التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٤
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٢٥
فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ
٢٦
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ
٢٧
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ
٢٨
فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ
٢٩
قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ
٣٠
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٣١
قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٣٢
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ
٣٣
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
٣٤
فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٣٥
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٦
وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٣٧
-الذاريات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ }.
قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن حرف الاستفهام من الله تعالى على الايجاب والإلزام.
وقوله - عز وجل -: { هَلْ أَتَاكَ }، يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: قد آتاك حديث ضيف إبراهيم، فحاج به أولئك، وخاصمهم.
والثاني: لم يأتك بعد، ولكن سيأتيك حديث ضيف إبراهيم، فإذا أتاك به فحاج على أولئك الكفرة به، والله أعلم.
ثم قوله: { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } دل على أن اسم الضيف يقع على من يطعم ويتناول، وعلى من لا يطعم ولا يتناول؛ لأنه سمى الملائكة: ضيف إبراهيم، وإن لم يطمعوا، ولم يكن غذاؤهم الطعام.
وفيه أن الضيف اسم يقع على العدد والجماعة.
وقوله: { ٱلْمُكْرَمِينَ } سماهم: مكرمين؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يخدمهم ويقوم بين أيديهم؛ وذلك هو الإكرام الذي صاروا به مكرمين.
ويحتمل أن سماهم: مكرمين؛ لأنهم كانوا أهل كرم وشرف عند الله تعالى، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }.
وقال في آية أخرى:
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } [الحجر: 52].
ذكر هاهنا سلام الملائكة - عليهم السلام - ولم يذكر سلام إبراهيم صلوات الله عليه إنما ذكر وجله منهم، وذكر في الأول سلام الملائكة عليهم السلام وسلام إبراهيم - عليه السلام - وذكر إنهم قوم منكرون، وقال في آية أخرى:
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [هود: 70] قال بعضهم: إنما أوجس منهم الخيفة؛ لما خشى أن يكونوا سراقا لأنه كان بين إبراهيم - عليه السلام - وبين الذي انتابوا منه بصرف بعدي ما يحتاج المنتاب إلى طعام، فإذا امتنعوا عنه خاف أن يكونوا [سراقا]؛ إذ لا يمتنع عن التناول إلا السراق.
لكن هذا ليس بشيء؛ لأنه قد كان منهم السلام، والسلام أحد علامات الأمكان لكن يكون خوفه بعدما عرف أنهم ملائكة؛ لما علم أن الملائكة - عليهم السلام - لا ينزلون إلا لأمر عظيم لإهلاك قوم أو لتعذيب أمة، كقوله تعالى:
{ مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } [الحجر: 8]، وقوله عز وجل -: { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ } [الأنعام: 8] هذا يحتمل، والله أعلم.
ثم قوله: { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } جائز أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى أنهم قوم منكرون؛ أي: غير معروفين عندنا، لم ينعرفهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ }.
قيل: راغ: مال.
لكن قوله: { فَرَاغَ } أي: مال إلى أهله على خفاء من أضيافه وسر منهم؛ ولذلك سمي الطريق المختفي: رائغا، وهو من روغان الثعلب.
وقيل: زائغاً بالزاي.
وذكر محمد في بعض كتبه: "في زائغة مستطيلة"، وقيلأ: رائغة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ }، قوال في موضع آخر
{ جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [هود: 69] والحنيذ: هو المشوي.
وقيل: هو الذي يشوي في الأرض بغير تنور، والله أعلم.
وقال بعضهم: الحنيذ: الذي أنضج بالحجارة.
وقيل: الحنيذ: هو الصغير الذي كان غذاؤه اللبن لا غير، والله أعلم.
وما ذكر أهل التأويل في قصة إبراهيم - عليه السلام - "أنه لما قرب إليهم العجل قالوا: لا تأكله إلا بثمن، قال: قللوه وأدوا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله - تعالى - جل وعلا - إذا أكلتم، وتحمدونه إذا تركتم، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: لهذا أتخذك الله خليلا"، وغير ذلك من الكلام فنحن لا نذكر إلا قدر ما ذكره في الكتاب؛ مخالفة أن ندخل الزيادة والنقصان عما في كتبهم ويجد أهل الإلحاد في ذلك مقالا، وهذه الأنباء إنما ذكرت حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الرسالة، فإذا قيل في ذلك ما يخاف أن يكون في ذلك زيادة أو نقصان عما في كتبهم، كان الإمساك الكف عنه أولى.
وقوله - عز وجل -: { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }؛ لما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } لا لذلك أرسلنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } يحتمل قوله: { عَلِيمٍ } وجهين:
أحدهما: أي: بشروه بغلام يصير عليما إذا كبر.
والثاني: بشروه بغلام يولد عليما، يؤتيه الله تعالى علما في بطن أمه، وإذا ولد في صغره، ولله أن يؤتي العلم من يشاء في حال الصغر ةالكبر؛ ألا ترى أنه قال - عز وجل - في عيسى - عليه السلام -:
{ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم: 12]، فعلى ذلك يحتمل هذا والله أعلم.
ثم ذلك الغلام هو إسحاق - عليه السلام - لأنه بين في آية أخرى فيمن كانت البشارة؛ حيث قا ل:
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [هود: 71]؛ دل أن البشارة إنما كانت بإسحاق. ثم ذكر في سورة هو - عليه السلام - البشارة لامرأته، حيث قال: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [هود: 71]، وذكر في هذه السورة البشارة لإبراهيم - عليه السلام - بقوله { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ }، لكن جائز أنه لما بشرها بالولد، بشرها بالولد منه، فإذا بشر إبراهيم - عليه السلام - بالولد منها، وإذا بشر أحدهما بالولد من الآخر، فتكن البشارة لهم جميعاً، والله أعلم.
قال أبو بكر الأصم: دل قوله تعالى:
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ... } [هود: 71] إلى أن قال: { وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [هود: 72]: إسحاق أكبر من إسماعيل، لأنها لما بشرت بالولد أخبر أنها عجوز، وأنها عقيم وأن بعلها شيخ ولو كان إسماعيل هو الأول، وكان الآخر على قرب منه ليس بينهما زمان مديد، لم يكن يبلغ إبراهيم - عليه السلام - في ذلك المقدار من الوقت ما يخبر عن إياس الولد منه؛ دل أن إسحاق هو المقدم، وأنه كان أكبر من إسماعيل - عليه السلام -.
إلا أن هذا خلاف ما عليه أهل التأويل: أن إسماعيل - عليه السلام - كان أكبر من إسحاق عليه السلام.
وقوله - عز وجل -: { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا }.
ذكر هاهنا الإقبال، وقال في آية أخرى في سورة هود:
{ وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [هود: 71]، فجائز أنيكون على حقيقة الإقبال، ولكن لما ذكر فعلها - وهي الصرة، وصك الوجه - ذكر الإقبال، غير أن كان منها الإقبال من المكان أي: أقبلت فصكت وجهها في صرة؛ كما قال - عز جل -: { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } [الفرقان: 45] أمر بالرؤية النظر غلى الفعل الذي ذكر، وهو مد الظل، وإذا ذكر النفس دون الفعل، فالمراد منه النظر إلى نفسه لا غير، والله أعلم، فعلى ذلك هذا.
ثم قوله - تعالى -: { فِي صَرَّةٍ } أي: في ضجة.
وقوله: { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا }، أي: ضربت وجهها بيدها؛ تعجبا منها بتلك البشارة التي بشرت بالولادة.
وقوله: { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ }، وكانت كما أخبرت عجوزا عقيما.
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ }. أي: على علم بالحال التي أنت [عليها]، بشرت بذلك، لا عن جهل.
وقوله: { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ }، أي: حكيم، واضع الولد في موضعه، العليم بمصالح الأمور وعواقبها، والله أعلم.
وقوله: { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } أي: ما شأنكم؟ ولأي أمر أرسلتم: بالبشارة خاصة، أو لأمر آخر، أو لهما جميعاً؟ فأجابوا: { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ }، وقال في آية أخرى:
{ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 58-59]؛ كأن الاستثناء هاهنا لم يكن مذكورا في خبر الملائكة وإنما ذكر في الخبر الذي قال إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: { إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [العنكبوت: 32]، فدل ذكر الثنيا منهم بعد سؤال إبراهيم - عليه السلام - وإخباره إياهم: أن فيها لوطا: أن تأخير البيان عن الكلام جائز، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ }، دل قوله تعالى: { حِجَارَةً مِّن طِينٍ } على أن ما ذكر في آية أخرى:
{ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [هود: 82]: أن السجيل ليس هو اسم المكان على ما ذكر بعض أهل التأويل، ولكن السجيل اسم الطين؛ على ما ذكره هاهنا، وهو طين مطبوخ كالآجر؛ إلا أن يقال: هو طين حمل من مكان يسمى: سجيلا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مُّسَوَّمَةً } أي: معلمة { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ }.
ثم الإعلام يحتمل وجهين:
أحدهما: معلمة: مسومة باسم من تقع عليه ويهلك بها، أي: مكتوب عليها اسمه.
والثاني: معلمة في نفسها حتى يعلم كل أحد: أنها الهلاك جاءت، وأنها أرسلت لذلك مخالفة لسائر الأحجار، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
قوله: { فِيهَا } كناية عن قرية لوط.
وقوله: { غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } هو منزل لوط - عليه السلام - دل تسمية الملائكة - عليهم السلام - إياهم: مؤمنين، ومسلمين على أن الإسلام والإيمان واحد، وقد بينا جهة الاتحاد في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً }، أي: تركنا في قريات لوط - عليه السلام - التي أهلكتها آية عبرة لمن بعدهم، وهو ما ذكر في آية أخرى:
{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الصافات: 137-138] أي: إنكم لتمرون على أولئك الذين أهلكوا أو عذبوا بالليل والنهار، تعلمون أنهم بم أهلكوا؟ وبم عذبوا؟ بالتكذيب والعناد، والذيثن نجوا إنما نجوا بالتصديق والإسلام، وذلك آية لمن بعدهم.
ثم قال: { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } أي: يكون ذلك آية للذين يخافون العذاب الأليم، وهم المؤمنون، أي: هم المنتفعون بها، والله أعلم.