التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
٢٢
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ
٢٣
-النجم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ ... } الآية.
يخرج تأويل هذه الآية على وجوه، وإلا ليس في هذا الموضع لظاهر قوله - عز وجل -: { وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } - جوابٌ، ولا لقوله: { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ }.
أحدها: أن يقول: أهؤلاء الذين تبعدونهم - من اللات والعزى ومناة - أخبروكم، وقالوا لكم: إنه اصطفى لنفسه البنات، ولكن البنين، وأن الملائكة بنات الله، ونحوه؟ أخذتم ذلك منها أو ممن أخذتم ذلك، وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب؟ وقد عرفوا أنها لم تخبرهم بذلك، فيذكر بذلك سفههم، ويقول: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } التي سميتموها: آلهة، وعبدتموها دون الله، ونسبتكم النبات إليه، والبنين إلى أنفسكم، ثم لم يذكر جوابها: أنه مَنْ أمرهم بذلك؟ ومن اختار لهم ذلك؟ أو ممن أخذوا ذلك؟
ثم قال: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ... } الآية؛ كأنه يقول والله أعلم: إنكم سميتموها: آلهة، واخترتم لأنفسكم البنين وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم، إنما هي أسماء سيمتموها أنتم وآباؤكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هى النفس والظن.
ويحتمل أن يقول: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ }، أمروكم بصرف شكر ما أنعم الله تعالى عليكم، وقبول ما وهب لكم من البنات؛ على ما أخبر أنها من مواهب الله بقوله تعالى:
{ { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } [الشورى: 49] ويرد مواهبه: ودفنها حيات، ودسها في التراب، ويصرف العبادة إلى غير المنعم، وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له.
ثم أخبر، وقال: { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } أي: تلك قسمة جوز وظلم؛ أي: صرف شكر المنعم إلى غير المنعم، وتوجيه العبادة [إلى] من لا يستحقها، ورد مواهبه.
على هذه الوجوه يشبه أن تخرج الآية، وإلا فلا ندري بظاهرها: ما تأويلها؟ وما جواب هذا الحرف؟ والله أعلم.
ثم قوله: { ٱللاَّتَ } قرأ مجاهد وغيره مشددة التاء، فقالوا: هو رجل كان يقوم على آلهتهم، ويلت لها السويق بالزيت، وفيطعمه الناس.
وروى ابن الجوزي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "كان يلت السويق للحاج".
ومن قرأه مخفف التاء جعله اسم الصنم؛ مثل: العزى، ومناة، وهي آلهة كانوا يعبدونها؛ ذكر قتادة في تفسيره: كان اللات بالطائف، والعزى ببطن نخلة، ومناة بقديد.
وقوله - عز وجل -: { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ }.
قال القتبي: هي في الأصل "ضَيْزَى" على وزن "فَعْلَى"، فكسرت الضاد للياء، وليس في النعوت "فِعْلى"؛ أي: قسمة جائزة.
وقال أبو عوسجة: { ضِيزَىٰ } أي: غير منصفة، والضيز في الأصل: الجور.
وقال أبو عبيدة: ناقصة.
وقال بعض الناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } ألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلا، [وإن] شفاعتهن لترتجى، ومثلهن لا تنسى".
ثم قال بعضهم: الغرانيق العلا: الملائكة.
وقال بعضهم: الأصنام التي يعبدونها على رجاء الشفاعة لهم بقوله:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18].
لكن لا يحتمل أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجري على لسانه ما ذكر، والله تعالى - قال:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44-47] ولو جاز أن يجري على لسانه، لتوهم منه التقول، وذلك بعيد، وقال في آية آخرى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [النساء: 65]، ولو جاز ذلك، لجاز أن يجري الله الكذب على لسانه؛ فلا يكون فيمن وجد من الحرج في قضائه ماذكر، وهو الكفر؛ دل أن ما ذكروه فاسد، فإن ثبت ما ذكر: أنه جرى على لسانه تلك الكلمات، أو ألقى الشيطان في قمه يريد بذلك: الغرانيق العلا شفاعتهن لترتجى عندهم وفي زعمهم، وهو كقول موسى - عليه السلام -: { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [طه: 97] أي: إلى إلهك الذي هو عندك إله، وإلا لا يحتمل أن يكون موسى - عليه السلام - يسمي المجل: إلها، وكقوله - تعالى -: { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [الصافات: 91] أي: إلى آلهة عندهم، وقوله - عز وجل -: { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص: 62] أنها شركائي، فقد ذكرنا هذا على التمام في سورة الحج في قوله - عز وجل -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ ... } الآية [الحج: 52]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }.
أي: ما أنزل الله على تسميتكم الأصنام: آلهة، وعبادتكم إياها، ونسبتكم البنين إلى أنفسكم والبنات إلى الله تعالى - من حجة وبرهان، إنما هو من هوى النفس والظن، وذلك قوله - تعالى -: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } في قولهم: الملائكة بنات الله، أو قولهم:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]، وتسميتهم الأصنام: آلهة، وظنوا أن آباءهم كانوا على الحق، واستدلوا على حقيقة ما كانوا عليه من الدين؛ حيث تركهم وما اختاروا ولم يهلكهم، وقالوا: لو كانوا على باطل ما تركهم على ذلك، واستدلوا بذلك - أيضاً - على رضاء منهم بذلك، وأمره إياهم؛ كما أخبر عنهم بقوله: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28] هذا ظنهم بالله تعالى.
وقوله: { وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ }، أي: يتبعون هوى النفس، فالنس ما تعرف [إلا] المنافع الحاضرة والمضار الحاضرة، فأما ما غاب عنها فلا يعرف، وإنما يعرف ذلك بالتفكر والنظر، وهي لا تعرف؛ لما تكره النظر والتفكر، ولا ترغب في الشدائد، ولا فيما يثقل عليها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ }.
أي: جاءهم من ربهم ما لو تفكروا ونظروا لاهتدوا، ولو اتبعوا الحق والهدى، لعرفوه.