التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
٦
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ
٧
فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٨
وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٩
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٠
-الحجرات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } جميع أهل التأويل أو عامتهم على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق، وإلى قوم سواهم؛ لجباية الصدقات، وكان بينه وبين أولئك القوم عداوة في الجاهلية، فخرجوا بتلقونه، فخافهم، فرجع، فقال: إن القوم قد منعوا الصدقات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بعد ذلك خالد بن الوليد لجباة الصدقات، فوجدهم يصلون ويعملون الطاعات، واجتمعوا واجمعوا له الصدقات وجبوها وسلموها إليه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فنزل قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } لكن إن كان ما ذكروا فلم يكن في ذلك النبأ التثبت؛ لأن الآية نزلت بعد نبأ الرجل.
وفي الآية الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق فيما يحدث من الأمور من بعد؛ فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبأ الفاسق ابتداء، والله أعلم.
ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقاً ولم يأمر الله - تعالى - بالتثبت في خبر المنافق، ولم يشرع ذلك؛ لأن النفاق يكون في الضمير فلا يظهر ذلك؛ فأما الفسق فإنه يظهر فأمر لنا بالتثبت فيه؛ فدل أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل؛ إذ لا يحتمل عن المنافق أن يزور على المسلمين مثل ما ذكر منه دل أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم.
ثم في الآية دلالة قبول خبر الواحد إذا كان عدلا؛ لأنه لو لم يقبل خبره إذا كان عدلا لم يكن لذكر الفسق فائدة سوى الشتم، والشتم سفه؛ فلا يجوز أن يوصف الله - تعالى - [به] فدل ذكر الفسق على أن هذا الحكم وهو رد الشهادة مختص باسم الفسق، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى [لا يكون] ذكر الفسق سفهاً لما تعلق به بيان حكم شرعي يختص بالفاسق، ولا يعرف ذلك دون ذكره، فأما متى كان الحكم عامّاً في الفاسق العدل عند الانفراد، فكان ذرك الفاسق مع شتمه لا يليق بالحكمة؛ فدل ما ذكرنا، و الله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } أي: تصيبوا قوماً بجهالة في الظاهر بسبب تهمة الفسق، فأمّا في الحقيقة فإنه يجوز أن تصيب ذلك بخبر الواحد، لكن الأحكام وقبول الأخبار فيما بين الخلق لم توضع على الحقائق، وإنما وضعت على الظواهر، وكذلك قبول الشهادات، والحكم بها، وجميع الشرائع التي في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور، فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم ويقضي بقتل إنسان ويقطع يده بشهود عنده؛ لما ظهرت عنده عدالتهم، ولم يكن - في الحقيقة - كذلك، وعلى ذلك قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه:
{ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [يوسف: 64] لم يأمن عليهم بما ظهر له منهم زلة وجناية حين طلوبا منه إرساله ولده يوسف - عليه السلام - في الرعي؛ بل قال هناك: { إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ } [يوسف: 13] إنما اعتل عليهم واحتج بأكل الذئب ولم يتهمهم فيه لما لم يكن ظهر له منهم زلة وجناية، فلما ظهر ذلك منهم اتهمهم، وأخبر أنه لا يأمن عليهم بما ظهر له من زلتهم؛ فدل أن التهمة سبب الردّ، وأنه يجب التثبت بدفع الجهالة من حيث الظاهر، لا للحقيقة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } أي: نادمين بما فعلوا على خلاف ما كان في الظاهر، ويندمون لما تركموا التثبت في الخبر.
وقوله - عز وجل -: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي: لأثمتم.
من الناس من احتج بهذه الآية على أن الإجماع ليس بحجة، وقالوا: لو كان لإجماعهم [حجة] لكان لا يأثمون لو أطاعهم في كثير من الأمر؛ لأن الحق والصواب مما لا يوجب الإثم لصاحبه فيمن تبعه في ذلك الصواب، ولكن إن كان لا يوجب الثواب دل انه ليس بحجة يجب اتباعه.
ولكن هذا فاسد؛ لأن الحجج والبراهين لم تكن انتهت يومئذ غايتها، ولا أتت على نهايتها، فالإجماع الذي هو إجماع حجة عندنا ويجب اتباعه والانقياد له هو إجماع من استوعب الحجج والبراهين، وأتى على عامتها، أو على الجميع، وكان الوقت وقت نزول الوحي، وإنما تستقر الأحكام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ينقطع الوحي؛ فيستدل على استيعاب الحجج ونزول جميع ما يحتاج الناس إليه من حيث الإبداع في النصوص، فمتى اجتمعوا على ذلك يكون حجة، ولأنه لا إجماع يتحقق دون رأي رسول الله صلى الله عليه سلم وإذا وجد رأيه استغنى عن رأي الغير؛ لما كان ينطق عن الوحي، فإذا لم يكن وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم زمان انعقاد الإجماع حجة فبطل استدلالهم بالآية.
ثم قوله - عز وجل -: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } أرسل إليكم ليزيل عنكم إشكالكم وشبهاتكم، فلا عذر لكم في الكفر واعتراض الشبه لكم بما تقدرون أن تسألوه ما أشكل عليكم وأشتبه، فيخبركم بذلك فيزيل الشبه عنكم.
والثاني: يحتمل: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } يطلع الله - تعالى - إياه على ما تضمرون في أنفسكم، وما تولدون من الأخبار التي لا أصل لها ولا أثر ما [لو] أظهر ذلك لافتضحهم، وهو صلة ما ذكر من قوله: { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ }، والله أعلم.
ويحتمل: أي: فيكم رسول الله تسألونه ما أشكال عليكم، فيخبركم بالحق والأمر على الحقيقة كي لا تصيبوا قوماً بجهالة، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } فإليه الرأي والتدبير في الأمور، ومن رأيه وتدبيره يجب أن يصدر، لا عن رأي أنفسكم وتدبيركم، وعلى ذلك يخرج قوله:
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [آل عمران: 101] على الوجوه التي ذكرنا، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي: لو يطيعكم فيما تدعو إليه أنفسكم من التمويهات والشبهات وهواها.
أو يقول: لو يطيعكم في الصدور عن آرائكم وتدبيركم في الأمور لعنتم، ثم قال: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } هذا في الظاهر كناية غير موصولة بقوله: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ }؛ لأنه لا يليق ذلك إلا على الإضمار، كأنه يقول: لو يطيعكم في كثير من الأمور لعنتم، وإن الله قد أرسله إليكم رسولا، وحبب إليكم الإيمان به وزينه في قلوبكم حتى صار هو في قلوبكم أحب من أنفسكم ومن كل شيء، فالواجب عليكم أن تصرفوا الأمر إلى رأيه وتدبيره، وأن تصدروا عن رأيه، ولا تعتمدوا على رأي أنفسكم وتدبيركم، والله أعلم.
ويحتمل: أي: لا تدعوه إلى أن يطيعكم فيما تهوى به أنفسكم، واشتهت بعدما حبب الإيمان إليكم وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر وما ذكر، والله أعلم بحقيقة جهة وصل هذا بالأول.
ثم يحتمل وجهين أيضاً:
أحدهما: لو يطيعكم الرسول في كثير من الأمر لعنتم، و[لكن] الله - تعالى - ألزمكم طاعته في كل أمر، فأطعيوه ولا تطلبوامنه طاعته إياكم في الأمور، ولكن أطيعوه أنتم في الأمور كلها، وقد حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق - وهو الخروج عن أمره - والعصيان.
والثاني: يشبه أن يكون موصولا بقوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [الحجرات: 3]، و{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ }، ثم قال الله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } كأنه يقول: أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وحبب إليهم [الإيمان] وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ }، أخبر وشهد لهم بالرشاد، وأخبر أن ذلك فضل منه إليهم ونعمة، لا شيء كان منهم استوجبوا بذلك؛ فذلك قوله: { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى -: { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ } وما ذكر، يقولون: لم يحبب الإيمان إلى هؤلاء إلا وقد حبب مثله إلى جميع الكفار، وكذلك لم يكره الكفر إلى هؤلاء إلا وقد كره [مثله] إلى جميع الناس، لكن المراد تخصيص هؤلاء بما ذكر من التحبيب إليهم الإيمان، وتكريه الكفر هو اختصاصهم بما وعد من الثواب والجزاء الجزيل على الإيمان والمواعيد الشديدة، فحببه وزينه في قلوبهم بما وعد لهم من الثواب، وكره الكفر والعصيان إليهم بما أوعد على ذلك من العذاب العظيم.
لكن هذا فاسد؛ لأنه ليس مؤمن به صار حب الإيمان في قلبه لما ذكروا من الثواب والجزاء، ولا كافر أسلم حين أسلم يخطر ثواب الإيمان في قلبه حتى يكون إسلامه لذلك؛ بل كان في قلبه بغض الإيمان قبل الإسلام، فإذا أسلم وجد حبه في قلبه، وكراهة الكفر؛ ليعلم أن ذلك يكون بلطف من الله - تعالى - كان عنده، فإذا أعطاه صار ما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }.
قال بعضهم: كان بين رجلين مدارة - أي: منازعة - في شيء، فغضب قوم كل رجل حتى كان بينهم خفق بالنعال والأيدي، فنزلت الآية.
وقال بعضهم: كان بين الأوس والخزرج قتال بالعِصِي؛ فنزلت عنده الآية بالأمر بالصلح بينهم.
وقال بعضهم: قتالهم بالعِصِي، والتناجي، ونحوهما.
وقال الحسن: إن قوماً من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطروا بالنعال وبالأيدي، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية في ذلك.
وقال قتادة: كان بين رجلين حق فتدارا فيه، فقال أحدهما: لأخذته عنوة - لكثرة عشيرته - وقال الآخر: بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.
وجائز أن تكون الآية فيما كان بين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبين الحرورية وأهل النهروان؛ ذكر أن عليّاً - رضي الله عنه - لما قتلهم فقال الناس: هم مشركون، فقال - عليه السلام -: من الشرك فروا، فقالوا: فمنافقون هم؟ قال علي - رضي الله عنه -: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قالوا: فما هم؟ قال: هم ناس بغةوا علينا فقاتلونا فقاتلناهم.
ويحتمل أنه كان فيما كان بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية يوم الجمل ويوم صفين؛ ذكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليّاً - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول يوم الجمل: هم كفروا، فقال: لا تقل ذلك، ولكن هؤلاء قوم بغوا علينا، وزعموا أنا بغينا عليهم، فقاتلناهم على ذلك.
لكن في الآية الأمر بالصلح إذا كان بينهم - أعني: المؤمنين - اقتتال بأي شيء كان بقوله - تعالى -: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وكذلك أمر في غير آي بالصلح والإصلاح، قال: يقال: وأصلحوا ذات بينكم، اي: بين المؤمنين.
وهذه الآية حجة على المعتزلة والخوارج، فإنه أبقى اسم الإيمان بعد ما ك ان منهم الاقتتال والبغي، والقتال والبغي مع أهل الإسلام من الكبائر دل أن الكبيرة لا تخرج عن الإيمان ولا توجب الكفر، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي: فإن ظلمت إحدى الطائفتين وطلبت غير الحق { فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } أي: تظلم وتجور { حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } حتى ترجع إلى أمر الله، وإلى الحق، أمر بمعونة الطائفة التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية، وهو ما ذكر في آية أخرى:
{ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ } [الحج: 60] وعد - عز وجل - النصر لهم، فيحتمل أن يكون ذلك النصر الموعود في الدنيا، ويحتمل في الآخرة.
وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيد بين السيف وغيره بقوله: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } لكن متى أمكن دفع البغي وكسر منعتهم بغير السلاح فهو الحق، وهو الواجب، لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به، فإن عليّاً - رضي الله عنه - قاتل الفئة الباغية بالسيف ومعه كبراء الصحابة - رضي الله عنهم - وأهل بدر، وكان هو محقّاً في قتاله إياهم دل أنه لا بأس بقتالهم بالسيف.
وبعضهم قالوا: إن قتال البغاة لا يجوز بالسيف، وقالوا: إن سبب نزول الآية في القتال بالعِصِي والنعال، ولكن لا حجة لهم فيها؛ لأن القتال بين الفئتين وإن كان بالنعال والعصي ولكن لم يصيروا بغاة في تلك الحال، وهو القتال الذي أمر الله تعالى فيه أن يصلح بينهم، وإنما يصيرون بغاة بأن لم يجيبوا إلى الصلح ولم يقبل أحد من الطائفتين الصلح، وحينئذ أمر بالقتال معهم مطلقاً من غير قيد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ } ذكر أنها وإن فاءت ورجعت إلى ما أمر الله - تعالى - به لا يتركوهما كذلك بغير صلح، ولكن أصلحوا بينهما وألفوا حتى يتآلفوا؛ لأن أهل الإسلام ندبوا إلى التآلف بينهم والجمع، وشرط فيه الصلح بالعدل، فهو - والله أعلم - يقول: إنكم وإن رأيتم صلاحهم في الصلح فلا يحملنكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل، ولا تجاوزوا الحدّ، وأكد ذلك قوله: { وَأَقْسِطُوۤاْ } أي: أعدلوا في الصلح { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي: العادلين.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } أمر الله - عز وجل - بإصلاح ذات البين بين المؤمنين بقوله:
{ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [الأنفال: 1] وأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا وتنازعوا بقوله - عز وجل -: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وأمر بالإصلاح بين الآحاد والأفراد بقولخه: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }؛ لأن الإيمان يوب التآلف، وبالتآلف ندبوا، وإليه دعوا، وبه منّ الله - تعالى - علينا؛ حيث قال: { أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [الأنفال: 63]، وقال في آية أخرى: { وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [آل عمران: 103] أمر بالتأليف والاجتماع، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمر المؤمنين جملة أن يصلحوا ذات بينهم إذا وقع بينهم تنازع واختلاف واقتتال على ما ذكر، والله أعلم.
ثم من الناس من استدل بقوله - تعالى -: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } على أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعداً، فقال: إنه ذكر في أول الآية: { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }، [و]قال في آخره: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فدل أن سام الطائفة يقع على الواحد فصاعداً، فقال: فيستدل بهذا على أن في قوله - عز وجل -:
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ } [التوبة: 122] يراد به الواحد؛ فيدل على لزوم خبر الواحد العدل.
لكن عندنا ما ذكر أنه أمر بإصلاح ذات البين بين جملتهم، وأمر بالصلاح بين فريقين، وأمر بذلك بين الآحاد والأفراد، وليس في قوله: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } دلالة أنه أراد به الأخوين، أو ذكر { بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }، وأراد به الاثنين اللذين كان الاقتتال بينهما، وفيهما هاج القتال بينهم، فأما أن يكون اسم الطائفة يقع على الواحد فلا؛ بل هو في اللغة وعرف اللسان على الجماعة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: اتقوا مخالفة أمر الله لكي تقع بكم الحرمة، أو لكي يلزمكم الرحمة.