التفاسير

< >
عرض

يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
١٥
يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٦
-المائدة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } الآية.
قال - عز وجل -: { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا }، ولم يقل: فلان بن فلان؛ ليعلم أن الرسل - عليهم السلام - ليسوا يعرفون بالأسامي والأنساب؛ ولكن إنما يعرفون بالآيات المعجزة والبراهين النيرة. وفيه دليل أن من آمن بالرسل كلهم ولم يعرف أسماءهم أنه يكون مؤمناً، ولم يؤخذ علينا معرفة أسامي الرسل؛ إنما أخذ علينا الإيمان بهم جملة؛ ألا ترى أن الله - عز وجل - لم يذكر في الكتاب الأنبياء والرسل جميعاً واحداً فواحداً، ولا ذكر أسماءهم؛ إنما ذكر بعضاً منهم؟! أفترى أن من لم يعرف أسماءهم لم يكن مؤمناً؟! هذا بعيد.
وفيه دلالة إثبات رسالة [سيدنا] محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ }، وهم إذا كتموا ذلك وأخفوه - أعني: الرؤساء - ولم يخبروا أحداً أنهم كتموا ذلك وأخفوه، حتى يبلغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف إلى أحد منهم، أو نظر في كتابهم قط؛ ليعلم ما كتموا، فلما بين لهم ما قد كتموا وأخفوا من الناس؛ دل ذلك لهم أنه إنما علم ذلك بالله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }.
اختلف في تأويله وقراءته:
قال بعضهم: "نبين" بالنون، "ونعفوا عن كثير"، أي: الله يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون [من الكتاب]، ويعفوا الله - تعالى - عن كثير إذا آمنوا ورجعوا عما كانوا يخفون ويكتمون.
وقال آخرون: يبين لهم كثيراً، أي: جميع ما كانوا يخفون، ويعفو عن جميع ذلك.
وأمَّا عندنا فقوله: { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } بالياء، أي: رسول الله يبين لهم كثيراً، ويعفو عن كثير، على قدر ما أذن له البيان لهم؛ لأن الرسل إنما يأتون بالبراهين والحجج على قدر ما أذن لهم، لا بكل ما لهم من الآيات؛ ألا ترى أن سحرة فرعون لما ألقوا حبالهم وعصيهم فصارت حيات، لم يلق موسى عصاه حتى أذن الله له في ذلك؟! وهو قوله - تعالى -:
{ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [الأعراف: 116-117]. إنما أتى بالآية بعد ما أذن له بذلك؛ فعلى ذلك قوله: { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً } إنما يبين على قدر ما أذن له بالبيان والحجة، والله أعلم.
وقوله: { مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ }: يحتمل مما كنتم تخفون من الكتاب: من الشرائع والأحكام، ويحتمل: كتموا ما في الكتاب من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته [الكريمة].
وقوله - عز وجل -: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ }.
عن الحسن: النور والكتاب واحد، وكذلك ما قال في قوله:
{ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ } [البقرة: 231] هما واحد.
وقال غيره: النور: هو محمد، والكتاب: هو القرآن، سماه: نوراً؛ لما يوضح ويضيء كل شيء على ما هو عليه حقيقة؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عز وجل -:
{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ... } الآية [النور: 35]، أي: به يتضح كل شيء على ما هو عليه في الحقيقة، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ }.
يحتمل قوله: { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ }، أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل: بالقرآن، أي: به يهدي الله { مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ }، يحتمل: رضاه.
وقوله - عز وجل -: { سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ }.
السلام: قيل: هو الله؛ كقوله - تعالى -:
{ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ } [الحشر: 23]، أي: به يهدي سبل السلام، سمي سبلا؛ لأن سبيل الله - وإن كان كثيراً في الظاهر - فهو في الحقيقة واحد، وسمي سبل الشيطان سبلاً وقال: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ... } الآية [الأنعام: 153]؛ لأن سبله متفرقة مختلفة، ليست ترجع إلى واحد، وأما سبل الله - وإن كانت سبلاً في الظاهر - فهي ترجع إلى واحد، وهو الهدى والصراط المستقيم.