التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٣
وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
٤
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ
٥
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ
٦
وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٧
فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ
٨
-الزخرف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ }.
قال قتادة: هو اسم السورة.
وقال غيره: { حـمۤ } قضى ما هو كائن، وقد ذكرناه.
وقوله: { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ }.
قال قتادة مبين بركته وهداه ورشده.
وقال بعضهم: مبين بين الحلال والحرام، [و]ما يؤتى وما يتقى.
وقال بعضهم: مبين بين الحق والباطل.
وهو عندنا مبين بأنه من الله - تعالى - ليس هو من تأليف البشر، ولا من توليدهم، ولكنه من الله تعالى حيث عجزوا عن إتيان مثله، والله الموفق.
وقوله: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }، كأنه يقول: جعلنا ذلك الكتاب عربيّاً لعلكم تعقلون.
وقيل: { جَعَلْنَاهُ } أي: أنزلناه قرآناً عربيّاً.
قيل: { جَعَلْنَاهُ قُرْآناً } أي: سميناه قرآنا، ليس أن جعله قرآنا، ولكن معناه: جعلناه عربيّاً، أي: نظمناه بالعربية؛ لتعقلوا، أو سميناه: قرآنا.
ثم قوله - تعالى -: { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يخرج على وجوه:
أحدها: أي: أنزلناه عربيّاً على رجاء أن تعقلوا.
والثاني: أنزلناه عربيّاً لتعقلوا، وذلك يرجع إلى قوم مخصوصين قد عقلوه وفهموه؛ إذ لم يعقلوه جميعاً، ولا يتصور أن ينزله ليعقلوه ولا يعقلوه، فإن ما أراد الله - تعالى - [يكون] لا محالة، وما فعل ينفعل؛ قال الله - تعالى -:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40].
والثالث: أنزلناه عربيّاً لكي يلزمهم أن يعقلوه ويتبعوه؛ ليزول عذرهم والاحتجاج على الله - تعالى - أنه كان على غير لساننا، والله أعلم.
وعلى هذا يخرج تأويل "لعل" في جميع القرآن أنه للتحقيق إذا كان من الله تعالى.
فإن قيل: فعلى التأويل الأخير، كيف يخرج قوله:
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة: 189] لا يستقيم أن يقال: لكي يلزمكم أن تفلحوا؟
قيل: معناه: لكي يلزمكم السبب الذي به تفلحون، وهو مباشرة الإيمان والطاعات، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }.
قوله: { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ } يرجع إلى وجهين:
أحدهما: أي: القرآن في أصل الكتاب، وبه أقول، وهو اللوح المحفوظ، وأم الشيء: أصله ويسمى أم القرى مكة؛ لهذا.
والثاني: أي: القرآن في الكتب المتقدمة، فإن الأمهات سميت: أمهات؛ لتقدمها على الولد، وهو كقوله:
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء: 196]، وقوله - تعالى -: { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 18-19].
وقوله - عز وجل -: { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }.
قال ابن عباس: أي: هو أعلى الكتب وأحكمها وأعدلها.
وقال بعضهم: وصف كتابه بالعظمة والمنزلة والشرف عنده.
وقوله: { حَكِيمٌ } يحتمل وجهين:
أحدهما: حكيم بمعنى: محكم؛ كقوله - تعالى -:
{ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [هود: 1] أي: بالحجج والبراهين.
والثاني: سماه: حكيماً؛ لما جعل فيه من الحكمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } اختلف في الذكر:
قال بعضهم: القرآن.
وقال بعضهم: الرسول.
وقال بعضهم: العذاب والعقوبة.
واختلف في قوله: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً }:
قال بعضهم: أفنترك ونذر الذكر سدى { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } أي: لأنكم كذا، ولأجل أنكم كذا.
وقال بعضهم: أفنترك الوحي لا نأمركم بشيء، ولا ننهاكم عن شيء، ولا نرسل إليكم رسولا.
وقال بعضهم: { أَفَنَضْرِبُ } أي: أفنذهب عنكم بهذا القرآن سدى، لا تسألون، ولا تعاقبون على تكذيبكم إياه.
وقال بعضهم: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ } أي: فيمسك عنكم فلا يذكركم { صَفْحاً } أي: إعراضاً؛ وهو قول القتبي؛ يقول: صفحت عن فلان: أي: أعرضت عنه، وأصل ذلك أنك توليه صفحتك، يقال ضربت وأضربت عن فلان: أي: أمسكته.
وقال أبو عوسجة: { أَفَنَضْرِبُ } أي: مسكت؛ ضربت وأضربت، أي: مسكت.
وقوله: { صَفْحاً } أي: ردّاً؛ يقال: سألني فلان حاجة فصفحته صفحاً؛ أي: رددته، والله أعلم.
وبعضه قريب من بعض.
ثم الأصل عندنا أن الذكر يحتمل ما قالوا فيه من المعاني الثلاثة: القرآن، والرسول، والعذاب؛ لكن لا يحتمل قوله: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } أن يخرج على الابتداء على غير تقدم النوازل؛ لأنه لا يبتدأ بمثله.
ثم النوازل يحتمل أن كان منهم قول يقولون: يا محمد، لو كان ما تقوله أنت: إنه من عند الله وإنك رسوله، فكيف أنزل الكتاب أو أرسل الرسول إلينا على علم منه أنا نكذبه ونرده ولا نقبله، ومن علم من الملوك في الشاهد أنه يكذب رسوله ولا يقبل، لا يبعث الرسول، فكيف بعثك رسولا إلينا، أو أنزله عليك، أو بعثك رسولا فكذبناه وكذبناك، ورددناه ورددناك، فلا يرفعه ويرفعك دون تركه فينا؟ فيقول الله - تبارك وتعالى - جواباً لهم وردّاً لقولهم: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } يقول: إنا لا نترككم سدى وإن علمنا منكم التكذيب والرد للرسول والوحي، ولا يمنعنا ذلك عن إنزاله إليكم، وتركه فيكم، ولا يحملنا ذلك على رفعه من بينكم؛ بل نأمركم وننهاكم وإن كنتم تكذبونه ولا تقبلونه؛ وهذا لما ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من الله - تعالى - يخرج على الإيجاب والتحقيق.
وقوله: { أَفَنَضْرِبُ } أي: لا نترك إنزاله وإرساله وإن علمنا منكم التكذيب، وهو كقوله - تعالى :
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [المؤمنون: 115]، وقوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36]، أي: لا يترك سدى، ولا تحسبون أنا إنما خلقناكم عبثاً، فعلى ذلك قوله: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } فإن كان الذكر هو القرآن أو الرسول، فالتأويل: أنه وإن علم منكم الردّ والتكذيب، فلا يمنعه ذلك عن إنزاله عليكم، وبعثه رسولا إليكم، و[إن] أنكرتم وإن كذبتموه ورددتموه فلا يحمله ذلك على رفعه من بينكم بشرككم وكفركم، وهو كما ذكر في قوله: { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }، أي: إنا وإن علمنا من أوائلكم التكذيب للرسل والكتاب، فلا يمنعنا ذلك عن إنزاله عليكم وبعثه إليكم؛ فعلى ذلك أنتم وإن علمنا منكم تكذيب الرسول وكتابه، لا يمنعنا ذلك عن إرساله وإنزاله؛ ليلزمكم الحجة، أو لعل فيكم من يصدقه ويؤمن به، أو غيركم يؤمن به ويصدقه وإن كذبتم أنتم.
هذا إن كان تأويل الذكر: رسولا أو كتاباً، وإن كان تأويل الذكر: العذاب، فيصير كأنه يقول: أفنترك تعذيبكم أو نمسك عنه ولا نعاقبكم وأنتم قوم مسرفون، أي: مشركون، على ما ذكر على إثره العذاب؛ حيث قال: { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي: قوة، معناه: عذبناهم بالتكذيب مع شدة بطشهم وقوتهم وأنتم دونهم لا تعذبون؟ بل تعذبون، والله أعلم.
وعن قتادة يقول: لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة، لهلكوا، لكن الله - تعالى - بفضله ورحمته كرره عليهم، ودعاهم إليه كذا كذا سنة وما شاء الله تعالى.
وعن الحسن قال: لم يبعث الله تعالى نبيّاً إلا أنزل عليه كتاباً، فإن قبله قومه وإلا رفع، فذلك قوله: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } لا تقبلونه، فتلقته قلوب بقية، فقالوا: قبلناه ربنا قبلناه، لو لم يفعلوا ذلك رفع، ولم يترك على ظهر الأرض منه شيء.
ثم القراءة العامة { أَن كُنتُمْ } منصوبة الألف بمعنى: إذ كنتم، ويقرأ - أيضاً - { إن كنتم } مكسورة على "إن" الشرط ومعناه: لا نتركه ولا نمسك عن إنزاله وإن كنتم قوماً مسرفين مشركين.
وقوله: { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }: فيه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر بما يعامله قومه؛ حيث ذكر له أن من أرسل من الرسل الذين كانوا قبله عاملهم قومهم من الاستهزاء بهم والأذى لهم مثل معاملة قومك إياك، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت على أذى قومك إياك وسوء معاملتهم، والله أعلم.
وفيه أنه يرسل الرسول وإن علم منهم أنهم يكذبونه، وكذا ينزل الكتاب وإن علم منهم أنهم يردونه ولا يقبلونه؛ لأنه ليس يرسل الرسول ولا ينزل الكتب لمنفعة نفسه، ولا لدفع المضرة عن نفسه، ولكن إنما يرسل وينزل لمنفعتهم، ولدفع المضرة عن أنفسهم، فسواء عليه أن قبلوه أو ردوه، وليس كملوك الأرض إذا أرسلوا رسولا وكتاباً إلى من يعلمون أنهم يكذبون رسلهم ويردون كتابهم، يكونون سفهاء؛ لأنهم إنما يرسلون لحاجة أنفسهم؛ أو لدفع المضرة؛ فحيث لم يحصل غرضهم؛ بل يلحقهم بذلك ضرر وزيادة صدّ له واستخفاف، لم يكن ذلك حكمة، بل يكون سفهاً، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - إذا لم يرسل وينزل لجرّ النفع ودفع الضرر؛ بل لإلزام الحجة وإزالة العذر، ونحو ذلك كان حكمة، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } فيه تحذير أولئك الكفرة أن ينزل بهم بتكذيبهم الرسول، وسوء معاملتهم إياه، كما نزل بأولئك الكفرة المتقدمين بتكذيبهم الرسل، وسوء معاملتهم إياهم، والله أعلم.
وقوله: { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: أهلكنا من كان أشد قوة وبطشاً من هؤلاء، ثم لم يتهيأ لهم الامتناع لشدة قوتهم وبطشهم عما نزل بهم من العذاب، فعلى ذلك لو نزل لهؤلاء لم يتهيأ لهم الامتناع مع ضعفهم.
والثاني: أن يكون قوله: { أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } وصف ذلك العذاب الذي نزل بهم؛ أي: ملك العذاب أشدّ منهم بطشاً؛ فلا يمتنع عمله؛ لبطشهم وقوتهم، أما إذا كان شدة العذاب وبطشه دون بطشهم ربما لا يعمل ولا يؤثر فيه؛ لذلك وصف العذاب بكونه أشد منهم بطشاً، وهو كقوله - تعالى -:
{ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7]، والله أعلم.
وقوله: { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ }، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: صار عذاب الأولين عبرة وعظة ومثلا للمتأخرين، كقوله:
{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 66].
والثاني: { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: مضى عذاب الأولين، وهو عذاب الاستئصال؛ فلا يعذب هذه الأمة بمثل عذابهم؛ لفضل نبينا محمد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - وبركته ورحمته وهو ما قال الله - عز وجل -:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107] بفضله ورحمته أبقى هذه الأمة إلى يوم القيامة، والله أعلم.