التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
٤
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-الحجرات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز و جل-: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال بعضهم: إن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - اختلفا في شيء يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتهما، فنزل قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ... } إلى آخر ما ذكر من قوله: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ }.
وذكر عن الحسن في قوله - تعالى -: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: لا تذبحوا قبل ذبح النبي يوم النحر، وذلك أن ناساً من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر.
وقال قتادة ذكر لنا أن رجالا كانوا يقولون: لو أنزل كذا وكذا، أو صنع كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، وأمرهم ألا يسبقوا نبيه صلى الله عليه وسلم بقول ولا عمل حتى يبين الله - تعالى - بيانه، وأمثال ذلك قد قالوا، والله أعلم.
وأصل ذلك عندنا من قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية، أي: يأيها الذين آمنوا اعلما أن لله الخلق والأمر، ولا تقدموا أمراً، ولا قولا، ولا فعلا، ولا حكماً، ولا نهياً سوى ما أمر الله - تعالى - به ورسوله صلى الله عليه وسلم وغير ما نهى عنه؛ بل اتبعوا أمره ونهيه، وراقبوه على ما آمنتم به وأقررتم بأن له الخلق والأمر، فاحفظوا أمره ونهيه، ولا تخالفوه ولا رسوله في شيء من الأمر والنهي، فهذا يدخل فيه كل شيء وكل أمر من القول، والفعل، والقضاء، والحكم، والذبح، وغير ذلك؛ على ما ذكرنا من إيمانهم بأن له الخلق والأمر في الخلق؛ إذ مثل هذا الخطاب لو كان لواحد خاص لكان حكمه يلزم الكل، وكذلك لو كان في أمر واحد وفعل واحد كان يدخل في ذلك جميع الأمور، فكيف والخطاب بذلك عام مطلق؟! فهو للكل، وفي كل الأمور، والله الموفق.
وعلى ذلك ما روي عن مسروق أنه دخل على عائشة - رضي الله عنها - فأمرت الجارية أن تسقيه، فقال: إني صائم - وهو اليوم الذي يشك فيه - فقالت له: قد نهى عن هذا، وتلت قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } في صيام ولا غيره.
اعتبرت عائشة - رضي الله عنها - عموم الآية في النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في [كل] قول أو فعل.
وكذلك روي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال في قوله: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي: اتقوا مخالفة أمر الله ونهيه قولا وفعلا، واتقوا مخالفة رسوله فيما يأمركم بأمر الله ونهيه، وفي كل ما دعاكم إليه { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لأقوالكم { عَلِيمٌ } بأفعالكم وأعمالكم، ولا قوة إلا بالله.
ثم لم يفهموا مما ذكر في قوله: { بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } الجوارح ولا العدد في اليد كما فهموا من ذلك في الخلق، فما بالهم يفهمون ذلك من قوله:
{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75] أي: خلقته على علم مني بما يكون منه [من] خلاف أو معصية، لم أخلقه عن جهل بما يكون منه، وهو ما ذكر في قوله - تعالى -: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة: 265] و { خَبِيرٌ } [البقرة: 234]، أي: عن علم بأحوالهم وما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل بذلك، فعلى ذلك هذا، كما فهموا من قوله: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ } أمر الله ونهيه دون الجوارح والعدد، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ } إلى قوله: { لِبَعْضٍ } قال بعضهم: إن الآية نزلت في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - اختلفا في شيء بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتهما.
وقال بعضهم: إنها نزلت في قوم كانوا إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قالوا فيه قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وعندنا: لا يحتمل أن يكون من رفع الصوت فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهر بالقول له، وما ذكر من التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أن يكون الخطاب بذلك للذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعوا أمره ونهيه؛ إذ لا يحتمل منهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته ويجهروا له بالقول أو يقدموا بين يديه في أمر ولا نهي إلا عن سهو، أو غفلة، أو إذن منه بالمناظرة والمحاورة في العلم، فعند ذلك ترتفع أصواتهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجل في قلوبهم وأعظم قدراً من أن يتجاسروا التقدم بين يديه بأمر، أو قول، أو رفع صوت، أو جهر القول له، فتكون الآية في أهل الشرك [أو] في أهل النفاق، والله أعلم.
ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على جهين:
أحدهما: أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه، ورفع الصوت، والجهر له بالقول، ولله - تعالى - أن يمتحن ويأمر وينهى من شاء بما شاء ابتداء؛ امتحاناً منه لهم، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل - عليهم السلام - عن الشرك والمعاصي وإن كانوا معصومين عن ذلك؛ لأن العصمة لا تمنع النهي؛ لأن العصمة إما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم، والرفع بالصوت، والجهر بالقول، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم، والله أعلم.
ويحتمل أنه خاطب هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك؛ ليتعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكفارين؛ إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة؛ لئلا يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معاملة بضعهم بعضا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } ذكر هذا؛ ليكونوا أبداً متعظين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرين، معظيمن له في كل وقت؛ لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات مايجري مجرى الاستخفاف به والتهاون على السهو والغفلة فيحبط ذلك أعمالهم؛ لأن هذا الصنيع برسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر صاحبه، ولا يكون معذوراً، وإن فعله على السهو والغفلة؛ لأن له قدرة الاحتراز، وأمكن التحذر، وإن كانوا معذورين فيما بينهم على غير التعمد والقصد، ولا مؤاخذة لهم برفع الله - تعالى - المؤاخذة عنهم فيما بينهم، ولم يرفع في حق النبي - عليه أفضل الصلوات - مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة، والله أعلم.
وذكر الكرابيسي فقال: ومن حكمه الآية عند قوم حبوط الأعمال بالكبائر؛ على ما روي عن الحسن قال: أما يشعر هؤلاء الناس أن عملا يحبط عملا، والله يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... } الآية.
وقيل: المراد من الآية أن يتأذى بشؤم تلك المعصية إلى أن يهون عليه ارتكاب الكبيرة، يستحقرها حتى يخف عليه الكفر فيكفر؛ فتصير المعصية الأولى - وإن قلت - سبباً لحبوط ثواب أعماله، فإن أساس كل خطيرٍ حقيرٌ.
ونحن نقول: إن المعصية لا تحبط الطاعة، ولكن هو استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم، و[نحو] ذلك.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } دلت هذه الآية أن الآيتين اللتين تقدم ذكرهما من قوله - تعالى -: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }، وقوله - عز وجل -: { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ }، وقوله: { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } في أهل النفاق، فأما أصحابه الذين صحبوه وآمنوا به، [و] عرفوا أنه [رسول] رب العالمين، فلا يحتمل أن يكون منهم ما ذكر من رفع الصوت عنده، وجهر القول له، والنداء له باسمه من بُعْدٍ، إنما ذلك به فعل من ذكرنا من أهل النفاق والشرك، فأما الذين آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه رسول فلا يحتمل منهم سوى التعظيم له، والتوقير، والتشريف؛ لما عرفوا أن نجاتهم وشرفهم وعزهم في الدنيا والآخرة بتعظيمه وتوقيره، فكيف يحتمل عنهم ذلك؛ بل كانوا لا يتجاسرون التكلم بين يديه فضلا من أن يرفعوا أصواتهم، ويقدموا بين يديه، أو النداء من بعد، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } هذا وصف المؤمنين، امتحن قلوبهم للتقوى فوجدها صافية خالصة لذلك، والامتحان - هاهنا - هو التصفية والإخلاص؛ يقال: امتحن الذهب: إذ أخلص وصفي الصافي منه والخالص من غيره.
وقوله - عز وجل -: { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ظاهر.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } هذا وصف من ذكرنا من أهل الشرك والنفاق.
وقال بعضهم: إن نفرا من الأعراب جاءوا، وقالوا: ننطلق إلى هذا الرجل - يعنون: محمداً صلى الله عليه وسلم - فإن يكن رسولا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً نعيش في جناحه، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد؛ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم سبى ذراري بني تيم ونساءهم، فأتوا يطلبون منه تخلية سبيل أولئك وإعتقاهم وردهم إليهم، فنادوه من وراء الحجرات، فأعتق بعضهم، وفدى بعضاً؛ فنزلت الآية.
وقوله: { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ؛ لأن ذلك أعظم لقدره، وأجل لمنزلته، وأعرف لحقه، وأحفظ لحرمته.
ثم قوله: { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } يحتمل وجوهاً:
أكثرهم لا يعرفون قدره ومنزلته، وإن كان قليل منهم يعرفون ذلك، وهم المؤمنون.
والثاني: أكثرهم لا ينتفعون بما يعقلون.
والثالث: أكثرهم لا يعقلون أنه رسوله، وهم الأتباع والسفلة من الكفرة، وإنما يعرف القليل منهم، وهم الرؤساء المعاندون.
وفي هذه الآية وفي قوله - تعالى -: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } دلالة أن قد يلحق المرء حكم الكفر ويحبط العمل إذا خرج مخرج الاستخفاف وإن لم يعلم به ولم يقصد، والله أعلم.