التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
١٥
آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
١٦
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
-الذاريات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }، والإشكال: كيف ذكر أن المتقين في جنات وعيون، وهم يكونون في جنات، ويكونون في العيون بحيث يرونها، وتقع عليها أبصارهم، وينتفعون بها؟ وهو كقوله تعالى: { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } [الدخان: 53]، وإنما هم يلبسون السندس، فأما الاستبرق فهو البسط، وغير ذلك من الانتفاع به؛ فعلى ذلك ما ذكر من كون المتقين في جنات وعيون، يكونون في الجنة، وينتفعون بالعيون، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ }، أي: الذين اتقوا الشرك والكفر.
ويحتمل: الذين اتقوا مخالفة الله على الإطلاق: عملا، وقولا، وفعلا، واعتقادا.
ويحتمل: أي: الذين اتقوا المهالك.
وقوله - عز وجل -: { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: قابلين ما آتاهم ربهم في الدنيا من القدرة والقوة والمال بحق الله تعالى، والقيام بشكره، والعبادة له، والاستعمال في طاعته؛ لذلك قال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي: قبلوا ذلك بحق الإحسان، فاستعملوها في حق الله تعالى والقيام بطاعته.
وعلى هذا التأويل كأنه على التقيدم والتأخير: إن المتقين في جنات وعيون؛ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، آخذين ما آتاهم ربهم، أي: إنما نالوا الجنة؛ لما أنهم كانوا في الدنيا كذلك.
والثاني: ما قاله أهل التأويل: آخذين ما آتاهم ربهم في الآخرة، أي: راضين بما أعطاهم الله من النعيم في الجنة، وهو كقوله تعالى:
{ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [المائدة: 119]، وعلى هذا يخرج تأويلهم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } في الدنيا.
ثم نعت إحسانهم فقال - عز وجل -: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }.
قال أهل التأويل جميعا: أي: يصلون.
وإنما حملوه عليها؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، وذلك مرة بالصلاة، ومرة باللسان، ومرة بدفع المال.
ويحتمل حقيقة الاستغفار أيضا، وإنما مدحهم بذلك؛ لأن أرجى وقت الاستغفار وقت السحر؛ لما روي من ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال لنافع: "إذا كان وقت السحر فأعلمني به". فكان هو يصلي إلى وقت السحر، ثم يدعو ويستغفر في ذلك الوقت.
وقوله - عز وجل -: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } قال بعضهم: إن الآية في الزكاة، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة الصدقة المفروضة؛ إلا أن يقال: إن السورة مكية إلا هذه الآيات إن ثبت.
وجائز أن يكون ذلك الحق ليس هو المفروض، ولكن حق سوى الفرض.
وقيل: إن الآية نزلت في قوم خاص جعلوا على أنفسهم ألا يردوا سائلا ولا محروماً ولا يمنعوا أموالهم من أحد؛ فمدحهم بذلك؛ ألا ترى أن ذكر الحق للسائل والمحروم؛ وقد بين مصارف الزكاة للأصناف الثمانية بقوله تعالى:
{ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ... } إلى قوله تعالى: { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } [التوبة: 60].
ثم اختلف في تأويل المحروم والسائل:
قال عامة أهل التأويل: المحروم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة والفيء بألا يحضر وقت قسمة الغنيمة؛ فلا ينال شيئاً منها ويحرم عن ذلك.
وقال بعضهم: المحروم: الذي هلك زرعه وكرمه ببلاء اصابه، يحرم عن ذلك، كما وصفهم في سورة الواقعة:
{ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [الواقعة: 66-67] فلما حرموا زرعهم وصفوا بذلك.
وقيل: المحروم: الذي لا يعلم حرفة، وهو [لا يملك] كسبا، وهو محارف أيضا.
وقيل: المحروم: المتعفف الذي به فقر، لكنه لا يسأل الناس شيئا، والسائل: الطواف.
وعندنا: الفقراء ثلاثة: السائل الذي يطوف، ويسأل الناس.
والمعتر: الذي يعتر الناس، ويظهر حاجته للناس، ويتعرض للسؤال، ولا يسأل صريحا.
والمحروم: هو الذي يستر فقره وحاجته عن الناس، لا يسألهم، ولا يعتر لذلك.
ثم جائز أن يكون سماه: محروما، أي: حرم المكاسب وأسباب العيش من التجارة والحرفة وغيرهما.
وجائز أن تكون [له] المكاسب والأسباب، لكنه محروم عن إنزال المكاسب والأرباح في التجارة، يكتسب، ويعمل بتلك الأسباب، لكنه محارف، لا يرزق منها شيء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ }، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: في الأرض آيات ينتفع بها الموقنون، وهم المؤمنون الذي علموا الآيات بطريق الإيقان.
ويحتمل: في الأرض آيات يعلم الموقنون حقيقة أنها آيات، فأما غيرهم فلا، والله أعلم.
ثم يحتمل آيات الأرض: آيات التوحيد، وآيات البعث، وآيات القدرة، وغير ذلك؛ على ما ذكرنا: أنه خلق على وجه الأرض من الدواب، والأشجار، ومن النبات، وأنواع الثمار من غير أن عرف الخلق كيفية وجودها وماهيتها، وأنه لم يخلق مثلها للفناء خاصة؛ فتكون آيات؛ لما ذكرنا.
وقيل: في خلق الأرض آيات، وهو أن خلقها، وكانت تميد بأهلها، ثم أرساها بالجبال؛ حتى استقرت، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }.
صلة قوله: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } أي: وفي أنفسكم - أيضاً - آيات { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي: آيات الوحدانية والربوبية وآيات البعث وآية وجوب الشكر والعبادة والامتحان.
أما الآيات الربوبية، فهى أن الله تعالى أنشأ هذا البشر من نطفة، ثم قلب تلك النطفة علقة، ثم العلقة مضغة ثم المضغة عظاماً ولحما، ثم ركب فيها الجوارح في ظلمات ثلاث، ما رأى المصالح له في الاستواء والصحة، سليمة عن الآفات، غير متفاوتة، فدل أنه فعل واحد، لا عدد، وأن له القدرة الذاتية والعلم الذاتي لا المستفاد، وأن ما قبلهم من حال إلى حال، وما ركب فيهم [من] الجوارح التي بها يقبضون، وبها يأخذون، وبها يدفعون ويسلمون، وبها يبصرون ويسمعون، وبها يمشون، لم يفعلهم بهم؛ ليتركهم سدى ويهملهم ولا يمتحنهم، ولا يأمرهم، ولا ينهاهم، وأنه حيث سخر جميع الخلائق من السماء والأرض وما بينهما ما سخر إلا ليمتحنهم، وليستأذي منهم شكر ذلك كله.
وفيه آية البعث؛ لأنه لا يحتمل أن يكون منهم ما ذكرنا ثم لا يبعثهم؛ ليثاب المحسن منهم ويعاقب المسيء، ويجازي كلا بقدر عمله؛ إذ لو لم يكن، لكان خلقه إياهم عبثا باطلا؛ على ما ذكرنا في غير موضع.
وقيل: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } أي: في خلق أنفسكم، { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أنه كيف سوى أنفكسم على أحسن الصور، وأحسن التقويم بعد أن كان أصلها وجوهرها من ماء، وكذلك أصل جواهر الأنعام والبهائم من نطفة أيضاً، ثم ركبكم على صور صالحة لمنافعكم، وركبكم على أحسن الصور، ثم جعل فيكم من العقل والسمع والبصر ما يدرك بها حقائق الأشياء المحسوسة والمعانى الحكيمة؛ لتتأملوا في ذلك كله؛ فتكون آية الوحدانية آية إلزام الشكر والعبادة له، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }.
قال أبو بكر الأصم: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } أي: في السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر.
وقال الحسن وغيره: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أي: المطر الذي ينزل منها في الأرض، فنبت فيها بذلك المطر من أنواع الأرزاق من الحبوب، والثمار، والفواكه، وغيرها؛ كل ذلك سببه من السماء؛ لذلك أضيف إليها، والله أعلم.
وجائز أن يكون ما ذكر من أرزاقنا أنها في السماء: المطر وجميع ما سخر لنا فيها من الشمس والقمر والملائكة؛ حيث جعل صلاح ما في الأرض جميعاً من الأرزاق والأغذية بتلك الأشياء التي في السماء من الإنضاج بالشمس والقمر، وحفظ الأرزاق والأمطار بالملائكة؛ فإنهم جعلوا موكلين ممتحنين بذلك؛ حيث قال - تعالى -:
{ فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [الذاريات: 4] هي الملائكة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا تُوعَدُونَ } كل موعود: مرغوب أو مرهوب من السماء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ }.
يحتمل قوله: { إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي: الساعة القيامة.
ويحتمل { إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي: حميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }.
يحتمل أن يقول - والله أعلم -: كما أنكم لا تشكون فيما تنطقون؛ فعلى ذلك لا تشكون في أمر الساعة وقيامها وكونها؛ كما يقال: هذا ظاهر بين كالنهار.
وقال الزجاج: { إِنَّهُ لَحَقٌّ }، أي: لحق مثل حضوركم ونعلقكم ومثل النهار، أو كلام نحوه.
ويحتمل أن يقول: إن من قدر على إنطاق هذه الألسن وتكليمها حتى يفهم منها حاجتهم، وهي قطعة، وليس فيها شيء من آثار النطق والكلام؛ إذ يكون مثله للبهائم ثم لا يفهم منه ذلك، ولا يكون منه النطق - قدر على البعث والإعادة؛ إذ هذا في الأعجوبة أكثر وأعظم من ذاك، والله الموفق.