التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
٢٩
وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
٣٠
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ
٣١
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
٣٢
-محمد

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } أي: حسب المنافقون أن لن يظهر الله عداوتهم، وأن لن يبدي الله ما في قلوبهم من العداوة؛ جعل الله - جل وعلا - في إظهار ما أسر أهل النفاق وإبداء ما أخفوه فيما بينهم - آية عظيمة، ودلالة ظاهرة على رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } كأنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولو نشاء لأريناكهم بسيماهم بالنظر إليهم بالبديهة، ولتعرفنهم - أيضاً - في لحن القول؛ أي: لو نشاء لجعلنا لهم أعلاماً في الوجه والقول لتعرفنهم، ولكن لم نجعل لهم، ولكن جعل معرفتهم بأعمال يعملون فيظهر نفاقهم بذلك - والله أعلم - كقوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } [البقرة: 204]، وقال في آية أخرى: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [المنافقون: 4]، وقوله: { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ... } الآية [محمد: 20]، وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [التوبة: 54]، وقوله: { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } [التوبة: 45]، ونحو ذلك من الآيات مما كان يظهر نفاقهم وخلافهم بالأعمال التي كانوا يعملون؛ فدلت هذه الآيات على أنه كان لا يعرفهم بالسيماء والنطق والقول والأجسام، وإنما يعرفهم بأفعال كانوا يفعلونها، والله أعلم.
وقال بعضهم: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أي: فحوى الكلام، فكان يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلموا؛ فيخرج على هذا التأويل.
وقوله: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } على الوعد؛ أي: تعرفهم في حادث الوقت، والله أعلم.
وقال أبو عوسجة: يقال: رجل ألحن بحججه، ويقال: لحن يلحن - إذا أخطأ - لحناً، فهو لاحن؛ كأنه من العدول والميل عن الحق.
وقال القتبي: { فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أي: في فحوى كلامهم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: والله يعلم ما تسرون من الأعمال وتخفونها.
والثاني: على الجملة؛ أي: يعلم جميع أعمالهم: ما أسروا وأعلنوا؛ يخرج على الوعيد، كقوله:
{ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود: 112]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ }، هذا يخرج على وجوه:
أحدها: أي: حتى يعلم أولياؤه المجاهدين منكم والصابرين من غير المجاهدين وغير الصابرين، فيكون المراد من إضافة العلم إلى نفسه علم أوليائه؛ كقوله - تعالى -:
{ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [محمد: 7]، وقوله - عز وجل -: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، ونحوه، فالمراد منه أولياؤه على أحد التأويلات، والله أعلم.
والثاني: يكون المراد بالعلم: المعلوم، وذلك جائز في اللسان واللغة؛ كقول الناس: الصلاة أمر الله: أي: مأمور الله، وكقوله - عز وجل -:
{ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر: 99] أي: الموقن به، وقوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ } [المائدة: 5] أي: بالمؤمن به، ونحو ذلك كثير.
والثالث: أي: يعلم كائناً ما قد علمه أنه سيكون؛ إذ لا يجوز أن يوصف هو بعلم ما سيكون بعلمه كائناً، أو بعلم ما قد كان بعلمه أنه يكون كائناً، ولكن يوصف بما قد علمه كائناً أنه علمه كائناً، أو يعلم ما علم أنه سيكون أنه يكون؛ لأنه يوجب الجهل، ويكون التغير في ذلك المعلوم لا في علمه، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } أي: ونبلو في أخباركم التي أخبرتم عن أنفسكم؛ كقوله:
{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ } [التوبة: 74] وقوله - عز وجل -: { مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ... } [التوبة: 75] إلى آخر ما ذكر، ابتلوا في تلك الأخبار التي أخبروا عن أنفسهم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكونوا ابتلوا في قولهم الذي قالوا لو أعطوا بلسانهم؛ حيث قالوا: آمنا؛ كقوله - تعالى -:
{ الۤـمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 1-2] فتنوا فيما قالوا وأخبروا؛ أي: ابتلوا، فالفتنة والمحنة والابتلاء والبلاء واحد، والله أعلم.
وقال بعضهم: { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } أي: نظهر نفاقكم للمسلمين؛ إذ كان الله - تعالى - عالماً قبل أن يبلوهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }: قوله: { كَفَرُواْ } أي: كفروا بنعم الله؛ من الكفران.
أو كفروا بتوحيد الله.
وقوله: { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } يحتمل قوله: { وَصَدُّواْ } أي: أعرضوا بأنفسهم عن دين الله.
ويحتمل: { وَصَدُّواْ } أي: صرفوا الناس عن دين الله، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ } أي: عادوه وعاندوه { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ }.
وقوله - عز وجل -: { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } يحتمل: لن يضروا الله بكفرانهم نعمه أو كفرهم بوحدانية الله - تعالى - ومعناه - والله أعلم -: أنه ليس يأمر بما يأمر أو ينهى عما ينهى لدفع مضرة عن نفسه، أو لجر منفعة إلى نفسه، ولكن يأمر وينهى لحاجة أنفس أولئك ولمنافعهم، فهم بتركهم اتباع أمره والانتهاء عن نهيه، ضروا أنفسهم، والله أعلم.
وجائز أن يكون المراد من قوله { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } أي: لن يضروا أولياء الله بما كفروا وصدوهم عن سبيله؛ بل ضروا أنفسهم؛ كقوله - تعالى -:
{ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [محمد: 7] أي: إن تنصروا أولياء الله ينصركم.
وقوله - عز وجل -: { وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ }.
يحتمل حبط الأعمال بالارتداد بعد الإيمان، وإحداث الكفر بعد الإسلام.
ويحتمل أعمالهم التي كانت لهم بالإيمان قبل بعثه عليه السلام.