التفاسير

< >
عرض

وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً
١
فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً
٢
فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً
٣
فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
٤
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
٥
وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ
٦
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
١١
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
-الذاريات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن هذه الآية فقال: { وَٱلذَّارِيَاتِ } هي الرياح، { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } هي السحاب، { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } هن السفن، { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } هي الملائكة.
وعلى هذا خرج تأويل عامة أهل التأويل، إلا ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه قال: { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } هي الملائكة.
ثم يحتمل أن تصرف هذه الأحرف كلها من { وَٱلذَّارِيَاتِ } وغيرها إلى الرياح خاصة؛ فالذاريات من تذرى الأشياء ذورا { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } هن يحملن السحاب وغيره في الآفاق.
وجائز أن يصرف كل حرف من ذلك إلى نوع وجنس، على ما حمله أهل التأويل: وصرفوه إليه.
قال القتبي: ذرت الريح تذروا ذروا، ومنه قوله تعالى:
{ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } [الكهف: 45]، ومنه ذريت البر؛ لأن التذرية لا تكون إلا بالريح، وتذريت أي: أشرفت من الذروة، وذرى الرجل يذرى ذرى، فهو أذرى أي: أشمط، وشاه ذرا: إذا كان في ذنبها بياض.
{ فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } أي: سهلا، أي: تجري السفن في الماء جريا سهلا.
وقال أبو عوسجة، أي: هينا.
ثم المقسمات أمرا هم الملائكة، واختلفوا في التقسيم:
قال بعضهم: أربعة أملاك يقسمون الأمور؛ فجبريل - عليه السلام - ينزل في إنزال العذاب الشديد، وميكائيل ينزل في إنزال النعمة والرجاء والرحمة، وإسرافيل في نفخ الصور، وملك الموت في قبض الأرواح؛ فكل واحد من هؤلاء موكل في أمر على حدة.
وقال بعضهم: هم الملائكة الذين ينزلون بالوحي، يأخذ هذا من هذا، إذ لله تعالى أن يرسل الوحي على يدي من يشاء من ملائكته، والله أعلم
ثم اختلف في ذكر هذه الأشياء من الرياح والسفن، والسحاب والملائكة، لماذا؟ قال عامة أهل التأويل: إنما ذكرها على القسم بها.
وقال بعضهم: إنما ذكرها على سبيل تعداد النعم والمنافع التي جعلها الله لهم.
واحتج هؤلاء وقالوا: إن الله تعالى نهانا عن القسم بغيره، فكيف [يقسم] بغيره فيكون ذكر هذه الأشياء على الامتنان، لا على القسم.
والقائلون بالقسم اختلفوا: فمنهم من يقول: القسم بأعيان هذه الأشياء؛ لعظم منافع [هذه] الأشياء عند الخلق.
ومنهم من يقول: إن القسم بالله تعالى لا بعين هذه الأشياء؛ على الإضمار؛ كأنه قال: والذي ذرأ الذاريات ذروا، والذي خالق الحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، والمقسمات أمرا، وهو كقوله تعالى:
{ فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الذرايات: 23]؛ فيكون القسم يخالف هذه الأشياء لا بأنفسها، وكل واحد من الوجهين [محتمل]؛ لأن القسم خرج لرفع شبهة الكفرة، في البعث وأرتيابهم فيه بعدما أقام عليهم حجج البعث وبراهينه على أنه كائن لا محالة، ونظروا فيها لزوال ذلك الأرتياب والشبهة عنهم، والقسم؛ لتأكيد ما وقع عليه بما يكون عندهم له حرمة وقدر وعظمة، قيد لهم ذلك على التأكيد الخبر المقرون بالقسم، فالقسم من الله تعالى بأنه خالق هذه الأشياء المذكورة مما يجل ويعظم عند الكفرة، لما كانوا يقسمون بالله تعالى عند عظم الأمور، كما أخبر تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ } [الأنعام: 109]، فيصلح لتأكيد ما وقع عليهم القسم، وكذلك القسم بهذه الأشياء يصلح مؤكدا لعظم خطر هذه الأشياء عندهم؛ لما تجل منافع هذه الأشياء، وةالعرف في النار لهم إنما يقسمون بالذي عظم خطره، وجل قدره عندهم؛ فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء؛ لما عرف عظم خطرها ودليل قدرها عندهم، فمنافع الرياح مما يكثر عدها: قد أهلك بها أقواما، وبها استأصلهم، وبها تلقح الأشجار المثمرة وغيرها، وبها يساق السحاب في الآفاق للإمطار، وبها تجري السفن في البحار، وغيرها من المنافع، وبها سبب حياة الحيوانات بالتفنس، ودخول الريح فيهم، ونحوها في تذرية الطعام بحيث لولاها لتخرج النار في التذرية.
وفيها آيات؛ فإن الريح جسم لطيف يرى ولا يدرك؛ ليعلم أن الرؤية لا توجب الإحاطة والإدراك، وغير ذلك من جهة الآيات؛ على ما تقدم.
وكذلك أقسم بالحاملات وقرا، وهي السحاب الذي فيه منافع الخلق من حمل الأمطار، والتظليل في الحر، ونحو ذلك مع ما فيه من الآيات؛ إذهو يمسكه في الهواء حيث لا يقع بسوق الرياح مع ما فيه من الحمل والوقر، ثم يرسل المطر حيث أمر؛ إذ قد يوجد السحاب ولا مطر؛ دل أنه لم يرسل نفسه، بل بالأمر برفع ويمسك ويرسل، وهو في نفسه مُسَخَّر لا بد له من مُسَخِّر؛ إذ لو كان عمله بالطبع لم يختلف باختلاف الأحوال.
وفيه آيات البعث إذ خلق مثله لا يكون إلا لعاقبة، وكذلك أقسم بالجاريات يسرا، وهي السفن؛ لما فيها من منافع الخلق؛ إذ لولاها لانقطع بعض المنافع عن الخلق؛ إذ ما يحتاج المرء من المنافع لا يوجد في م كان واحد؛ بل خلقها متفرقة في أماكن، فطريق تحصيل هذه المنافع والحوائج شيئان: الحمل على ظهور الدواب في البر، وفي السفن في البحار، مع ما فيها من الآية العظيمة بما جعلها بحيث لا تتسفل في الماء مع ثقل الأحمال بل تجري به الريح حيثما شاءوا بأمر الله تعالى.
والملائكة منافعهم عظيمة ظاهرة، وعظم قدرهم و جلالة خطرهم وضاح.
وإذا كان كذلك، فكان القسم بهذه الأشياء؛ لتأكيد الخير المقسم عليه مما يعقل، وهو متعارف ولا معنى لقول أولئك: إنه نهى عباده عن القسم بغيره، فكيف يقسم نفسه؛ إذ يجوز أن يقسم هو بشيء ينهانا عنه القسم به؛ إذ القسم بالبشيء، يبجيل لتلك الأشياء وتعظيمها، وأنها لا تستحق التعظيم بأنفسها، بل الله تعالى، فأمرنا بالقسم بالله تعالى؛ إذ هو المستحق للتعظيم بنفسه في الحقيقة؛ إذ هو خالق الأشياء كلها، فأما القسم من الله تعالى بشيء ليس لتعظيم ذلك في نفسه، بل بيان منه قدر منافعه التي للخلق فيه، [و] التي عظمت، وجلت عندهم، فيكن لذكرها خطر عندهم، والله أعلم.
ثم ذكر أفعال هذه الأشياء التي أقسم بها، ولم يذكر أنفسها، والقسم إنما يكون بالأنفس، لا بالأفعال، فأما إن عرف أولئك الكفرة أنفس هذه الأشياء بذكر أفعالها وقت قرع ذكر هذه الأفعال سمعهم، وإذا لم يعرفوا يسألون عنها، وما أريد بها، والله أعلم.
وقوله عز وجل: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌ } هذا موضع القسم، والصدق إنما يستعمل في الخبر، فكانه قال: إن ما أخبركم الرسول بالبعث، أو وعدكم به، لصادق في خبره ووعده؛ إذ الوعد في الجملة مما قد يكون صدقا أو كذبا، فأكد هذا الوعد من الرسول بالقسم: إنه لصادق فيما وعد من البعث وغيره، وكذلك قوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌ } موضع القسم: أن الجزاء لواقع كائن.
وقيل: إن المراد من الدين الحساب، أي: إن الحساب لكائن لا محالة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ }، أقسم - أيضا - بالسماء ذات الحبك، وموضع القسم: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ }.
ثم اختلف في تأويل قوله تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ }.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } قال: حسنها واستواؤها.
وقال بعضهم: ذات حبك، أي: ذات بنيان مقتن محكم.
وكلا التأويلين يرجعان إلى واحد؛ فإن حسن خلق السماء بالإتقان والإحكام؛ يقال للحائك إذا أحسن النسج وأحكمه: حبك الثوب.
وقال الحسن: حبكت بالنجوم، وحبكت بحسن الخلق.
وقال بعضهم: ذات الشدة والاستواء، يقال: حبكت الحبل؛ إذا شددت فتله، كذلك قاله أبو عبيدة.
وقال القتبي: { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ }: ذات الطرائق، وكذلك قال أبو عوسجة.
ثم هو على ما ذكرنا من الوجهين: أن القمس بعين السماء، أو رب السماء، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } يخرج على وجوه:
أحدها: إنكم لفي قول مختلف في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي القرآن، ما لو كان ذلك القول منكم عن علم ومعرفة؛ لم يخرج مختلفا متناقضا؛ لأنهم قالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مفترٍ؛ وهذا مختلف متناقض؛ لأن الساحر هو الذي يبلغ في معرفة الأشياء غايتها، وكذا الشاعر، ولا يحتمل أن يبلغ المجنون ذلك المبلغ بحال؛ فيكو نسبتهم إياه إلى هذه الجملة في حال واحدة يخرج على التناقض، وكذلك قولهم في القرآن: إنه أحاديث الأولين، وأنه مفترى، والافتراء خلاف الأساطير، مع أنهم عجزوا عن إتيان مثله؛ فيكون هذا تناقضاً في القول؛ فدل اختلافهم في القول فيهما على أنهم قالوا ذلك عن جهل، لا عن علم؛ إذ لو كان عن علم بذلك، لكان لا يختلف ولا يتناقض، وهذا الخطاب على هذا التأويل يكون للكفرة.
والثاني: إنما قال ذلك في الدلالة على البعث: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } أي: في عقولكم الاختلاف والافتراق بين المصلح والمفسد، والمحسن والمسيء، وقد عرفتهم الاستواء بينهما في هذه الدنيا، دل أن هنالك دارا أخرى فيها يفرق بينهما ويميز.
وهذا التأويل لا يختص به الكافر؛ بل يعم الكل، والله أعلم.
والثالث: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ }، أي: قول متفرق، ومذهب متناقض؛ فإنهم كانوا يعبدون أشياء على هواهم، فإذا هووا شيئا آخر تركوا لك وعبدوا غيره، وكذلك يقولون قولا بلا حجة، ثم يرجعون إلى قول آخر، لا ثبات لهم على شيء، وهو كقوله تعالى:
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } [آل عمران: 105].
والرابع: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ }، أي: في أمر الآخرة؛ لأن منهم من يدعي أن الآخرة لهم لو كانت، ومنهم من يدعي الشركة مع المسلمين، فرد الله تعالى عليهم بقوله { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }، وهو كقوله تعالى:
{ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم: 35-36] ، وقال: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الحاثية: 21].
والخامس: يحتمل أن مواعيدهم ومنازلهم مختلفة في الآخرة، والله أعلم.
وذكر بعض أهل التأويل: أن الناس يأتون مكة من البلدان المختلفة؛ ليتفحصوا عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعوا كلامه، فكان كفار مكة يصدونهم عنه، ويقول بعضهم: إنه مجنون، وبعضهم: إنه كذاب، وبعضهم: شاعر، وذلك قوله تعالى: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ }.
وقوله - عز وجل -: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } يحتمل وجوها:
أحدها: أي: يصرف عن الحق من صرف عن النظر والتفكر في العاقبة.
والثاني: صرفوا عما رجوا في الآخرة، صرفوا عن الحق في الدنيا؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تقربهم عبادتها إلى الله تعالى وأنها شفعاؤهم عند الله تعالى، يقول تعالى: صرف عما رجا في الآخرة؛ لما صرف عن الحق في الدنيا، والله أعلم.
والثالث: يصرف من طمع في الآخرة الشركة مع المسلمين، أو ادعى الخلوص بما صرف في الدنيا عن الإيمان الذي به ينال الآخرة.
والرابع: { يُؤْفَكُ عَنْهُ } أي: عن الحق { مَنْ أُفِكَ }، أي: صرف عن الحق من صرف؛ كقوله تعالى:
{ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم... } الآية [التوبة: 127]، وقوله: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5].
وقوله تعالى: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ }: قال أبو بكر الأصم: الخراص: الذي يكذب على العقد.
ولكن عندنا: الخراص الذي يكذب، ويقطع على الظن، ومنه يقال للذي يقدم الشيء ويفرقه بالظن: خراص؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: { ٱلْخَرَّاصُونَ }.
ثم قوله: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } يحتمل حقيقفة القتل، وذلك يرجع إلى قوم خاص قتلوا.
والثاني: { قُتِلَ }، اي: لعن، واللعن: هو الطرد؛ اي: طردوا عن رحمة الله، وإما سمي اللعن: قتلا؛ لأن القتل سبب التبعيد عن مافع الحياة، وبالقتل خرج من أن يكون منتفعا به، واللعن هو الطرد عن رحمة الله التي بها تقع وتتحقق المنافع في الآخرة، والله أعلم.
وقال أهل التأويل: الخراصون: الكاذبون، وكذا قال أهل الأدب.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } اختلف في تأويله:
قال بعضهم: أي: في غفلة.
وقال بعضهم: أي: في غطاء وغشاء، كقوله:
{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الأنعام: 25].
وقوله - عز وجل -:
{ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } [المؤمنون: 63]، أي: في غطاء وغلف.
وقال بعضهم: أي: في عماية عن أمر الآخرة.
ولكن الكل يرجع إلى معنى واحد.
وقوله: { سَاهُونَ }، أي: ساهون عن الحق وعما دعوا إليه.
وقيل: { سَاهُونَ }، أي: غافلون.
وقيل: أي لاهون عن التوحيد والإيمان.
وقيل: { سَاهُونَ }، أي: تاركون الإيمان.
وأصل السهو هو الترك، وهو كقوله:
{ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، أي: تركوا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } الآية.
كانوا يسألون عن يوم القيامة سؤال استهزاء وعناد، لا سؤال استرشاد، لذلك قال الله تعالى: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد، لكان لا يأتيهم ذلك الوعيد؛ ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الإيمان والإسلام في حديث طويل، وسأله عن الساعة فلم يأته الوعد؛ فلا ذم في سؤاله وذلك؛ لأن سؤاله سؤال استرشاد، وقوم موسى - عليه السلام - لما سألوا رؤية الرب تعالى بقولهم:
{ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] فأهلكوا؛ لأنهم سألوا سؤال استهزاء وتعنت، لا سؤال استرشاد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا - أيضا - الرؤية، فبشروا ووعدوا في الآخرة؛ لما أنهم سألوا سؤال استرشاد، لا سؤال استهزاء، فعلى ذلك أولئك الكفرة سألوا عن القيامة سؤال استهزاء متى تكون الساعة التي تعدنا بها؟ وأين وقت العذاب الذي تعدنا به؟ لذلك قال جوابا لهم: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ }، والله أعلم.
وفي الآية دلالة على أن الحكم لا يبنى على ظاهر المخرج؛ فإنه لا فرق بين سؤال الكفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة وبين سؤال جبريل - عليه السلام - عن الساعة، ثم أجاب لجبريل - عليه السلام -:
"مال المسئول عنها بأعلم من السائل" ثم الجواب للكفرة: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ }، ثم من شهد النوازل علم المراد من النازلين: أن أحد السؤالين خرج على الاستهزاء، والآخرر على الاسترشاد؛ فحملوا أحد الجوابين على إحدى الحالتين، والآخر على الحال الأخرى؛ دل أن الحكم لا يبنى على ظاهر المخرج، ولكن يجب النظر؛ ليعرف المراد: إما بسؤال من شهد النازلة، أو من حيث المعنى المودع فيه، والله أعلم.
ثم قوله: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } يخبرهم عن اليوم الذي يفتنون فيه، وقيل فيه بوجهين:
أحدهما: { يُفْتَنُونَ }، أي: يبتلون، ويمتحنون بالشدة والعذاب، والفتنة: هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، فسمي العذاب: فتنة؛ لما فيه من الشدة.
وقال بعضهم: يفتنون، أي: يحرقون.
وقوله - عز وجل -: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ }، أي: ذوقوا العذاب [الذي] فيه الشدة.
وقوله - عز وجل -: { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }، أي: تستعجلون في الدنيا، وتزعمون أنه لا يكون في الآخرة.