأن له مثلا بقوله - تعالى - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يقولون: لو لم يكن مثل لم يذكر كاف التشبيه؛ حيث قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، لكن نفى مثلية الأشياء عن مثله؛ فيكون فيه إثبات مثل له لا يشبه سائر الأشياء سواه؛ أو كلام نحو هذا.
وعندنا: قوله - تعالى - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي: ليس مثله شيء، والكاف قد تزاد في الكلام.
وقال بعضهم: أي: ليس كهو شيء، والعرب قد تقيم المثل مقام النفس.
وأصله: أن الخلق ذو أعداد، وكل ذي عدد له أشكال وأمثال من حيث العدد.
والأصل في ذلك: أن الخلق وإن كانوا ذا أمثال وأشكال وأشباه، فليس يشبه بعضهم بعضاً من جميع الوجوه وكل الجهات، ولكن إنما يشبه بعضهم بعضا [لا] من جميع الوجوه، أو بوجه أو بصفة، أو بجهة أو بنفس، ثم صار بعضهم أمثالا لبعض وأشباهاً بتلك الجهة وبذلك الوصف؛ فدل أن الله - تعالى - ليس يشبه الخلق، ولا له مثال منهم بوجه من الوجوه، ولا له شبه منهم، لا ما يرجع إلى النفس، وهو يتعالى عن جميع معاني الخلق وصفاتهم، ودل قوله - تعالى -: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }: أنه شيء؛ لأنه نفى عن نفسه المثلية ولم ينف الشيئية، لكن يقال: شيء لا كالأشياء ينفى عنه شبه الأشياء، والشيء إثبات، وفي الإثبات توحيد، ولو لم يكن شيئاً لكان يقول: ليس هو شيئاً؛ دل أنه ما ذكر.
وقوله - سبحانه -: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } ذكر في غير موضع، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }، وقال في آية أخرى:
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام: 59] وقوله: { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [المنافقون: 7]، وقوله: { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [يس: 83]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر المفاتيح والمقاليد والخزائن التي أضافها إلى نفسه، ثم لم يفهم الخلق من المفاتيح المضافة والمقاليد والخزائن ما يفهم لو أضيف إلى الخلق؛ بل فهموا من المفاتيح المضافة إلى الخلق والمقاليد المنسوبة إليهم معنى لم يفهموا ذلك المعنى من المفاتيح والمقاليد المضافة إلى الله - تعالى - فما ينبغي أن يفهموه من قوله: { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [يس: 83]، وقوله - تعالى - { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة: 64]، وقوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ } [ص: 75]، ونحو ذلك ما يفهموه من اليد المضافة إلى الخلق، لكنه ذكر المفاتيح والمقاليد وأضافها إلى نفسه، لأن كل محجوب ومستور عن الخلق فيما بينهم إنما توصلهم إلى ذلك المحجوب والمستور عنهم بالمفاتيح والمقاليد التي ذكر؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من اليد وغيرها؛ لما باليد يبسط في الشاهد، وبها يمنع، وبها يكتسب ويفعل ما يفعل؛ فأضاف إلى نفسه ما به يكون في الشاهد من الفعل والبسط والمنع كناية عن هذه الأفعال، والله الموفق.
وقوله: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن الرزق المذكور يحتمل وجوهاً:
أحدها: ما ذكر في قوله - تعالى -:
{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22]، وهو المطر.
والثاني: الأملاك التي يكتسبون.
والثالث: المنافع التي جعل لهم.
ثم الإشكال أن الأملاك التي تكون لهم، والمنافع التي ينتفعون بها وجعلت لهم إنما تكون بأسباب واكتساب منهم، ثم أضاف ذلك إلى نفسه في البسط والتقتير؛ حيث قال { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ }؛ دل أن لله - تعالى - في ذلك صنعاً وتدبيراً، وهو أَنْ خلق أكسابهم وأسبابهم التي بها يوصل إليهم الرزق.
وقوله: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تقدم.