التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ
٤٤
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ
٤٥
وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
٤٦
ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ
٤٧
فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ
٤٨
-الشورى

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } أي: من أضله الله لما آثر ولاية الشيطان، ولا وليّ له سواه بعده يرشده، أو لا ولي ينفعه من بعده، وهو كما قال: { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [النحل: 100] أخبر أن سلطان الشيطان على من يتولاه.
وقوله - عز وجل -: { وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } قال أهل التأويل: أي: هل إلى رجوع الدنيا من سبيل، يقولون: يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا.
والأشبه أن يكون سؤالهم الرجوع إلى المحنة التي امتحنوا في الدنيا قبل موتهم؛ أي: سألوا أن يكلفهم ويمتحنهم في الآخرة؛ ليظهروا الطاعة لله - تعالى - في أوامره ونواهيه، والله أعلم.
وقوله: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } قال أهل التأويل: يعرضون على النار قبل أن يدخلوها؛ كقوله - تعالى -:
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [الفرقان: 12] وكقوله - تعالى -: { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ... } [الفجر: 23].
وقوله - عز وجل -: { خَاشِعِينَ } من الذل؛ لأن الله - تعالى - أذلهم في الآخرة بما اختاروا في الدنيا من سوء صنيعهم، وأعطوا أنفسهم شهواتهم ومناهم.
وقوله - عز وجل -: { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } يحتمل ما ذكر من نظرهم من طرف خفي ما ذكر في آية أخرى:
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [إبراهيم: 43]؛ هو لشدة هولهم وفزعهم في ذلك اليوم لا يرفعون رءوسهم، ولا ينظرون إلى موضعٌ.
ويحتمل أن يكون قوله: { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } أي: لا ينظرون إلى الناس، ولا يقبلون بوجوههم إليهم إلا نظر التلصص والتغفل؛ حياء منهم؛ لسوء فعالهم، وهكذا المعروف في الناس؛ لأن من صنع إلى آخر سوءاً لا يتهيأ له رفع الطرف إليه ونظره إليه متصلا إلا على التلصص منه والتغفل؛ فعلى ذلك أولئك، والله أعلم.
وقال بعض أهل التأويل: إنهم يحشرون عمياً؛ فلا يرون بأعينهم، إنما يرون بقلوبهم، وهو الطرف الخفي.
وقال القتبي: { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ }، أي: قد غضوا أبصارهم من الذل.
وقال أبو عوسجة: أي: ينظرون نظراً مستقيماً، والله أعلم.
وقوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ... }، الآية.
يخرج ما ذكر من خسران أنفسهم وأهليهم على وجوه:
أحدها: ما ذكر بقوله - تعالى -:
{ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] أمروا بأن يقوا أنفسهم وأهليهم النار، فهم حيث لم يقوا ما ذكر من الأنفس والأهل خسروا، والله أعلم.
والثاني: قوله: { خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } أي: خسروا بسبب أنفسهم، وبسبب أهليهم؛ كقوله - تعالى -:
{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15]؛ لما يعملون أموراً بسبب الأموال والأولاد والأزواج، هي فتنة لهم، وكقوله: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } [التغابن: 14] فقد يخسر الرجل ويصير مؤاخذاً بسبب هؤلاء.
والثالث: يحتمل أن يكون خسرانهم أنفسهم وأهليهم ما قالوا:
{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36]، وقوله: { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50] خسر ما كان رجاه وطمع أن له عند ربه في الآخرة للحسنى.
على هذه الوجوه الثلاثة يخرج تأويل الآية.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ليس من أحد من كافر ومسلم إلا وله أهل ومنزل في الجنة، فإن أطاع الله - تعالى - أتى منزله وأهله، وإن عصاه خسر نفسه وأهله، ومنزله في الجنة وورثه المؤمنون عنه.
لكن لا يحتمل أن يكون لله - عز وجل - مع علمه أنه يموت كافراً أن يجعل له الأهل والمنزل في الجنة، اللهم إلا أن يفعل ذلك ليكون لهم حسرة على ذلك وغيظاً.
وقوله: { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: ما كان للأصنام التي عبدوها دون الله تعالى ولاية النصر لهم وقدرة دفع العذاب عنهم؛ لأنهم كانوا يعبدونها في الدنيا رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وأن تزلفهم، فأخبر الله - تعالى - أن ليس لها ولاية النصر لهم؛ على ما رجوا وطمعوا من عبادتها الشفاعة لهم والدفع عنهم، والله أعلم.
والثاني: { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي: ما كان للرؤساء الذين اتخذوهم في الدنيا أرباباً ولايةُ النصر لهم؛ لأنهم لا يملكون دفع ذلك عن أنفسهم، فكيف يملكون دفع ما نزل بأتباعهم؛ يخبر أن ليس لهم ولاية دفع العذاب عنهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } يحتمل قوله: { فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } أي: من حجة، أي: من أضله الله، فلا حجة له أن يقول: إنك أضللتني؛ لأنه إنما يضله لما يختاره ويؤثره.
والأصل: لا أحد يفعل من المعاصي وقت فعله لأن الله تعالى قضى له ذلك أو أراده، أو قدره وقضاه؛ إنما يفعله لغرض له وهواه؛ فلم يكن له الاحتجاج عليه بذلك، وبالله العصمة.
والثاني: أنه ليس له حجة عليه بذلك؛ لأنه يعلم أنه لو خيّر بين ما يريد أن يختاره ويؤثره وبين ضدّ ذلك، لكان يختار ذلك على ضده، ويختار تحصيله، ويؤثره على ترك ذلك، فكيف يكون له حجة بذلك؟ والله الموفق.
ويحتمل قوله: { فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } أي: من أضله الله - تعالى - فما له إلى الهدى من سبيل أي: ليس له سبيل، ولكن عليه السبيل؛ أي: لا يملك أحد إرشاده.
ويحتمل: أي: من أضله الله فما له من سبيل؛ أي: ليس له سبيل، ولكن عليه السبيل.
وقوله - عز وجل -: { ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ } أي: أجيبوا له، وقد ذكرناه.
وقوله - عز وجل -: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ... } الآية.
هذا يخرج من وجهين:
أحدهما: أي: أجيبوا له من قبل أن يأتي يوم لا يملك أحد ردّ ذلك اليوم إذا أتاهم؛ لأنه هو اليوم الذي يجزي فيه الخلائق، وفيه أهوال وأفزاع؛ يقول: لا أحد يملك ردّ ذلك اليوم؛ والله أعلم.
والثاني: أي: أجيبوا من قبل أن يأتي يوم لا مردّ لما ينزل فيه بهم من العذاب والعقاب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ } هذا - أيضاً - يخرج على وجهين:
أحدهما: أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا؛ لتكون لهم شفعاء، وملجأ يلتجئون إليها؛ يقول: ما لكم [من] أولئك الأصنام ملجأ تلتجئون إليها بل تكونون كما ذكر في آية أخرى:
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 24] وقوله - تعالى -: { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ... } الآية [الأحقاف: 28]، والله أعلم.
والثاني: { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ } أي: ما لهم من حيل يحتالون بها دفع ما نزل بهم من العذاب، على ما يكون في الدنيا من حيل يحتالون [بها] دفع ما نزل بهم من البلاء والشدائد، وبالله النجاة.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ }.
هذا - أيضاً - يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: لا يملكون أن ينكروا على الله - تعالى - ما يفعل بهم؛ لأنه إنما يفعل بهم ذلك بما كسبت أيديهم؛ فلا يقدرون على إنكار ذلك على الله تعالى.
والثاني: { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } أي: ما لكم من تغيير؛ أي: ما يملكون دفع ذلك عن أنفسهم، ولا منعه وتغييره.
وقيل: لا يملكون أن يمنعوا الله - تعالى - عما يريد أن يفعل بهم، وهو ما ذكرنا.
وقوله - تعالى -: { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } أي: إن تولوا عن إجابتك إلى ما تدعوهم إليه { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يحتمل: أي: فما أرسلناك لأنْ تحفظ عليهم أفعالهم وأعمالهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } أي: ما عليك إلا التبليغ، إنما حفظ أعمالهم وأفعالهم على الملائكة الذين جعلوا حفاظاً عليهم، وهم الكرام الكاتبون.
والثاني: { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } يحتمل: فما أرسلناك لأنْ تمنعهم عما يفعلون حسّاً، إنما عليك البلاغ فحسب وبيان الحق، وأنت غير مؤاخذ بما يفعلون، وهو كقوله:
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54] ونحو ذلك.
وقوله: { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } إن كان هذا في المسلم فيكون قوله: { فَرِحَ بِهَا } أي: رضي بها، وسر بها، وإن كان في الكافر فيكون له فرح بها؛ أي: بطر بها وأشر.
وقوله: { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } وهذا - أيضاً - إن كان في المسلم فإنه إذا أصابه شدّة أو بلاء ينسى ما كان إليه من الله - تعالى - من النعمى، فجعل يشكو مما أصابه، فهو كفور للنعم التي كانت له من قبل ذلك.
وإن كان في الكافر فهو ظاهر أنه كفور لنعمه وإحسانه أجمع، والله أعلم.