التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
٢
مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ
٣
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ
٥
وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
٦
-الأحقاف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ }.
قوله - عز وجل -: { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي: [ما] خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي صار [به] إنشاء ذلك وخلقه حكمة؛ لأنه لو كان الأمر على ما ظن أولئك الكفرة وتوهموا بأن لا بعث ولا جزاء من ثواب وعقاب كان إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وخلق ذلك كله - عبثاً باطلا على ما تقدم ذكره في غير موضع، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } يحتمل { عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } وجوها:
أحدها: أي: بما ألزمهم من النظر والتفكر فيما ذكر من خلق السماوات والأرض، وما أنشأ فيهما من المنافع، وجعل ذلك لهم آية، لم يفعل ذلك كله عبثاً باطلا، ولكن لعاقبة تقصد، ولأمر يراد؛ إذ عرفوا بعقولهم: أنه لا يجوز خلق الخلق على أن يهملوا ويتركوا سدى لا يؤمرون، ولا ينهون، ولا يمتحنون، فأعرضوا عما ألزمهم من النظر والتفكر في ذلك فهم معرضون إعراض ترك النظر والتفكر، والله أعلم.
والثاني: ما أنذروا بما نزل بمن تقدمهم من مكذبي الرسل، عليهم السلام.
والثالث: بما أنذر وأوعد لهم من العذاب في الآخرة، فهم معرضون عن ذلك كله، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يحتمل أن يكون ما ذكر كله موصولا بعضه ببعض.
ويحتمل أن يكون بعضه مفصولا عن بعض.
فإن كان على الوصل، فكأنه يقول: أرأيتم ما تعبدون من دون الله من الأصنام وتدعونها آلهة: هل خلقوا مما لكم من المنافع، ومما به حياتكم وقوامكم ومعاشكم مما يخرج [من] الأرض، أو هل ينزلون لكم من المنافع التي جعلت لكم في السماء من الأمطار وغيرها.
أو هل أتاكم كتاب من عند الله فيه أنه أمركم بعبادة من تعبدونه { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } هو يخرج على وجهين:
أحدهما: أو جاءكم من الحكماء الأولين المتقدمين كتاب أو قول فيه الأمر بذلك، واستخرجتم من العلوم ذلك؛ ففعلتم به؟ يقول - والله أعلم -: إن الأسباب التي تحمل الناس على العبادة والخدمة لهم هذه الوجوه: إما منافع تتصل بهم منهم مما به قوامهم ومعاشهم وحياتهم وإما كتاب من الله - تعالى - فيه حجة لهم، وأمر لهم في ذلك، أو كتاب من الحكماء والرسل يأمرون لهم، وهم قوم لا يؤمنون بالرسل، ولا بالكتاب، وليست لهم علوم مستخرجة من العلوم، يقول: ليس لكم [شيء] مما ذكر من الأسباب والعلوم فبم عبدتموها؟ وكيف اخترتم عبادتها على عبادة من عرفتم أن ما به قوامكم وحياتكم منه؟! والله أعلم.
وإن كان مفصولا من بعض فيكون كأنه يقول: { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } من المنافع وغيرها، { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ } فيما ذكر؟ فإن قالوا: قد خلقوا ما ذكر، ولهم شرك فيما ذكر، فقل لهم { ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ } من كتاب الحكماء أو العلوم المستخرجة من العلوم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أنهم خلقوا ما ذكرتم، أو لهم شرك فيما ذكر - والله أعلم - وقد علموا أنهم لا يقدرون أن يرونه ما ذكر؛ لما لم يكن لهم من هذه الأسباب شيء؛ إذ هي أسباب العلم، وقد عجزوا عن ذلك كله.
ثم قوله - عز وجل -: { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } قال بعضهم: أو خاصة من علم.
وقال بعضهم: أو بقية من علم أوائلهم؛ وهو قول القتبي؛ أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين، ويقرأ { أثرة } و{ إثارة }، وأصله ما ذكرنا من الوجهين:
أحدهما: كتاب الحكماء والرسل.
والثاني: العلوم المستخرجة من سائر العلوم.
وقال بعضهم: { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } هو الخط؛ وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كان نبي من الأنبياء - عليهم السلام - يخط، فمن صادف مثل خطه علم" .
وقال أبو عوسجة: { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أي: قديم من علم، قال: ذا الأثارة: الشحم القديم.
وقيل: { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أي: رواية عن الأنبياء عليهم السلام.
ثم ذكر سفههم وبين نهاية تعنتهم، وهو قوله - عز وجل -:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }؛ لأنه لا يملك إجابته ولا يحتمل ذلك.
والثاني: لا يستجيب له إلى يوم القيامة، ثم إذا جاء به يوم القيامة أجابه باللعن والتبري، كقوله - تعالى -:
{ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25]، وقوله - عز وجل -: { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } [البقرة: 166]، وقوله - تعالى -: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } [يونس: 28]، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر تبرى بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } لم يكن منهم لهم أمر بذلك ولا دعاء ولا شيء من ذلك، كقوله - تعالى -:
{ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [يونس: 29].
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } هو ما ذكرنا أنه يصير بعضهم لبعض أعداء يتبرءون منهم، ويلعنونهم، ويكفرون بعبادتهم.