التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
٧٤
لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
٧٥
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ
٧٦
وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ
٧٧
لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٨
-الزخرف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }.
الإجرام: هو الكسب في اللغة، والمجرم: الكاسب؛ يرجع ذلك إلى كل كاسب مما جل أو دق، إلا أن الناس عرفوا أن العذاب المذكور للمجرم الخاص وهو الكافر المشرك؛ فلا يجوز صرفه إلى كل كاسب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ }.
يذكر هذا؛ ليعلم أن النار وإن أنضجت جلودهم وأحرقتهم، لا يفتر التألم عنهم بنضج الجلود، بل التوجع والتألم بعد نضج جلودهم واحتراقها على ما كان قبل النضج، والله أعلم.
قال: { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }.
قال بعضهم: المبلس: الآيس.
وقال بعضهم: المبلس: الذليل الخاضع.
وقال الزجاج: المبلس: هو الساكت عن الكلام كمن لا يرجو الفرج من نطقه؛ لأن من يتكلم إنما يتكلم لفرج يرجو من نطقه أو كلام ونحوه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } في التعذيب الذي يعذبون، { وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ }، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث عبدوا من لا يملك دفع العذاب عنهم، وتركوا عبادة من يملك دفع ذلك عنهم، والله أعلم.
ويحتمل: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } في ترك البيان عليهم، أي: لم نترك بيان ما عليهم وما لهم، بل بينا لهم عاقبة السبيلين جميعاً أنه إلى ذلك [و]ذا يفضي عاقبة هذا السبيل، ولكن هم ظلموا أنفسهم حيث اختاروا السبيل الذي أفضاهم إلى ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ }.
كأنهم يقولون: يا مالك، سل ربك ليقض علينا بالموت، يفزعون أولا إلى المؤمنين وهو قولهم:
{ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [الأعراف: 50]، فلما أيسوا من ذلك يفزعون إلى الله تعالى يسألون الرجوع إلى المحنة؛ ليعملوا غير الذي عملوا بقولهم: { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } [فاطر: 37]، فلما أيسوا عن ذلك يفزعون إلى مالك؛ ليسأل ربه؛ ليقضي عليهم بالموت، فقال: { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ }، وهو ما قال - عز وجل -: { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ... } الآية [فاطر: 36].
وقوله - عز وجل -: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ } هذا على أثر ما ذكر؛ كقوله تعالى:
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51] على أثر قوله: { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ... } الآية [غافر: 50].
يحتمل أن يكون القولان جميعاً من الله تعالى، أعني: قوله تعالى: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ }، وقوله - تعالى -:
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51]، والله أعلم.
ويمكن أن يكون العذاب جميعه من الملائكة؛ إذ جائز إضافة الرسل إلى الملائكة؛ إذ هم رسل الناس رسولنا فعل كذا، والله أعلم.
ثم قوله: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ }.
الحق: كل ما يحمد عليه [فاعله] ويحمد هو بما منه ذلك الفعل، والباطل: كل ما يذم عليه فاعله ويذم هو بما منه، والله أعلم.
ثم الحق المذكر يحتمل القرآن، ويحتمل الحق: ما تركوا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما دعاهم إليه، ويقولون: الحق هو الذي عليه آباؤنا { وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }، ثم قال: { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ }، وقال هاهنا: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ } أي: جئناكم بما هو أهدى وأحق مما عليه آباؤكم.
وقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.
فإن قيل: كيف قال: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } وإنما خاطب به أهل النار، وكانوا جميعاً كارهين للحق.
نقول: إنه يخرج على وجهين:
أحدهما: أن أكثرهم قد عرفوا أنه الحق، لكنهم كرهوا اتباعه والانقياد له؛ عناداً منهم ومكابرة بعد ظهور الحق عندهم وتبينه لديهم؛ مخافة ذهاب الرياسة عنهم وزوال مكانتهم ولم يظهر لأقلهم، ولم يعرفوا، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من كراهة أكثرهم للحق بحق الطباع؛ كان في طباع أكثرهم كراهة ذلك الحق، والله أعلم.