التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ
٣٩
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ
٤٠

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ }، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: كم أهلكنا قبلهم من قرن، لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم، ولا الانتصار من ذلك، فيكف يملك قومك دفع ما ينزل ببهم أو أصروا على التكذيب.
والثاني: يقول: قد أهلك الذين كانوا قبل قومك: الذين كذبوا رسلهم، أهلكوا إهلاك عقوبة وتعذيب، والذين صدقوا أهلكوا بآجالهم، لا هلاك عقوبة، وقد كانوا جميعا - المصدقين المكذبين - سواء في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، فدل أن هناك دارا أخرى يفرق بينهما، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ }:
قال أبو عوسجة: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ }: أي: صاروا في البلاد هل من مفر؟!.
وقال القتبي: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ }، أي: طافوا، وتباعدوا، { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي: هل يجدون من الموت محيصا؟ أي: مفرا.
ويحتمل: أي: تقلبوا في البلاد في تجاراتهم، فلا يجدون ملجأ يرد به هلاكهم.
يوعد بما ذكر أهل مكة أنهم لم يجدوا محيصا فكيف تجدون أنتم؟!
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } يحتمل وجوها:
أحدها: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ } أي: عظة ممن كان له قلب.
والثاني: فيما ذكر من إهلاك الأمم الحالية، وذهاب آثارهم بتكذيبهم الرسل لذكرى لمن ذكر.
والثالث: أي: فيما ذكروا من استواء المحسن والمفسد في هذه الدنيا، والصالح والطالح - لذكرى لمن كان له قلب أن هنالك دارا يميز فيها بينهما.
وقوله: { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }، أي: عقل وفهم.
أو لمن كان له قلب ينتفع به في التأمل والنظر.
وإنما كنى بالقلب عن العقل؛ لأن الناس اختلفوا:
بعضهم قالوا: إن القلب محل العقل.
وقال بعضهم: محله الرأس، لكن نوره يصل إلى القلب؛ فيبصر القلب الأشياء الغائبة بواسطة العقل؛ فلذلك كنى بالقلب عن العقل؛ لمجاورة بينهما، وهو سائغ في اللغة.
وقوله - عز وجل -: { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }، أي: يستمع وهو شاهد سمعه وقلبه، وأصله: أن القلب جعل للوعي والحفظ بعد الإدراك، والإصابة.
ثم أصل ما يقع به العلم والفهم شيئان:
[الأول:] التأمل والنظر في المحسوس.
والثاني: أن يلقى إليه الخبر وهو يستمع له، فكأنه يقول - والله أعلم -: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يطلب الرشد والصواب، وينظر، ويعي، ويحفظ.
أو { أَلْقَى ٱلسَّمْعَ }، أي: يستمع ما ألقي إليه وهو شاهد السمع والقلب؛ فتكون الذكرى لمن اختص بهذين، أو ينتفع به هذان الصنفان بالتأمل، فيرى بالعقل محاسن الأشياء ومساوئها.
أو يستمع حقيقة ذلك بالسمع، فيتذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ذكرنا فيما تقدم تأويل خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
وقوله: { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }، أي: من إعياء وتعب ونصب، وفيه نقض قول اليهود - لعنهم الله - صراحاً، ونفي إيهام المشبهة في قوله:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54]، وتبين المراد من قوله - عز وجل -: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54] أما نقض قول اليهود - لعنهم الله - فإنهم يقولون: خلق السماوا والأرض في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، وهم يتركون العمل يوم السبت لهذا، فالله - لعنم الله - فيكون رذّاً لقولهم صريحا.
وأما نفي إبهام المشبهة؛ قإنهم توهموا أن قوله:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54] على إثر خلق السماوات والأرض وما بينهما في آية أخرى: أن ذلك للراحة، فشبهوا الله تعالى بالخلق: أنهم إذا فرغوا من أعمال عملوها ثم استووا على شيء، إنما يستوون للراحة، فقالوا بالاستواء على العرش حقيقة، فالله تعالى نفى التعب عن نفسه في خلق السماوات والأرض؛ [فدل] على أن استواءه ليس للراحة حتى يراد به الاستقرار، كما في الشاهد بين الخلق وَبَيَّنَ تعاليه وبراءته عما توهمت المشبهة، وشبهوه بالخلق، وتبين بذكر الاستواء على العرش بعد ذكر خلق السماوات والأرض أن المراد منه التمام، أي: ثم ملكه بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما بخلق العرش، وبذكر الاستواء ويراد به التمام، والله أعلم.
قال أبو عوسجة: اللغوب: الإعياء، يقال: لغب يلغب لغويا فهو لاغب.
وأصله ما ذكرنا: أن خلق الله تعالى الأشياء لا لمنفعة له أو حاجة تقع له، ولا بالآلات، والأسباب التي بها يقع التعب والإعياء في الشاهد؛ إذ الإعياء إنما يلحق من فعله الحركة والانتقال والسكون، فأما الله تعالى إنما يخلق الأشياء بقوله: كن، ولا يلحقه شيء من ذلك، وهو قادر بذاته، فاعل لا بآلة وسبب؛ فأنى يقع له الإعياء والتعب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيرا.
وقوله - عز جل -: { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }، أي: فاصبر على ما يقولون فيك: إنك ساحر، وشاعر، ومجنون، ونحوه، فأمره بالصبر على ذلك، وألا يدعو عليهم بالهلاك.
ويحتمل: فاصبر على ما يقولون في الله من معاني الخلق، فلا تحاربهم، ولا تقاتلهم، ولا تدعو عليهم بالهلاك، ولكن اصبر؛ فإن الله تعالى ينتقم منهم لك.
وإنما أمر بالصبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سريع الغضب لله تعالى فيما عاين من المناكير وسمع، وكذلك جميع الأنبياء - عليهم السلام - لذلك أمره بالصبر فيما يقولون في الله أو فيه.
وقوله - عز وجل -: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ }.
قيل: بحمد ربك، أي: بالثناء على ربك؛ أي: أثن عليه بما هو أهله، وما يليق به.
وأهل التأويل يفسرون التسبيح في هذا الموضع وفي غيره من المواضع بالصلاة ، فمعنى قوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي: صل بأمر ربك، وإنما صرفوا التسبيح إلى الصلاة؛ لأن الصلاة من أولها إلى آخرها وصف الرب تعالى بالتعظيم والتنزيه والبراءة عن كل عيب قولا وفعلا.
ولأنه لو قام إلى الصلاة، فقد فارق جميع الخلائق بما هم فيه، كذلك إذا جئنا للركوع والسجود فارق جميع الخئلاق فيما هم فيه من الأمور، واعتزلهم، و اشتغل بمناجاة ربه - جل وعلا - فجائز أني كون تسميتهم التسبيح: صلاة؛ لهذا.
ويحتمل أن سموه: صلاة؛ لما أن في الصلاة تسبيحا.
وقوله - عز وجل -: { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } قال بعضهم: قبل صلاة الفجر، وقبل غروبها.
وقال بعضهم: صلاة العصر.
وقال بعضهم: صلاة العصر والظهر، لأنهما جميعا قبل غروب الشمس.
وقوله: { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } قال عامة أهل التأويل: هما ركعتان بعد المغرب، و[هو] جائز محتمل.
ويحتمل أن يكون إدبار السجوج ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ } [النحل: 48]، وتفيؤ الظلال إنما يكون بالنهار، وهو تسبيح الضلال؛ فمعناه: وسبحه وقت إدبار السجود لذلك الظلال، والذي أخبر أنه يتفيأ أن يفيؤه هو تسبيحه، وهو ما ذكر في قوله تعالى: { فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } [الطور: 52] إدبار النجوم: هو ذهب النجوم؛ فعلى ذلك قوله تعالى: { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } ، أي: سبحه بعد ذهاب سجود الظلال، فذلك إنما يكون بد ذهاب الشمس وغيبوبتها، والله أعلم.