التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
عۤسۤقۤ
٢
كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ
٤
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥
-الشورى

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { حـمۤ * عۤسۤقۤ }.
قال بعضهم: { حـمۤ } هو اسم من أسماء الله تعالى.
وقيل: هو اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضهم: { حـمۤ } أي: قضى ما هو كائن. وقد ضعف هذا القول ابن عباس، رضي الله عنه.
والصحيح من الأقوال: أن "حم" خبر مبتدأ محذوف، و"تنزيل الكتاب" خبره { مِنَ ٱللَّهِ } صفة الكتاب، والتقدير: هذا حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم.
وقال بعضهم في { حـمۤ * عۤسۤقۤ }: عين عبارة عن عذابه، والسين عن المسخ، والقاف كناية عن القذف، يقول صاحب هذا القول: يخرج عين من الأرض فيها عذاب، ويمسخ رجل من هذه الأمة بالبادية فيقذفه الناس بالحجارة، والله أعلم.
وقال بعضهم - وهو قول ابن عباس -: { حـم * سق } على إسقاط حرف العين، ثم يقول: السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون.
وذُكِرَ: كان يعلم علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - حساب العين، وكذلك ذكر في ابن مسعود وأبي - رضي الله عنهما - و{ حـم * سق } على طرح العين.
وقال بعضهم: العين عبارة عن العذاب، والسين عبارة عن سيكون، والقاف عبارة عن الوقوع، أي: قضى ما سيكون ذلك، والله أعلم. وذكر عن جعفر من محمد بن علي - رضي الله عنهم - قال: العين عبارة عن العذاب، والسين عبارة عن سيكون، ولم يفسر القاف وقال: عجب أو كلام نحوه، والله أعلم.
وقال بعضهم: العين عبارة عن علمه، والسين السلام، والقاف عبارة عن القدرة، وكذا محتمل.
وجائز أن يكون كل حرف من هذه الحروف المقطعة عبارة عن صفة من صفاته أو اسم من أسمائه، على عادة العرب بالاكتفاء عن حرفٍ عبارة عن جميع الكلمة: فالحاء عبارة عن حلمه وحكمته وحكمه، والميم عبارة عن ملكه ومجده، والعين عبارة عن علمه، والسين عبارة عن سنائه وسؤدده، والقاف عبارة عن قدرته وقوته يكون كل حرف من هذه الحروف عبارة عن اسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وعبارة عن حكم من أحكامه، وهذا الذي ذكرنا كله على الإمكان والاحتمال لا يسع أن يحقق فيه التفسير أنه كذا، وأنه أراد كذا؛ لأنه من المتشابه، وأنه من السر الذي لم يطلع الله - تعالى - عليه أحداً إلا رسله، عليهم الصلاة والسلام.
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ }، أي: كما أوحى إليك فقد أوحى إلى الذين من قبلك مثله.
ثم اختلف في قوله: { كَذَلِكَ } قال بعضهم: أي: كما أوحينا إليك بسورة { حـمۤ * عۤسۤقۤ } أوحينا بها إلى الذين من قبلك.
وقال بعضهم: أي: كما أوحينا إليك بهذه الحروف، يعني: { حـمۤ * عۤسۤقۤ } بعينها فقد أوحينا بعين هذه الحروف إلى الذين من قبلك، وهي { حـمۤ * عۤسۤقۤ }.
وقال بعضهم: كما أوحينا إليك { حـمۤ * عۤسۤقۤ } أوحينا إلى الذين من قبلك من الرسل بمعنى ذلك.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ليس نبي إلا وقد أوحي إليه بـ { حـمۤ * عۤسۤقۤ } كما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على ما ذكرنا.
وقوله: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
يخرج ذكر هذا في هذا الموضع على وجوه:
أي: له ما في السماوات وما في الأرض شهود على ألوهيته ووحدانيته.
والثاني: أن ما في السماوات والأرض وما فيها له دلالات وحدانيته وربوبيته.
والثالث: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }، أي: كلهم عبيده وملكه؛ فلا يحتمل أن يتخذ من ملكه وعبيده ما ذكروا من: الولد، والشريك، والصاحبة، وما قالوا؛ إذ لا أحد يتخذ من عبيده ومن ملكه ما ذكروا: من الولد، والشريك، والصاحبة؛ فعلى ذلك يتعالى الله عن أن يكون له في ملكه ما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ }.
العلوّ والعظمة - في الشاهد - يكون من وجوه ثلاثة:
أحدها: العلو عبارة عن القهر والغلبة؛ يقال: فلان عال؛ أي: غالب وقاهر.
والعظمة عبارة عن القدر، والمنزلة، ونفاذ الأمر.
والثاني: يكون العلو عبارة عن الكبرياء، والسؤدد، وكذلك العظمة.
والثالث: العلو يكون عبارة عن الارتفاع في المكان، والعظمة: عظمة في البدن والنفس، وهذا مما لا يكون فيه كثرة منقبة وقدر، ولا شيء من ذلك، ولا يزيد ذلك في صاحبه رفعة ولا مرتبة ، والله يتعالى عن الوصف بهذا، فإنما رجع الوصف له بالعلوّ والعظمة إلى الوجهين الأوّلين، والسلطان، والقدرة، ونفاذ الأمر والمشيئة والكبرياء، والغلبة. فأمّا ما رجع إلى الارتفاع في الأمكنة، والعظمة في البدن - فهو صفة المخلوق، وهم الموصوفون بذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
وقوله: { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ }.
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: تكاد يتفطرن لذنوب أهل الأرض، وفسادهم، وعظيم ما قالت الملاحدة في الله من الولد، والشريك، والصاحبة، كادت تنشق لذلك وتتساقط، كقوله في آية أخرى:
{ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [مريم: 90-91]، بين في هذه الآية أنها كادت تنفطر وتنشق لماذا؛ وهو دعواهم للرحمن ولدا؛ فلذلك يحتمل - هاهنا - هذا المعنى، والله أعلم.
والثاني: كادت تنشق لبكاء أهلها عليها، وإشفاقاً ورحمة على أهل الأرض.
ويحتمل: تكاد تنشق لعظمة الربّ، وجلاله، وعظم سلطانه؛ كقوله - تعالى -:
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر: 21].
أخبر أنه لو جعل في الجبال والأرض والسماء من المعنى والتمييز ما جعل في البشر، لكانت هذه الأشياء بالوصف الذي ذكر من الخضوع لربّها، وهو كما ذكر في آية أخرى:
{ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74] يخبر عن شدّة خضوع هذه الأشياء وخشوعها لربّها وتذللها له، وعناد الكفرة واستكبارهم، وقلة خضوعهم لربّهم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ }؛ لكثرة أهلها وازدحامهم فيها، وعبادتهم لربهم، على ما ذكر في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم فيها إلا وملك فيها: ساجد، أو راكع، أو قائم، يسبّح الله - تعالى - ويصلي له" ، والله أعلم.
وقوله: { وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ }.
هذا يدل على أنّ ما ذكر من تفطر السماء؛ لعظم ما يقوله الملاحدة فيه من الشريك، والولد، والصاحبة، حيث قال على إثره: { وَٱلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ }، أي: الملائكة ينزهونه ويبرئونه عما يقولون فيه، ويثنون عليه بالثناء الذي يليق به، ويصفونه بما هو أهله، والله أعلم.
وقوله: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } امتحنهم - جل وعلا - بالتسبيح، والثناء له، والاستغفار لأهل الأرض، على ما ذكر.
ثم قال بعضهم: إن قوله: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } منسوخ بقوله - تعالى -:
{ فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ } [غافر: 7]؛ لأنّ الأول عام لجميع أهل الأرض، والثاني خاص، لكن هذا بعيد، ومحال أن يستغفر الملائكة، ويطلبون التجاوز من ربهم لمن يقول له بالشريك والولد والصاحبة، وإذا كان كذلك كان استغفارهم يرجع إلى المؤمنين خاصة؛ على ما ذكر في آية أخرى: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [غافر: 7]، وبقوله: { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر: 7]؛ فكان المراد من العام: هو الخاص؛ لأنّ المراد منه العموم، ثم صار منسوخاً بورود الخاص متراخياً، والله أعلم.
ثم إن كان استغفارهم لجملة أهل الأرض - على ما يقولون - فهو عبارة عن طلب السبب الذي به تقع لهم المغفرة؛ وهو التوبة عن الشرك والتوحيد؛ فيكون هذا سؤال التوحيد والهداية لهم؛ لتقع المغفرة لهم بذلك والتجاوز؛ ويصيروا لذلك، وعلى ذلك يخرج استغفار إبراهيم - عليه السلام - لأبيه أنه سؤال وطلب السبب الذي به تقع المغفرة له، وأن يجعله أهلا لذلك، وكذلك أمر الرسل - عليهم السلام - قومهم بالاستغفار لهم، وهو ما قال هود - عليه السلام - و
{ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } [هود: 52]، وقول نوح: { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [نوح: 10] لا يحتمل أن يقولوا لهم: قولوا: نستغفر الله، ولكن يقولون لهم: اطلبوا، واسألوا ربكم السبب الذي به تقع المغفرة لكم؛ وهو التوبة عما هم فيه، واختيار الهداية والرشد لأنفسهم؛ ليكونوا لذلك أهلا، فعلى ذلك يخرج استغفار الملائكة إن كان لجملة أهل الأرض، على ما يقول بعض أهل التأويل، وعلى هذا لا حاجة إلى النسخ ولا يحتمله.