التفاسير

< >
عرض

وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ
٤٤
فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ
٤٥
يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٤٦
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٧
وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
٤٨
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ
٤٩
-الطور

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ }.
يخبر عن عناد أولئك الرؤساء ومكابرتهم، وإنما قالوا ما قالوا على التعنت، لا على الاسترشاد، وأن هذه الآيات من قوله:
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ... } [الطور: 32] إلى قوله: - عز وجل -: { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } [الطور: 43] كلها محاجة مع أولئك الرؤساء المعاندين؛ يبين ذلك قوله تعالى: { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } يقول: إنهم وإن يروا ما توعدوهم من عذاب ينزل بهم يقولوا - لتعنتهم ومكابرتهم -: إنه سحاب، ليس بعذاب، وهو كما قال: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ } [الأنعام: 111]، يخبر عن عنادهم، وكقوله - عز وجل -: { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [سبأ: 9] لا يؤمنون، ويقولون: ما ذكر إنه سحاب مركوم؛ تعنتا ومكابرة.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عنهم وألا يشتغل بهم؛ لما علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو ما قال - عز وجل -: { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } يؤيس رسوله صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، ويأمره بالصبر على أذاهم، وترك المكافأة لهم، ويخبر أنهم لا يؤمنون إلا في اليوم الذي فيه يصعقون، أي: يموتون.
ثم قرئ قوله: { يُصْعَقُونَ } بفتشح الياء وضمه؛ فمن قال بالنصب، احتج بقوله:
{ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر: 68]، ولم قل فَصُعِق.
ثم يحتمل الصعقة التي ذكر: ما ذكرنا، أي: يموتون.
ويحتمل: أي: تنزل بهم الشدائد والأوجاع، ولكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم.
وقوله - عزو جل -: { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ }.
برسول الله صلى الله عليه وسلم عما ينزل بهم يومئذ؛ جزاء على كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل ألا يغنيهم من عذاب الله تعالى الأصنام التي عبدوها؛ رجاء أن تشفع لهم، أو تقربهم إلى الله زلفى؛ كما أخبر - عز وجل -، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ }.
قال أهل التأويل: أي: لمشركي أهل مكة عذاب دون عذاب النار، وهو القتل بالسيف يوم بدر.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ }، أي: للكفرة عذاب في الدنيا دون الذي ذكر في يوم القيامة؛ حيث قال: { حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ }، ثم قال: { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ }، وهم ما داما كفارا فهم في عذاب، يكونون في خوف وذل وخزي؛ فذلك كله عذاب الله ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
أي: لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة؛ لما لم ينظروا في أسباب العلم، ولم يتفكروا فيها؛ حتى يمنعهم ويزجرهم عن صنيعهم.
قوله - عز وجل -: { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ }.
دل هذا الحرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كلف أمرا شديداً شاقّاً عليه حتى قال: { وَٱصْبِرْ }؛ أذ الأمر بالصبر لا يكون إلا في أمور شاقة شديدة؛ ولذلك قال له:
{ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35] أمره بالصبر على ما كلفه، كما صبر إخوانه على ما لحقهم من الأمور الشاقة، وما قال { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [النحل: 127] أخبر أنه لو صبر إنما يصبر بتوفيق الله إياه، أو فيه، أنه إذا صبر يكون صبره لله تعالى؛ حتى يسهل عليه احتمال ذلك، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { لِحُكْمِ رَبِّكَ }، يحتمل وجوها:
أحدها: ما أمر من تبليغ الرسالة إلى الفراعنة الذين كانت همتهم القتل لمن خالفهم، فذلك أمر شديد؛ فأمره بالصبر على ذلك، والتبليغ إلى أولئك.
والثاني: أمره بالصبر على أذاهم واستهزائهم به، وترك المكافأة لهم.
ويحتمل أن يكون الأمر بالصبر على الأمور التي كانت عليه في خالص نهيه من احتمال غصة التكذيب، وحزنه على تركهم التوحيد والإيمان، وإنما ذلك كله حكم الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }.
أي: بمنظر وعلم منا، فإن كان الأمر بالصبر على القيام بتبليغ الرسالة إلى من ذكرنا؛ فيخرج قوله: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } مخرج وعد النصر والمعونة؛ كقوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67].
وإن كان الأمر بالصبر على ترك مكافأتهم، أو على القيام بالأمور التي فيما بينه وبين ربه تعالى؛ فيصير كأنه قال: على علم منا بما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء والأذى، كفلناك، لا عن جهل منا بذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ }.
أي: نزهه عن معاني الخلق، وعما لا يليق، واذكر الثناء عليه بما هو أهله.
وقوله - عز وجل -: { حِينَ تَقُومُ }.
يحتمل: ح ين تقوم من مجلسك، أو من منامك، أو حين تقوم للتعيش والانتشار.
فإن كان المراد: حين تقوم من مجلسك؛ فيكون التسبيح ما ذكر في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من جلس مجلساً كثر فيه لغطه، فليقل قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك" ولم يذكر الآية.
وإن كان المراد: حين تقم من منامك، فجائز أن يكون المراد منه: الصلاة.
وإن كان حين تقوم للانتشار والتعيش؛ فيصير كأنه أمر بالتسبيح بالنهار في وقت الانتشار؛ وعلى هذا قوله: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ } أي: سبح بالليل في وقت الراحة، فيصير كأنه قال: وسبح بحمد ربك في الأوقات كلها، بالليل والنهار، في وقت الراحة، وفي وقت الانتشار.
وروى الضحاك عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [تقول] في الصلاة المفروضة قبل أن تكبر: "سبحانك اللهم وبحمدك..." إلى آخر.
وورى الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة، قال ذلك؛ وذلك قوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ }.
وروى أبو سعيد وعائشة - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [كان] إذا افتتح الصلاة قال:
"سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"
]. وروي عن مجاهد أنه قال: حين تقوم من كل مجلس، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ }:
قال أهل التأويل: هو ركعتا الفجر [كما] روي عن جماعة من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً: أنه أراد بإدبار النجوم: الركعتين قبل الفجر، وأدبار السجود: الركعتين بعد المغرب، فإن ثبت فهو التأويل، فإن كان على هذا فهو يدل على تأخير صلاة الفجر؛ لأن إدبار النجوم إنما يكون ذهابها وانقضاءها، وذلك لا يكون بأول وقت طلوع الفجر، وإنما يكون وقت الإسفار؛ فيكون حجة لنا، والله أعلم.