التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ
١٧
يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
١٨
ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
١٩
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
٢٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢١
تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٢٢
ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
٢٣
-الشورى

تأويلات أهل السنة

قوله: { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ } يحتمل قوله: { بِٱلْحَقِّ }: الذي لله عليهم، أو { بِٱلْحَقِّ } الذي لبعضهم على بعض، و{ وَٱلْمِيزَانَ }: بالعدل فيما بينهم؛ أي: بالعدل فيما بينهم، أعني: الخلق.
وجائز أن يكون قوله: { بِٱلْحَقِّ } أي: بالصدق بما فيه من الأنباء والأخبار { وَٱلْمِيزَانَ } أي: بالعدل في الأحكام؛ جعل الميزان كناية عن العدل؛ أي: هو طريق العدل وسببه، وهو كقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [النحل: 90]، وقوله - تعالى -: { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } [النساء: 135]، وقوله - تعالى -: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ } [المائدة: 8] وقوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115]، أي: صدقا فيما فيه من النبأ والخبر، وعدلا في الحكم فيما بينهم، والله أعلم.
ثم قوله - تعالى - { وَٱلْمِيزَانَ } يحتمل أن يكون على الكتاب، وهو الظاهر، والمراد منه العدل؛ فيصير تقدير الآية - والله أعلم -: الله الذي أنزل الكتاب بالحق، وأنزل العدل فيما بين الخلق، أو أنزل العدل في الأحكام.
ويحتمل أن يكون عطفاً على الحق؛ فيصير تقديره: أنزل الكتاب بالحق وبالعدل في الأحكام فيما بينهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -:
{ { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63]، لم يطلع الله - جل وعلا - أحداً [على] العلم بوقت الساعة؛ على ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا }: كان استعجالهم بها استهزاء منهم وتكذيباً لها أنها كائنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوعدهم بها، ويخبر أنها كائنة، فكانوا يستعجلون استعجال تكذيب لها.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ }؛ لأن لأهل الإيمان والتوحيد زلات ومساوئ لم يتبين لهم التجاوز عنها والعفو منها؛ فيكونوا أبداً خائفين مشفقين لتلك الزلات والمساوئ وما يكون فيها من الأهوال والأفزاع، فأمّا أهل الكفر فهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون أنها كائنة؛ فلا يخافونها وما فيها من الأهوال.
وقوله - عز وجل -: { أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }: قوله: { يُمَارُونَ } يحتمل يجادلون ويخاصمون فيها أنها ليست بكائنة.
ويحتمل: { يُمَارُونَ } من المرية، وهو الريب والشك؛ أي: يشكون فيها.
ودل قوله: { لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }: أنهم لا يؤمنون أبداً.
وقوله - عز وجل -: { ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ }: من الناس من قال: إن الآية وإن جاءت مجيئاً عامّاً فهي خاصة للمؤمنين، هو لطيف؛ أي: بار للمؤمنين بها.
ومنهم من يقول: إن الآية للفريقين جميعاً: للكافر والمؤمن، بار بهما، لطيف بهما بما يرزقهم جميعاً: الكافر والمؤمن، فأما في الآخرة فهو رحيم بار بالمؤمنين خاصة.
ويحتمل أن يكون رحيماً بارّاً بالفريقين، أما في حق المؤمنين لا شك أنه بار رحيم بهم، وأما الكفرة: بار في حقهم، حيث أخر عنهم العذاب في الدنيا.
ثم في حق المحنة يجوز أن يوصف بالرحمة في الفريقين جميعاً على ما ذكرنا.
فإن قيل: إنه وصف بالحلم والرحمة، وقد أخبر أنه يعذبهم في الآخرة.
قيل: إنه وإن عذبهم فإن ذلك لا يخرجه عن الحلم والرحمة؛ لأنه لو ترك تعذيبهم يكون سفيهاً؛ لأنهم قد استحقوا بالكفر التعذيب أبداً، وليس في التعذيب خروج عن الرحمة والحلم؛ بل في ترك التعذيب سفه وخروج عن الحكمة؛ لذلك كان ما ذكرنا، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } قد ذكرنا في قوله - تعالى -:
{ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } [الشورى: 12] تأويله ومعناه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه لا يقوى بشيء مما أمرهم به وامتحنهم، ولا يعز بذلك؛ لأنه قوي بذاته، عزيز بنفسه.
والثاني: { ٱلْقَوِيُّ } في الانتقام والانتصار من أعدائه لأوليائه، { ٱلْعَزِيزُ }: الذي لا يعجزه شيء، ولا يلحقه الذل في ترك الطاعة له والائتمار.
وقوله - عز وجل -: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا }: جعل الله - تعالى - الدنيا مزارع لأهلها ما زرعوا فيها حصدوا ذلك في الآخرة، إن زرعوا خيراً حسناً حصدوا خيراً ونعيماً في الآخرة، وإن زرعوا شرّاً وسوءاً، حصدوا في الآخرة شرّاً وعذاباً دائماً.
وكذلك صيّرها متجراً يتجّرون فيها، فإن اتجروا خيراً وحسناً ربحوا في الآخرة، وإن اتجروا شرّاً وسوءاً خسروا في الآخرة.
وكذلك صيرها مسلكاً إلى الآخرة، والآخرة غاية لها، فإن سلكوا سبيل الخير وما أمروا به أفضى بهم ذلك إلى الخير والنعيم الدائم والسرور، وإن سلكوا سبيل الشر وما نهوا عنه أفضى بهم إلى العذاب الدائم والحزن الدائم.
وما ذكر في غير آي من القرآن من قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ... } الآية [التوبة: 111]، وقوله - عز وجل -: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ... } الآية [البقرة: 207]، وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ... } الآية [البقرة: 16-175]، وقوله: { ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ } [البقرة: 86]، وقوله - تعالى -: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ... } الآية [الإسراء: 18]، ونحو ذلك كثير؛ على هذا بنى أمر الدنيا والآخرة، والله أعلم.
ثم قوله - تعالى -: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: من كان يريد حرث الآخرة، نزد له في حرثه، أي: من كان يريد بمحاسنه في الدنيا وخيراته ثواب الآخرة وخيراتها نزد له في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا هو التوفيق على الطاعات، والزيادة له والنماء، وأما في الآخرة فالنعيم الدائم والسرور الدائم.
والثاني: أي: من كان عَمِل للآخرة وسعي لها نزد له ما ذكر من المحاسن، وتكون الإرادة هاهنا صفة لكل فاعل، كقوله:
{ وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء: 19] وهي لا تكون بدون الفعل، فكان ذكرها ذكراً للفعل ضرورة؛ فكان المراد منها الإرادة مع الفعل، فكذلك يخرج قوله: { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } على وجهين:
أحدهما: من كان يريد محاسن الدنيا وسعتها، نؤته منها، ونوسع عليه.
والثاني: { وَمَن كَانَ يُرِيدُ } أي: من عمل للدنيا وسعى لها، نؤته منها وما عمل لها وما له في الآخرة من نصيب.
وقوله - عز وجل -: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } قال بعض أهل التأويل: أم لهم آلهة دوني { شَرَعُواْ لَهُمْ } أي: سنوا لهم { مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ }، يعني بالشركاء: الأصنام التي عبدوها، لكن علموا أن الأصنام لم يشرعوا لهم من الدين شيئاً، إلا أن يقال بأنه أضاف ذلك إلى الأصنام؛ لما هم شرعوا لأنفسهم عبادتها فأضيف إليها لذلك، وهو كقوله - تعالى -:
{ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم: 36] وأنهن لم يضللن أحداً، لكنه أضاف إليهن الإضلال؛ لما بهن ضلوا، فأضاف إليهن على التسبب؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ذلك.
ويشبه أن يكون غيره أولى بذلك، وهو أن القادة والرؤساء هم الذين سنوا للأتباع و{ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ }؛ أي: ما لم يأمر به الله، وهم كذلك كانوا يفعلون، يشرعون للأتباع دينا من ذات أنفسهم بلا حجة ولا برهان، فيتبعون به، والرسل - عليهم السلام - قد أتوهم بالدين بالحجج والبراهين من الله - تعالى - فلم يتبعوهم، فيقولون: إنهم بشر، ثم يتبعون بشراً بلا حجة ولا برهان؛ يذكر سفههم فيما ذكر، فكأن المراد من الشركاء هم الرؤساء والقادة، والله أعلم.
قال أبو عوسجة والقتبي: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } أي: عمل الآخرة، يقال: فلان يحرث للدنيا؛ أي: يعمل لها، ويجمع المال، ومنه قول ابن عمر - رضي الله عنه -: "احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"، ومنه سمّى الرجل: حارثاً. { شَرَعُواْ لَهُمْ } أي: ابتدعوا وسنوا، وكذلك في قوله:
{ شَرَعَ لَكُم } [الشورى: 13] أي: ابتدع وسن.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يحتمل وجهين:
أحدهما: الحكم؛ كأنه يقول: لولا أن الله - تعالى - حكم في هذه الآية بتأخير العذاب إلى يوم القيامة، وهو ما ذكر أنه بعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة لهم بقوله:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107].
والثاني: { ٱلْفَصْلِ }: البيان تأويله: لولا ما وعد في الدنيا أنه يفصل بينهم في الآخرة فيما ذكر:
{ هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } [المرسلات: 38] ونحوه، وقيل: { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ } أي: القضاء السابق: أن الجزاء يوم القيامة - لقضي بينهم في الدين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } ذكر إشفاق الكفرة والظلمة وخوفهم في الآخرة، وإشفاق المؤمنين وخوفهم في الدنيا، فمن خاف عقوبته في الدنيا آمنه الله - تعالى - عن خوف الآخرة، ومن استهزأ بعذاب الله في الدنيا خوفه الله في الآخرة، وعلى ذلك يخرج قوله - عليه السلام -:
"لا يجمع الله على أحد خوفين: خوف الدنيا وخوف الآخرة: من خافه في الدنيا أمن في الآخرة، ومن لم يخف في الدنيا خاف في الآخرة" .
ثم أخبر ما للمؤمنين في الآخرة، وهو قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الشورى: 22] ذكر ما لكل فريق بما كسبوا في الدنيا والآخرة.
قال القتبي وأبو عوسجة: الروضة: البستان.
وقال الكسائي: الروضة: العشب حول القَرِيِّ.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } أخبر أن ما يعطى لهم من الآخرة والفضل منه، لا أنهم يستوجبون ذلك، وسماه: كبيراً؛ لأنه دائم لا ينقطع أبداً.
وقوله: { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }:
قوله: { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ } أي: الذي ذكر من الفضل الكبير، ووعد أنه يعطيهم، يبشر الله - تعالى - به من ذكر: { عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }، والله أعلم.
وقوله: { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } قال بعض أهل التأويل:
"قالت الأنصار: إنا فعلنا، وفعلنا كذا؛ فكأنهم افتخروا، وقالوا: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال: يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله تعالى؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله تعالى؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أفلا تجيبونني؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذبوك فصدقناك؟ أولم يخذلوك فنصرناك؟ قال: فما زال يقول حتى جثوا للركب بين يديه، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لرسول الله، والفضل لرسوله؛ فنزل قوله - تعالى -: { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }" لكن ذكر في الخبر ما لا يليق ذلك بالأنصار أن يظنوا ذلك برسول الله، وكذلك ما ذكر من فخرهم وقولهم: "لنا الفضل عليكم" هذا لا يحتمل منهم؛ فدل أن الحديث غير صحيح، أو الزيادة التي لا تحتمل، والله أعلم.
وفي بعض الأخبار: أن الأنصار - رضي الله عنهم - قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنوبه النوائب من القرابة وغيرهم، فتعالوا حتى نجمع له شيئاً من أموالنا، فيستعين على من ينوبه من الحقوق، ففعلوا، ثم أتوا به، فقالوا: إنك قد تنوبك نوائب وحقوق، وليس عندك لها سعة، فأتيناك بشيء تستعين به على ما ينوبك من النفقة في أهلك والنازلين بك، فنزل قوله: { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } [وهو يخرج] على وجوه:
أحدها: يقول: لا أسألكم على ما أبلغكم من الرسالة، وأدعوكم إلى الإيمان بالله - تعالى - وبي أجرا إلا صلة أرحامكم وقرابتكم؛ أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة إليكم و[ما] أدعوكم إليه أجراً، إلا أن تصلوا قراباتكم وأرحامكم؛ فتدل الآية على وجوب صلة الأرحام.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا ردّاً لقول أولئك الكفرة؛ حيث قالوا: إن محمداً جاء يقطع الأرحام ويفرق القرابات، حتى فرق بين [من] أجابه إلى ما دعاه إليه وبين من لم يجبه، من الوالد والولد، والزوج والزوجة، ونحو ذلك؛ فقال عند ذلك: لا أسألكم عليه أجراً، ولا أدعوكم إلى قطع الأرحام والقرابات؛ بل ما أطلب منكم إلا صلة الأرحام بما دعوتكم إليه.
ويحتمل أن يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً، ولا أقبله منكم إن أعطيتموني، إلا أن تصلوني بحق القرابة والرحم التي بيني وبينكم فأقبله منكم، وقد كان بينه وبينهم قرابات ورحم.
ويحتمل ما قال الحسن فقال: والله ما كان نبي الله - تعالى - يسأل عن هذا القرآن أجراً، ولكنه أمر أن يتقربوا إلى الله تعالى بطاعته وحبّ كتابه، فكان معنى الآية: { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }، أي: إلا التقرب إلى الله - تعالى - والتودد بالعمل الصالح.
وقال بعضهم: { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } إلا أن تودوني لأجل قرابتي كما تودون لقرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الذي جئت به يقطع ذلك عنّي، ولست أبتغي على الذي جئت به أجراً آخذه منكم على ذلك.
وقال قتادة: إن الله - تعالى - أمر محمداً صلى الله عليه وسلم ألا يسأل على هذا القرآن والتبليغ أجراً: { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة، وكل بطون قريش بينه وبينهم قرابة.
وقال بعضهم: إلا أن تودّوا قرابتي.
وقال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن لم تتبعوني إلى ما أدعوكم إليه وآمركم به فاحفظوني في قرابتي" وأصله ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } هو كقوله - تعالى -: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ }، والله أعلم.
قال أبو عوسجة: الاقتراف: الاكتساب، والمقارفة: المعاشرة، وقرف فلان فهو مقروف؛ أي: اتهم بشيء.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }، قوله: { غَفُورٌ } أي: يغفر لهم وإن لم يحققوا التوبة والرجوع سرّاً وعلانية، ولم يستوجبوا الغفران والعفو.
وقوله: { شَكُورٌ } أي: يشكر ويقبل منهم الشكر وإن لم يحققوا له الشكر، ولم يستحقوا قبوله، فضلا منه ونعمة، والله أعلم.
وقال أهل التأويل: { غَفُورٌ } للذنوب، { شَكُورٌ } للحسنات يضاعفها، والله أعلم.