التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
١
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
٢
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
١١
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ
١٢
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ
١٣
عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ
١٤
عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ
١٥
إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
١٦
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
١٧
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
-النجم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ }.
قيل: المراد: هو النجوم أنفسها، فأقسم بها على أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما ضل وما غوى؛ على ما قاله الكفرة؛ وبه يقول الأصم.
وقيل: أراد بقوله: { وَٱلنَّجْمِ }: نزول القرآن نجما فنجما، على التفاريق أقسم بالقرآن: إنه لم يضل، ولم يغو.
وقال مجاهد: أقسم بالثريا إذا غاب، والعرب تسمي الثريا - وهي ستة أنجم ظاهرة -: نجما.
وقال أبو عبيد: أقسم بالنجم إذا سقط في الغور؛ فكأنه لم يخص الثريا دون غيره.
فإن كان التأويل هو الأول فهو لما جعل الله تعالى للنجوم محلاًّ في قلوب الخلق وأعلاما يستخرجون بها جميع ما ينزل بالخلق، وما يكون لهم من المنافع والمضار من كثرة الأنزال والسعة والضيق، وما ينزل بهم من المصائب والشدائد، وما يكون من انقلاب الأمور، وما جعل فيها من المنافع من معرفة القبلة، وطرق الأمكنة النائية، ومعرفة الأوقات وغيرها مما يكثر عدها، فأقسم بنفسها، أو بالذي أنشأ النجوم، وما جعل فيها من المنافع: أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما ضل وما غوى.
وإن كان النجم هو النجوم التي أنزل القرآن فيها نجوما على التفاريق، فالقسم بالذي أنزل القرآن على التفاريق.
وقوله - عز وجل -: { إِذَا هَوَىٰ }؛ أي: سقطت، كقوله تعالى:
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] أي: بمساقطها.
والأشبه: أن يكون قوله: { إِذَا هَوَىٰ } أي: إذا سارت سيراً دائماً في سيرها؛ لأنها أبدا تكون في السير، وفي سيرها منافع الخلق من الاهتداء للطرق وغيرها، ولما ليس في مساقط النجوم وغيبوبتها كثير حكمة حتى يقسم بذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ }.
يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: ما ضل عما نزل به القرآن، وعما آمر به؛ لأنهم كانوا يدعون عليه الضلال: أن خالف دينهم ودين آبائهم، فقال: ما ضل عما أمر به، وما غوى.
والثاني: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ }؛ إذ ليس بساحر؛ ولا شاعر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنه شاعر وإنه ساحر، فقال: ليس هو كذلك ما ضل بالسحر، وما غوى بالشعر؛ على ما قال
{ وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } [الشعراء: 224] [بل] رشد واهتدى، وهو ما قال: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } أي: ما ينطق عما يهوي به نفسه؛ بل إنما ينطق عن الوحي بقوله: { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }، وإلا جائز أن يصرف قوله - عز وجل -: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } إلى الله تعالى؛ إذ الله تعالى قد أضاف تعليمه إلى نفسه بقوله - عز وجل -: { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرحمن: 1-2] لكن أبان بقوله: { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }: أن المراد غيره؛ إذ هو لا يوصف بأنه { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ }، وهو جبريل - عليه السلام - على ما قال أهل التأويل.
ثم أضاف التعليم مرة إلى جبريل - عليه السلام - ومرة إلى نفسه، فالإضافة إلى جبريل - صلوات الله عليه - لما منه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقف.
والإضافة إلى الله تعالى تخرج على وجهين:
أحدهما: أضاف إلى نفسه؛ لما أنه هو الباعث لجبريل إليه، والآمر له بالتعليم، والخالق لفعل التعليم من جبريل، عليه السلام.
والثاني: لما يكون من الله - سبحانه وتعالى - من اللطف الذي يحصل به العلم عند التعليم؛ ولهذا يختلف المتعلمون في حصول العلم مع التساوي في التعليم؛ لاختلافهم في آثار اللطف، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ... } الآية.
قال أهل التأويل: { ذُو مِرَّةٍ } أي: ذو قوة.
وقيل: { ذُو مِرَّةٍ } أي: ذو إحكام، وأصله من قوى الحبل، وهي طاقته، والواحد: قوة، وأصل المرة: الفتل.
وقوله: { فَٱسْتَوَىٰ } يحتمل { فَٱسْتَوَىٰ }، أي: محمد صلى الله عليه وسلم؛ لنزول الوحي إليه.
وقيل: { فَٱسْتَوَىٰ }، أي: جبريل - عليه السلام - على صورته؛ لما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه - عز وجل - أن يريه جبريل - عليه السلام - على صورته فاستوى جبريل على صورته، فرآه كذلك، وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } ثم يحتمل { بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أي: أفق السماء.
ويحتمل أن يكون الأفق الأعلى مكان الملائكة ومسكنهم، فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى [جبريل] على صورته في مكانه.
وجائز أن يكون الأفق ما ذكر في الخبر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرى جبريل في صورته، فسأله أن يراه، فقال: إن الأرض لا تسعني، ولكن انظر إلى الأفق الأعلى، فنظر فرآه.
وفي بعض الأخبار: إنك لا تقدر أن تراني في صورتي، ولكن انظر إلى الأفق الأعلى.
ثم جائز أن يكون ما ذكر من النظر إلى الأفق الأعلى؛ لما أن بصره كان لا يحتمل النظر إليه من قرب، ويحتمل ذلك من البعد، وذلك معروف فيما بين الخلق: أن الشيء إذا كان له شعاع أو نور أو بياض شديد: أن البصر لا يحتمل النظر إليه من القرب في أول ملاقاته، ويحتمل إذا كان يبعد منه؛ وعلى هذا قوله - عز وجل -: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } يحتمل: دنا منه جبريل - عليه الصلاة والسلام - شيئاً بد شيء، وقرب منه كذلك ليحتمله؛ إذ جبل الإنسان على طبيعة يحتمل الأشياء إذا انتهت إليه على التفاريق ما لو أئتته بدفعة واحدة في وقت واحد، لما احتملتها الأنفس؛ كالحر يأتي الخلق بعد شدة البرد شيئاً فشيئاً، وكذلك البرد بعد شدة الحر شيئاً فشيئاً حتى يشتد ما لو أتيا بدفعة واحدة إذا كان قريبا منه.
ويحتمل من البعد، ثم يقرب ويدنو قليلاً قليلاً حتى يحتمل من القرب، والله أعلم.
ثم من الناس من يقول: إن قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } على التقديم والتأخير؛ أي: تدلى قربا؛ لأ،ه يكون التدلي أولاً ثم الدنو منه.
ومنهم من قال: بل هو على ما قال، وهما سواء - أعني: التدني والدنو - بمنزلة القرب والدنو، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } اختلف فيه:
قال بعضهم: القاب: هو صدر القوس؛ أي: فكان قدر صدر القوس من الوتر مرتين.
وقال بعضهم: أي: قدر قوسين حقيقة.
وقال القتبي: قاب: قدر قوسين عربيين.
وقال أبو عوسجة: القاب: قدر الطول.
وقيل: القوس: الذراع هاهنا؛ أي: كان قدر ما بينهما ذارعين.
قال: والأول أعجب إليَّ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لقاب قوس أحدكم - أي: موضع قده - خير من الدنيا وما فيها" والقد: السوط.
فنقول: أيّ الوجوه كان ففيه دليل: أنه لم يكن جبريل - عليه السلام - يبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يحيط به؛ لأن الشيء إذا بعد عن البصر لعرفه بالاجتهاد، ولا يدركه حقيقة، وكذلك إذا قرب منه، حتى ماسه والتصق به، قصر البصر عن إدراكه، وإذا كان بين البعد والقرب، أحاط به وأدركه، فيخبر الله - تعالى - أنه أحط به علماً، وأدركه حقيقة، لا أن كان معرفته إياه بطريق الاجتهاد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَوْ أَدْنَىٰ }.
قال أهل التأويل: حرف "أو" شك، وذلك غير محتمل من الله تعالى، لكن معناه على الإيجاب؛ أي: بل أدنى.
وقال بعضهم: { أَوْ أَدْنَىٰ } في اجتهادكم ووهمكم، لو نظرتم إليهما، لقلتم: إنهما بالقرب والدنو قدر قوسين أو أدنى.
وقوله - عز وجل -: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ }، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير، أي: فأوحى جبريل ما أُوحي إليه إلى محمد عبده ورسوله، عليهما السلام.
والثاني: فأوحى الله - جل وعلا - إلى عبده جبريل ما أوحى هو إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله - عز وجل -: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ }.
قرئ: { كَذَبَ } مخفف الذال ومشددة؛ فمن قرأ بالتخفيف، أي: ما كذب عبده فيما رأى؛ أي: ما رأى حق.
وقال أبو عبيد: ما كذب في رؤيته، قد صدقت.
ومن قرأ بالتشديد، أي: لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذبا.
وعندنا: أي: ما رد الفؤاد ما رأى البصر، وأصله: أن الفؤاد مما يوعى به، يقول: قد وعى به ما رآى لم يتركه، ولم يضيعه.
وقيل: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ }؛ أي: ما علم، والرؤية: كناية عن العلم، لكن لو كان المراد منه: العلم فلا يحتمل ما ذكر { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }، ولا يتصور أن يع لم مرتين؛ وكذا ذكر أنه رأى ربه مرتين، ولا يحتمل العلم مرتين؛ فدل أن الحمل على العلم لا يصح.
وأصله عندنا: ما كذب الفؤاد ما رأى من الآيات؛ دليله ما ذكر في آخره:
{ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } وقال: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }؟
وعن الحسن: أي: رأى عظمة من عظمة الله، وأمرا من أمره.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "رأى جبريل - عليه السلام - على صورته مرتين"، أي: ما كذب الفؤاد ما رأى البصر جبريل - عليه السلام - ولقد رأه أيضاً مرة أخرى عند سدرة المنتهى.
ومنهم من قل: إنه رأى ربه على العيان بعينه، فهو خلاف ما ثبت من وعد الرؤية في الآخرة بالكتاب والسنة المتواترة، ولأنه لو رأى ربه تعالى على ما قالوا، لكن لا يحتاج إلى أن يرى آياته الكبرى؛ لأنه رؤية الآيات إنما يحتاج إليها عندما يعرف الشيء بالاجتهاد، فأما عند المشاهدة وارتفاع الموانع، لا حاجة تقع إليها، إلا أن يقال برؤية القلب على ما ذكر في الخبر:
"أنه سئل عن ذلك، فقيل: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيته مرتين بقلبي" .
وفي بعض الأخبار قال: "أما بعيني فلا، وأما بفؤادي، فقد رأيته مرتين" .
ويفسرون رؤية القلب بالعلم، ولكن الإشكال عليه ما ذكرنا؛ فإن ثبت الحديث فهو على ما كان وأراد لا يفسر ذلك، وكذلك قول من يقول في قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ }: إنه دنا من ربه - قول وحش، فيه إثبات المكان والتشبيه؛ تعالى من ذلك، ولكن المراد ما ذكرنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دنا من جبريل - عليه السلام - على ما ذكرنا.
ثم في قوله تعالى: { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ }، وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ ... } إلى آخره ذكر خصوصية رسولنا صلى الله عليه وسلم من بين غيره من الخلائق، منها: رؤية جبريل - عليه السلام - على صورته، ورؤية الرب تعالى بقلبه؛ إن ثبت الحديث عنه، وبلوغه إلى سدرة المنتهى؛ إذ لم يذكر لأحد من رسل الله تعالى: أنه بلغ هذا المبلغ سواه.
وقوله - عز وجل -: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ }.
عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قرآ مفتوحة التاء بغير ألف، ومعنه: أفتجحدونه؟!.
وعن الحسن بالألف مضمومة التاء، وقال: معناه: أفتجادلونه؟!
وعن شريح مثله
قال أبو عبيد: فالأولى أن يقرأ بمعنى الجحود؛ وذلك أن المشركين إنما كان شأنهم الجحود فيما يأتيهم من الخبر السماوي، وهو أكبر من الممارة والمجادلة.
وقيل: { أَفَتُمَارُونَهُ } أي: تشككونه على ما يرى؟
وقال أبو بكر الأصم: لا تصح القراءة بغير ألف ولا تأويله، إنما القراءة بالألف، وتأويله: أفتجادلونه؟!
ونحن نقول بأن تأويل ما ذكر من الجحود والقراءة صحيح، وتأويل من قال: أفتجادلونه على ما يرى؟! لا يحتمل؛ لأن مجادلتهم لا تكون فيما يرى، لكن يجادلونه على ما يخبر أنه برئ، إذ في الخبر يقع التكذيب، وبه يجادلونه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }.
فهو على ما ذكرنا من اختلاف الناس أن ما أيش هو؟ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ }.
قيل: سمي ذلك الموضع سدرة [المنتهى] لما انتهى إليه علم الخلق؛ فلا يجاوزه.
وقيل: لما انتهى إليه كرامات الخلق، لا تجاوز كراماتهم عنها.
وقيل: السدرة: الشجر، ويروون في ذلك خبراً مرفوعاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رأيت جبريل - عليه السلام - عند سدرة المنتهى، عليه كذا كذا من جناح" .
وقيل: سميت سدرة المنتهى؛ لما ينتهي إليها أرواح الشهداء.
ثم جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل - عليه السلام - أولاً عند سدرة المنتهى من الأرض: ما برفع الحجب عنه، وإما بزيادة قوة وضعت في بصره، ثم رآه مرة أخرى هنالك أيضاً بعدما رفع صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }.
قرئت بنصب الجيم وخفضه.
روي أنه قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - إن فلانا يقرأ بالخفض (عندها جِنة المأوى)، فقال سعد: ما كذا جنة الله، وقرأ بالفتح.
وعن الأعمش قال: قالت: من قرأ (حِنة المأوى)، فأجَنَّه الله.
وعن أبي العالية قال: سئل عنها ابن عباس - رضي الله عنه - فقال لي: كيف تقرؤها يا أبا العالية؟ فقلت: { جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } بفتح الجيم، فقال: صدقت، وهي مثل الأخرى:
{ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } [السجدة: 19].
وعن الحسن أنه قرأ { جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }، وقال: إنها من الجنان، وتصديقها حديث الإسراء: أنه أُرِيَ الجنة، وأدخلها.
قال: ودلت الآية: أن الجنة التي يأوي إليها المؤمنون في السماء.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }.
قال عامة أهل التأويل: يغشاها فراش من ذهب.
وكذا ذكر في خبر مرفوع "غشاها فراشا من ذهب".
ولكن لا تفسر ما الذي يغشى السدرة؛ بل نبهم كما أبهم الله تعالى إلا بحديث ثبت عن تواتر، والله أعلم.
وقال بعضهم في قوله تعالى: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }: أي: ما يغشى من أمر الله تعالى، ويروون خبرا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قا ل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما انتهت إلى السدرة رأيت ورقها أمثال آذان الفيلة؛ ورأيت نبقها أمثال القلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها، تحولت ياقوتاً" إن ثبت هذا الخبر، ففيه دليل: أن السدرة: شجرة، إذ ذكر ورقها، وفيه أن الذي يغشاها أمر الله تعالى.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }: الملائكة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ }.
قال أبو بكر: أي: ما قصر البصر عن الحد الذي أمر وجعل له، وما طغى وما جاوز عنه، أو كلام نحوه.
ويحتمل { مَا زَاغَ } أي: ما مال وما عدل يميناً وشمالاً، { وَمَا طَغَىٰ }: وما جاوز.
وقال أبو عوسجة: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ }، أي: ما مال، { وَمَا طَغَىٰ } من الارتفاع؛ طغى الماء: إذا ارتفع، يطغى طغيانا.
وقوله - عز وجل -: { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }.
جائز أن تكون آيات ربه التي ذكر أنه رأى: هو جبريل - عليه السلام - حيث رآه بصروته، وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود: أنه رآه بصورته مرتين، وتأول الآية، ويحتمل غيره من الآيات، ولكن لا نفسرها، والله أعلم.