التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ
١٢
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ
١٣
وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
١٤
أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
١٥
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ
١٦
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ
١٧
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ذكر هذه الأنباء لوجهين:
أحدهما: يصبّر رسوله على أذى قومه وتكذيبهم أياه كما صبر أولئك يقول: إنك لست بأول رسول كذبه قومه، بل كان قبلك رسل كذبهم قومهم، فصبروا على ذلك؛ فاصبر - أيضاً - وهو كقوله:
{ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35].
والثاني: يحذر قومه أن ينزل بتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم به كما نزل بمن ذكر من الأقوام بتكذيبهم وسوء معاملتهم.
وعلى هذين المعنيين جميع ما ذكر في القرآن من الأنباء، والله أعلم.
ثم أصحاب الرس اختلف في الرس:
[قيل]: هو بئر دون اليمامة، وكان عندها أقوام كذبوا رسلهم، فأهلكهم الله تعالى.
وقل: الرس: هو الوادي.
وقال بعضهم: الرس: هو خد خدوه وجعلوا فيه الناس، وأحرقوا فيها نبيهم، عليه السلام.
وقال بعضهم: سموا بذلك لأنهم رسوا نبيهم - عليه السلام - في البئر.
وقال بعضهم: هم قوم الرسل الذين ذكره في سورة يس بقوله - تعالى -:
{ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [يس: 14].
وعن الأصم أنه قال: الرس: كل موضع خدّ فيه؛ ولذلك سمي الخد: خدّاً؛ لجري الدمع عليه، والله أعلم.
وقوله: { وَإِخْوَانُ لُوطٍ } أي: قوم لوط.
وقوله: { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } قيل: إنه كان رجلا مسلماً صالحاً، مدحه الله - تعالى - وذم قومه، سمي: تبعاً؛ لكثرة أتباعه.
ولا حاجة بنا إلى تفسيره بأنه من كان؟ وما اسمه؟ كما ذكر بعض أهل التأويل؛ لما لم يذكر في القرآن، ولم يثبت بالتواتر، فلا نزيد على ذلك القدر؛ احترازاً عن الكذب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } يخوف أهل مكة أو أولئك الذين ذكرهم جميعاً قد أهلكوا بتكذيبهم الرسل، فحق علهيم الوعيد بذلك؛ فعلى ذلك يحق عليكم ذلك الوعيد بتكذيب الرسول، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ } هو يخرج على وجهين:
أحدهما: { أَفَعَيِينَا } أي: أعجزنا عن الخلق؛ أي: حيث لم نعجز عن الخلق الأول، فكيف نسبونا إلى العجز عن الخلق الثاني؟!
والثاني: { أَفَعَيِينَا } أي: أجهلنا وخفي علينا تدبير الخلق الثاني، وابتداء تدبير الخلق الأول وإنشاؤه أشد عندكم من إعادته، والإعادة عندكم أهون، فإذا لم نعجز عن ابتداء إنشائه، ولم نجهل، ولم يخف علينا الابتداء، فأنّى نعجز عن الإعادة؟!
ثم قال بعضهم: الخلق الأول هو آدم، عليه السلام.
وقال عامتهم: هو ابتداء خلقهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي: هم في شك واختلاط من خلق جديد؛ لما تركوا النظر في سبب المعرفة؛ ليقع لهم العلم بذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } هو يخرج- على وجهين:
أحدهما: يقول: على علم منا بما تحدث به نفسه وتوسوس من أنواع الحديث والوسوسة، لا عن جهل وخفاء فعلنا ذلك، فإن هو كفها وحبسها عما تدعو به إليه نفسه وتهواه ويصرفها إلى مايدعوه عقله وذهنه نجا وفاز؛ لقوله - تعالى -
{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } [يوسف: 53] وقال: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 40-41]، وإن تركها حتى تمادى في هواها هلك؛ قال الله - تعالى -: { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 37-39]، وقال في أية أخرى: { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الفرقان: 43] ونحوه كثير من القرآن.
والثاني: يذكر { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي: نحن مطلعون على ذلك، ليس علم ذلك إلى الحفظة وهم يتولون كتابته؛ أي: لم يجعل ذلك إلى أحد، إنما ذلك إلى الله - تعالى - هو العلم بذلك، وهو المطلع عليه دون الملائكة، وإنما إلى الملائكة ما يلفظه ويفعل بالجوارح؛ لقوله: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }، وقال في آية أخرى:
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الأنفطار: 10-12] أخبر أن الحفظة إنما يعلمون ما يفعلون ظاهراً، أما ما يسرون في قلوبهم فالله هو المطلع على ذلك العالم؛ ليكونوا أبداً على اليقظة والحذر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [لا] يفهم من قرب الرب - تعالى - إلى العبيد ما يفهم من قرب العبد إلى الله - تعالى - وإنما يكون قرب العبد إلى الله - تعالى - بالطاعة له، والقيام بأمره، والانقياد والخضوع له؛ هذا هو المفهوم من قرب العبد إلى الله - تعالى - لا قرب شيء [من شيء] آخر؛ فعلى ذلك يفهم من قرب الله - تعالى - إلى العبد للإجابة له، والنصرة، والمعونة، والتوفيق على الطاعات، وعلى ذلك ما يقال: فلان قريب إلى فلان، لا يعنون قرب نفسه من نفسه والمكان، ولكن يعنون نصره له، ومعونته إياه، وإجابته.
ويحتمل أن يذكر القرب منه كناية عن العلم بأحواله ظاهراً وباطناً، والله أعلم.
وأصله أن تعتبر الأحوال فيما ذكرب من القرب، فإن كان في السؤال فالمراد أنه قريب منه بالإجابة له؛ أي: يجيبه؛ كقوله - تعالى -:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186] وإن كان فيما يسرون ويضمرون فيفهم من القرب في تلك الحالة العلم به؛ كقوله - تعالى -: { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ... } الآية [المجادلة: 7]؛ فعلى ذلك قوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ }، وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85] يفهم منه النصر والمعونة، أو العلم؛ فيكون قوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } أي: أعلم وأولى به وأحق من غيره في النصر والمعونة، وأولى به في الإجابة، والله أعلم.
وعلى ذلك يخرج ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"من تقرب إلى [الله] شبراً تقرب منه شبرين" على ما ذكرنا من قرب الطاعة له, وقرب الرب إليه: بالنصر والمعوننة، لا قرب المكان، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } قال بعضم: عرق العنق، والوريد: العنق.
وقال بعضهم: هو عرق بين القلب والحلقوم.
وقال بعضهم: هو عرف القلب معلق به، فإذا قطع ذلك العرق يموت الإنسان، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي: اذكر تلقي المتلقيين، أو احفظ تلقي المتلقيين، أو احذر تلقي المتقليين، وهما الملكان المسلطان على أعمالك وأقوالك؛ إذ يتلقيان منك أعمالك وأقوالك، ويحفظان عليك، ويكتبان؛ يذكر هذا ويخبرهم أن عليهم حافظاً ورقيباً، وإن كان هو - تعالى - حافظاً لجميع أفعالهم وأقوالهم، عالماً بها فحفظ الملائكة وكتابتهم، وعدم ذلك بمنزلة [واحدة] في حق الله - تعالى - لكن يخرج الأمر للملائكة بحفظ أعمالهم وكتابة ذلك على وجوه من الحكمة:
أحدها: ليكونوا على حذر أبداً مما يقولون ويفعلون؛ على ما يكون في الشاهد من علم أن عليه حافظاً ورقيباً في أمر يكون أبداً على حذر وخوف من ذلك الأمر، وذلك أذكر له وأدعى إلى الانتهاء عن ذلك، فعلى ذلك إذا علم العبد أن عليه حفيظاً ويكتب ذلك عليه، وأنه يكلف تلاوة ذلك المكتوب بين يدي الله - تعالى - فيستحي من ذلك أشد الأستحياء - يكون ذلك أزجر له، وأبلغ في المنع، وإلا كان إحصاء ذلك على الله - تعالى - مع الكتاب وغير الكتاب سواء؛ إذ هو عالم بذاته، لا بالأسباب، وهو تأويل
{ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52]، والله أعلم.
والثاني: من الحكمة امتحان الملائكة بحفظ أعمال بني آدم وأقولهم، وكتابة ذلك، فيمتحنهم بذلك وأمرهم به، ولله أن يمتحن الملائكة من شاء منهم بالتسبيح والتعظيم، ومن شاء منهم بالركوع، ومن شاء السجود، ومن شاء بحمل العرش والكرسي، ومن شاء بحفظ بني آدم، ومن شاء منهم بسوق السحاب وإنزال المطر، مما في ذلك منافع بني آدم، ويكون ذلك كله بحق العبادة؛ ليعلم أن من امتحن منهم بالركوع، والسجود، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، لم يمتحنهم بذلك لمنافع ترجع إليه في ذلك، ولكن يمتحنهم بمحن بما شاء؟ وفيم شاء؟ ويكون ذلك كله عبادة، وإن اختلفت أنواعه، فعلى ذلك أمره إياهم بحفظ أعمالهم وأقوالهم وكتابتها، والله أعلم.
والمحنة بحفظ تلك الأعمال والأصوات وكتابتها أشد من محنة غيرهم من الملائكة بالركوع أو السجود، أو القيام، أو التكبير، أو التهليل، ونحو ذلك، ومن محنة بن آدم من إقامة العبادات، والامتناع من المحرمات، ونحوها إذا لو اجتمع الخلائق على معرفة كيفية عمل واحد ما قدروا عليه؛ فدل أن هذا التأويل محتمل.
والثالث:: وهو أن الله - تعالى - أخبرهم بكتابة الملكين لأعمالهم، وبقعودهم عن اليمين والشمال من غير أن رأى أحد من البشر إياهم، ولا رأى كتابهم، ولا سمع سوت كتابتهم، وقد أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم وكتابة ذلك كله، وأقدرهم على رؤيتنا، ولم يقدرنا على رؤيتهم، وهم أجسام مرئية؛ ليعلموا بذلك قدرة الله - تعالى - على ما شاء من الفعل، وألا يقدروا قوة كل خلق الله - تعالى - بقوة أنفسهم، ولا رؤية غيرهم برؤية أنفسهم، وأن قوة الرؤية تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، فإن الملائكة يروننا ولا نراهم في الدنيا، وإن كانوا أجساماً مرئية؛ حيث يرى بعضهم بعضاً.
ثم أخبر وقال:
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [الإسراء: 13] أخبر أنه يرى ذلك الكتاب في الآخرة، وإن كان لا يراه في الدنيا، وكذا يرى الملائكة في الآخرة؛ وهذا لأن هذه البنية لا تحتمل أشياء لضعف فيها، وبحجاب يكون في ذلك الدنيا، ثم يحتمل أن تكون في الآخرة أقوى في احتمال ذلك؛ فتبصر في الآخرة.
وفي هذا ردّ قول المعتزلة في إنكارهم رؤية الله - تعالى - أنه لو كان يرى في كل مكان على ما يرى الملائكة في الآخرة دون الدنيا ونحو ذلك، فعلى ذلك رؤية الله.
ثم قراءة العامة: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ }، وقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه -: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ } فعلى قراءته يخرج تأويل الآية على وجه واحد؛ أي: يأخذ الملكان عن بني آدم ما فعلوا وقالوا.
[و] على قراءة العامة يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يأخذ الملكان عنه ما أدى إليهما من قول أو فعل.
والثاني: أن يتلقى أحد الملكين عن الآخر ما ألقى عليه ذلك الملك؛ على ما روي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صاحب اليمين [أمير] على صاحب الشمال، وإذا عمل العبد سيئة، قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه سبع ساعات، فإن استغفر الله - تعالى - لم يكتبها عليه، وإن لم يستغفر كتبها سيئة واحدة" .
ويجوز أن يكون أحدهما كاتباً دون الآخر، وإن كانا يتلقيان ويأخذان منه ذلك؛ لما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد } [ق: 23]، ولم يقرأ: قال: قريناهز
ويجوز أن يكون المتقليان جميعاً يكتبان؛ على ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: كاتبان: كاتب عن يمينه، وكاتب عن يساره، فيكتبان الحسنات والسيئات، ثم يرفعان إلى من فوقهما كل اثنين وخميس، فيثبتون من ذلك من ثواب أو عقاب، ويلقون ما سوى ذلك.
وروي - أيضاً - عنه وعن غيره من أهل التأويل أنهما يكتبان ما كان من خير وشرّ، وما سوى ذلك فلا.
ولكن ظاهر الكتاب يدل على أنه يكتب كل شيء، وهو قوله - تعالى -: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } إلا أن يقال: المراد هو قول هو سبب الثواب والمأثم، وكما قال في آية أخرى:
{ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] أي: لا يغادر صغيرة من المأثم ولا كبيرة منها، لا مطلق صغائر الأشياء وكبائرها، فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
ثم جعل المتلقيين اثنين يحتمل على ما جعل في الشهادة اثنين فيما بينهم في الأحكام والحقوق يشهدان عليه في الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }.
في ظاهر الآية أن الملائكة إنما يكتبون ظاهر الأقوال والأفعال، لا [ما] في الضمائر، لكنه غير مستنكر في العقول أن يكون الله - تعالى - أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم، فيعرفون ذلك ويكتبونه، ولكن ظاهر الآية يشير إلى ما قلنا، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } قال القتبي: أراد { قَعِيدٌ } من كل جانب منهما، إلا أنه اكتفى بذكر الواحد إذا كان دليلا على الآخر، و{ قَعِيدٌ } بمعنى قاعد؛ كما يقال: قدير وقادر، أو يكون بمنزلة أكيل وشريب، أي: مؤاكل ومشارب، { قَعِيدٌ }؛ أي: مقاعد؛ وبه قال أبو عوسجة: { قَعِيدٌ } من المقاعدة؛ كما يقال: قعيدي وجليسي، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { رَقِيبٌ عَتِيدٌ } الرقيب: الحفيظ، والعتيد، الحاضر، أي: ليس بغائب حتى يغيب عنه شيء، و الله أعلم.