التفاسير

< >
عرض

لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٧٨
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٧٩
تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
٨٠
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٨١
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٨٢
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ
٨٣
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ
٨٤
فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٥
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ
٨٦
-المائدة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ }.
قال بعضهم: لعنوا بكل لسان؛ لعنوا على عهد موسى - عليه السلام - في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد [رسولنا] محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن؛ وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وقيل: مسخوا بدعائهم بما اعتدوا، فصاروا قردة وخنازير.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا".
وقال الحسن: "انقطع ذلك النسل".
وأصل اللعن: هو الطرد؛ كأنهم طردوا عن رحمة الله.
ويحتمل تخصيص اللعن على لسان داود؛ لأن داود - عليه السلام - كان به غلظة وخشونة، وهو الذي كان اتخذ الأسلحة وآلات الحرب، وعيسى كان به لين ورفق؛ ليعلم أن اللعن الذي كان منهما كان لتعديهم الحدود - حدود الله - وعصيانهم ربهم، وكانوا مستوجبين لذلك محقين؛ ولذلك استجيب دعاؤهم عليهم باللعن [أعني: دعاء الرسل، عليهم السلام].
وقوله - عز وجل -: { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ }.
ذكر في بعض القصة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لمَّا وَقَعَتْ بَنُوا إِسْرَائِيلَ في المَعَاصِي نَهَاهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهِمْ وَآكَلُوهُم وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ" قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: "لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ [عَلَى الحقِّ] أطْراً" قال أبو عبيد: يعني تعطفوهم عطفا، وقال غيره: حتى تكسروهم كسرا.
وقوله - عز وجل -: { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
قيل: قوله: { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ } يعني: المنافقين، { يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني: اليهود يتولون الذين كفروا ويعاندون رسول الله وأصحابه.
وقيل: { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ }: يعني: من اليهود: { يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } من مشركي العرب وغيرهم، كانوا يظاهرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويعاونون عليهم، وقد كان من الفريقين جميعاً ذلك.
ويحتمل وجهاً آخر: قوله: { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ } من هؤلاء الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولون الذين كفروا، يعني: أسلافهم ورؤساءهم؛ كقوله:
{ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً... } الآية [المائدة: 77]، تولى هؤلاء أولئك واتبعوا أهواءهم.
وقوله - عز وجل -: { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ }: أي: ما قدمت أنفسهم سخط الله عليهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ }.
يعني: المنافقين، في أحد التأويلين. وفي تأويل آخر: اليهود، أي: لو صدق هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وصدقوا ما أنزل إليه من القرآن - ما اتخذوا أولئك أولياء.
ثم يحتمل قوله - تعالى -: { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ } في الدين أو في النصر والمعونة والنصرة، { وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
وقوله - عز وجل -: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } تحتمل الآية وجوهاً:
تحتمل: أن يكون ما ذكر من شدة عداوة اليهود للذين آمنوا قوماً مخصوصين منهم.,
وتحتمل: اليهود الذين كانوا بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أشد عداوة لهم.
وتحتمل: اليهود جملة، فهو - والله أعلم - على ما كان منهم من قتل الأنبياء وتكذيبهم إياهم، ونصب القتال والحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما كان منهم من قول الوخش في الله - سبحانه - ما لم يسبقهم أحد بمثل ذلك ما وصفوا الله - عز وجل - بالبخل والفقر، وهو قوله - تعالى -:
{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة: 64] وقالوا: { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181]، وغير ذلك من القول؛ وذلك لشدة بغضهم وعداوتهم وقساوة قلوبهم؛ فعلى ذلك كل من دعاهم إلى دين الله تعالى، فهم له أشد عداوة، وأقسى قلباً.
وأمَّا النصارى: فلم يكن منهم واحد مما كان من اليهود: من قتل الأنبياء، ونصب الحروب والقتال معهم، ولم يروا في مذهبهم القتال ولا الحرب، ولا كان منهم من القول الوخش ما كان من اليهود، بل كان فيهم اللين والرفق؛ حتى حملهم ذلك على القول في عيسى ما قالوا، وذلك منهم له تعظيم فوق القدر الذي جعل الله له، حتى رفعوه من قدر العبودية إلى قدر الربوبية؛ لذلك كفروا، وإلا كانوا يؤمنون بالكتب والأنبياء - عليهم السلام - من قبل؛ ألا ترى أنه قال: { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أخبر - عز وجل - أن منهم قسيسين ورهباناً، والرهبان: هم العباد.
وقيل: القسيسون: [هم] الصديقون، ولم يكن من اليهود رهبان ولا قسيسين؛ لذلك كان النصارى أقرب مودة وألين قلباً من اليهود، والله أعلم.
فإن كان ذلك في قوم مخصوصين مشار إليهم، وهو ما ذكر في القصة أن بني قريظة وبني النضير كانوا يعاونون ويظاهرون مشركي العرب على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرونهم بذلك، ظاهروا وأعانوا لمن لم يؤمن بنبي ولا كتاب قط على من قد آمن بالأنبياء والكتب جميعاً؛ وذلك لسفههم وشدة تعنتهم؛ حتى قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من بلادهم إلى أرض الشام.
وإن كان ذلك عن قوم بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وهو ما كان من يهود المدينة؛ حيث بايعوا أهل مكة على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا عيوناً لهم عليهم وطلائع، ولم يذكر في قصة من القصص أنه كان من النصارى شيء من ذلك، كان أقرب مودة للمؤمنين، والله أعلم.
وما قال بعضه أهل التأويل بأن من أسلم منهم كان أقرب مودة للمؤمنين من اليهود فحاصل هذا الكلام أن المؤمن أقرب مودة للمؤمنين من الكافر، وذلك كلام لا يفيد معنى.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ }.
سرورا على أنفسهم مما ظفروا مما كانوا يسمعون من نعته صلى الله عليه وسلم وصفته ويطمعون خروجه، وقد يعمل السرور هذا العمل إذا اشتد به وفرح القلب فاضت عيناه سروراً.
ويحتمل قوله - تعالى -: { تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ }؛ حزناً على قومهم؛ حيث لم يؤمنوا بعد أن بلغهم ما بلغ هؤلاء من أعلام النبوة وآثار الرسالة؛ إشفاقاً عليهم أن كيف لم يؤمنوا؛ كقوله - تعالى -:
{ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة: 92]: قد فاضت أعينهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، والله أعلم.
وقوله: { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا } بما أنزلت واتبعنا الرسول { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [الآية]:
قيل: مع الأنبياء والرسل.
وقيل: مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو واحد.
ثم ذكر في القصة: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه.
وقيل: نزلت في أربعين رجلا من مسلمي أهل الإنجيل: بعضهم قدموا من أرض الحبشة، وبعضهم قدموا من أرض الشام، فسمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما أشبه هذا [بالذي] نُحَدَّثُ من حديث عيسى!! فبكوا وصدقوا؛ فنزلت الآية فيهم، فلا ندري كيف كانت القصة؟ وفيمن نزلت؟ إذ ليس في الآية بيانه، وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من شدة رغبتهم في القرآن، وسرورهم على ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ }.
[الحق] يحتمل: الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتمل: القرآن، ويحتمل: كليهما.
وقوله - عز وجل -: { وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ }.
قال الحسن: قوله - تعالى -: { وَنَطْمَعُ }: أي: نعلم أن يدخلنا ربنا الجنة إذا آمنا بالله وما جاءنا من الحق.
قيل: نطمع: هو الطمع والرجاء، أي: نطمع ونرجو أن يدخلنا ربنا في دين قوم صالحين.
و{ ٱلصَّالِحِينَ }: يحتمل: ما ذكرنا من الأنبياء والرسل.
ويحتمل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ }: الثناء الحسن في الدنيا؛ حيث ذكرهم في القرآن؛ فيذكرون إلى يوم القيامة، ويثني عليهم، وفي الآخرة: الجنة ونعيمها.
{ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ }.
المحسن: كأنه هو الذي يتقي المعاصي، ويأتي بالخيرات والحسنات جميعاً، يعمل عملين جميعاً.
والتقي: هو الذي يتقي المعاصي والمكاره خاصة.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ }:
قال بعضهم: "الجحيم": هو اسم معظم النار.
وقال غيرهم: هو اسم درك من دركات النار؛ وكذلك "السعير".