التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ
٣٣
وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ
٣٤
أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
٣٥
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ
٤٢
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
٤٣
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
٤٤
وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٤٧
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
٤٨
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ
٤٩
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ
٥٠
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ
٥١
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ
٥٢
وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ
٥٣
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ
٥٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ
٥٥
هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ
٥٦
-النجم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ * وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أفرأيت الذي تولى كبراء الكفرة وعظماءهم، وأعطى قليلا من المال لضعفه أهل الإيمان؛ ليرجعوا عن الإيمان بمحمد والتصديق له، ويكذبوا عليه.
وقوله: { وَأَكْدَىٰ } أي: قطع عنهم في وقت أيضاً.
وكذا قال القتبي: { وَأَكْدَىٰ } أي: قطع، وهو من كدية الركبة، وهي الصلابة فيها إذا بلغها الحافر يئس من حفرها؛ فقطع الحفر.
وقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلغ، أو أعطى فلم يتم: أكدى.
وقال أبو عوسجة: أكدى: بخل، ورجل مكدٍ: بخيل.
وقوله: { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ }، فهو - والله أعلم -: أعنده علم الغيب؛ فيأمر بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويأذن له بالتولي عنه، وإعطاء المال على التكذيب له؛ أي: ليس عنده علم الغيب؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل والكتب، وأسباب العلم هذا.
وقوله - عز وجل -: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ }، كأن هذا مقطوع من الأول؛ كأن أولئك الكفرة يقولون لأتباعهم: إنا نتحمل عنكم الظلم والوزرا؛ فلا تأنوا محمداً ولا تصدقوه؛ كقوله - تعالى - حكاية عنهم:
{ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [العنكبوت: 12]، فقال عند ذلك: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } ، أي: قد بينا في صفحها: ألا تزر وازرة وزر أخرى.
وقيل: لأنه كان يصلي أربع ركعات عند الضحى، وعلى ذلك يروون خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أتذرون ما وفى؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، [قال]: وَفَّى أربع ركعات [عند] الضحى" .
فإن ثبت هذا اكتفى عن [أي] تأويل آخر، وأصله: أ نه سماه: وفيّاً؛ لما قام بوفاء ما أمر به.
وقوله - عز وجل -: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } فيه أن هذا في الكتب كلها: في صحف إبراهيم، وموسى، وغيرهما من الكتب: ألاَّ يحمل أحد وزر آخر، إنما يحمل وزر نفسه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لا يؤخذ الرجل بذنب غيره.
وعن عمرو بن أوس قال: كان الرجل يؤخذ في الجاهلية بذنب غيره حتى نزلت الآية.
وقوله - عز وجل -: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ... } الآية.
يشبه أن يكون قوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي: ليس على الإنسان إلا ما سعى؛ لأنه - جل وعلا - يثيب ويعطي الزيادة على ما سعى بفضله وكرمه؛ كقوله - تعالى -:
{ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160]، ونحو الصغار الذين لا سعي لهم، قد يعطيهم الثواب بفضله، وأما جزاء الشر، فإنه لا يكون إلا بالمثل؛ كقوله - تعالى -: { فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا } [غافر: 40].
وجائز أن يكون "له" بمعنى "عليه" في اللغة؛ كقوله - عز وجل -:
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7] أي: فعليها.
ويحتمل أن تكون الأية في أولئك الكافرين الذين نزل فيهم قوله - تعالى -: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } يقول: ليس لذلك الإنسان إلا ما سعى.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ }، وحرف { سَوْفَ } من الله - سبحانه وتعالى - على التحقيق والإيجاب؛ كحرف "لعل" و"عسى"؛ فيكون قوله - تعالى -: { سَوْفَ يُرَىٰ } أي: يرى جزاء عمله لا محالة.
ثم قوله - عز وجل -: { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } جزاء الآخرة على الوفاء، لا نقصان فيه، خيرا كان أو شرّاً.
ويحتمل أن يكون ذلك للكافر يجزى جزاء الشرك وجميع ما يعمل من السوء، فأما المؤمن، فإنه يكفر سيئاته، ويجزي جزاء الخيرات؛ كقوله - تعالى -:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [الأحقاف: 16].
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } سمى الآخرة: منتهى، ومصيراً، ورجوعا.
ويحتمل: أي: إلى جزاء ربك يُنْتهى.
وقوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } بين الله - جل وعلا - قدرته وسلطانه في إنشاء أنفسهم، وأحوالهم، وأفعالهم.
أما بيان قدرته في أنفسهم حيث قال:
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النجم: 32].
وأما بيان قدرته في أحوالهم ما ذكر من قوله - تعالى -: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ }، { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا }.
وأما في أفعالهم قوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } يذكر قدرته وسلطانه بما ذكر؛ ليعلموا أنه لا يعجزه شيء.
ثم قوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } يخرج على وجهين:
أحدهما: على الكتابة والاستعارة؛ جعل الضحاك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الخوف، وكذا العرف في الناس له إذا اشتد بهم السرور ضحكوا، وإذا اشتد بهم الحزن بكوا.
والثاني: على حقيقة الضحك والبكاء؛ فهو على وجهين:
أحدهما: أي: أنشأهم بحيث يضحكون ويبكون.
والثاني: يخلق منهم فعل الضحك والبكاء؛ فهو أشبه التأويلين عندنا.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا }.
قوله: { أَمَاتَ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: جعلهم بحيث يموتون، وبحيث يحيون.
والثاني: أمات بإخراج روحهم، وأحيا بإدخال الروح فيهم، وهو كقوله - تعالى -
{ خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك: 2]، وقوله - عز وجل -: { خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الروم: 40]، فيحتمل إماتتهم في الدنيا وإحياءهم في الآخرة، وأصل ذلك: أنه يفعل بهم كل ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } اسم الزوج يحتمل الشكل، ويحتمل المقابل؛ أي: يجعل أحدهما شكلا للآخر وإن ك ان ضدين؛ يقول: جعلهم بحيث يتزاوجون ويتشاكلون، أو يتقابلون ويتضادون،، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } أي: تقذف.
قال الأصم: دل قوله: { نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ }: أنها إذا لم تقذف تصير: مذيا، وإنما تقذف التي تخرج على شهوة، فأما التي تخرج لا على شهوة فإنه يكون مذيا، ولا يوجب الاغتسال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } أي: في الحكمة عليه النشأة الأخرى؛ لأنه لو لم تكن النشأة الأخرى، كانت النشأة الأولى باطلا، عبثا، غير حكمة.
أو يقول: إن عليه النشأة الأخرى؛ ليعلم أن له قدرة عليها كما له القدرة على الأولى؛ لأن أولئك الكفرة كانوا مقرين بالأولى والقدرة عليها، وينكرون الأخرى؛ فيخبر أن له القدرة عليهما، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } الآية.
يحتمل قوله: { أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ }، أي: وسع عليهم { وَأَقْنَىٰ }، أي: سيَّر لهم ما يقتنون من الخدم وغيرها؛ فيكون الإغناء هو التوسيع بأنواع الأموال، والإفناء هو إعطاء القنبة من الخادم وما يحتاج إليه للمهنة؛ فيكون في جعل الخدم له فضل حاجة، لا غناء، وذلك دليل على صحة مذهبنا في استجازتهم دفع الزكاة إلى من له الخدم.
وقيل: { أَغْنَىٰ } أي: أعطى ما يغنيه ويستغني به، { وَأَقْنَىٰ } أي: أقنعه، وأرضاه.
وقيل: على العكس: أغنى، أي: أرضى، وأقنى: أي: أخدم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - { أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ }، أي: أكثر.
وقال عطاء: ابنَ آدم، هو أغناك وأقناك، أي: أعطاك الخدم؛ على ما ذكرنا.
وقال القتبي: هو من القنية، وهي الكسب؛ يقال: أقنيته كذا.
وقال أبو عوسجة: هو من القنو؛ فنى: - أعطاه مالاً - يقنى قنوا.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } قيل: إن الشعرى: اسم كوكب كان يعبده بعض العرب؛ فكأنهم ظنوا أن ما في ذلك الكوكب من الحسن والجمال؛ لِقَدْرٍ له عند الله ومنزلة، وأن تدبيرهم يرجع إليه؛ فعبدوه لذلك.
ويحتمل أنهم عبدوه؛ لما لم يروا لأنفسهم أهلية لعبادة الرب - تعالى - فعبدوه من دونه؛ وجاء التقرب إليه؛ على ما يخدم المرء المتصلين بملوك الأرض.
ولكن هذا فاسد؛ لأن من خدم المتصلين بملوك الأرض إنما يخدم لما لم يسبق لهم إليهم من خدمة متصلة، ولا الإذن بعبادة أنفسهم وخدمتهم، فأما الله - تعالى - قد أمرهم بعبادة نفسه، ونهاهم عن عبادة غيره؛ فلم يسع لهم بعد الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره عبادة من دونه.
ذكر سفههم في عبادتهم الشِّعْرَى وأمثالها؛ أي: اعبدوا رب الشعرى؛ فإن ما فيه من الحسن والجمال هو الذي فعل، فإليه اصرفوا العبادة.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ }، قرئ: { عَاداً ٱلأُولَىٰ } بإظهار التنوين والهمزة، وبغير الهمزة ولا إظهار التنوين؛ حتى تصير كأنها لام مثقلة.
ثم هذا ليس نوع ما ذكر من قبل، إنما ذكر هذا لهم؛ لينزجروا عن صنيعهم؛ أي: إذ أهلك عادا وهم أشد منكم قوة، وأكثر عدداً وأموالاً، فلما لم ينزجروا بمواعظ الرب - تعالى - أهلكهم، فعلى ذلك يفعل بكم يا أهل مكة؛ إن لم تتعظوا.
أو إنه أهلك عادا فلم يتهيأ لهم القيام بدفع عذاب الله - عز وجل - مع قوتهم، فكيف أنتم يا أهل مكة؟!
ثم اختلفوا في قوله - تعالى -: { عَاداً ٱلأُولَىٰ } منهم من قال: كانوا عادَيْنِ:
أحدهما: قوم هود، وهم أول، فأهلكوا بالريح، وكانت أخرى في زمن فارس الأول.
ومنهم من قال: عاد الأولى: الذين أهلكوا من قبل من الأمم، وأهل مكة وهؤلاء عاد أخرى.
وقوله - عز وجل -: { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } أي: أهلك ثموداً أيضاً.
وقوله: { فَمَآ أَبْقَىٰ } قال بعضهم: أي: استأصلهم لم يبق منهم أحداً؛ أي: ما أبقى لهم نسلا يذكرون بذلك بعد هلاكهم، كما أبقى الأنبياء والرسل - عليهم السلام - من السنل.
أو ما لهم من آثار الخير شيئاً كما أبقى للرسل وأتباعهم إلى آخر الأبد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ }، أي: كانوا أفحش ظلما، وأكثر طغيانا، لأن نوحا - عليه الصلاة والسلام - دعاهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما زادهم إلا نفورا واستكبارا؛ على ما أخبر:
{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 6].
وقوله - عز وجل -: { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } قيل: قريات لوط - عليه السلام - أي: أهلكها أيضاً.
وقوله: { أَهْوَىٰ } قيل: أي: أهوى إلى النار.
وقيل: أي: أهوى من السماء إلى الأرض؛ على ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - رفعها إلى السماء وأرسلها إلى الأرض.
وقوله - عز وجل -: { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ }.
قيل: غشاها بالحجارة بعد ذلك، فسواها بالأرض.
وقيل: غسى بالحجارة مسافريهم ومن غاب عنهم.
وقيل: المؤتفكة: المكذبة؛ من الإفك وهو الكذب.
وقيلأ: المنقلبة؛ ائتفكت: أي: انقلبت، { فَغَشَّاهَا } أي: غشى قريات لوط - عليه السلام - من العذاب ما غشى أولئك الذين ذكر من قبل من عاد، ومن قوم نوح؛ وهو قول القتبي.
وقال أبو عبيدة: المؤتفكة: المخسوفة.
وقوله - عز وجل -: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } فظاهر هذا وظاهر قوله - تعالى -:
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 13] مشكل؛ لأنه ذكر آلاء، ولو عرف أنها ألاء ربه، لكان لا يكذبه، لكن يخرج على وجوه: على التقديم والتأخير والإضمار؛ كأنه يقول: فبأي آلاء من آلاء ربكم شاهدتموه وعاينتموه تتمارون، وكذلك: فبأي آلاء ربكما الذي أقررتم به تكذبونّي.
أو يقول: فبأي آلائه وإحسانه تتمارى، فكيف أنكرتم إحسانه بمحمد صلى الله عليه وسلم؟!
أو كيف صرفتم شكر نعمه إلى غيره.
أو تكون الاَلاء هاهنا هي الحجج؛ يقول: فبأي حجة من حجج ربك تنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو تتمارى فيها؛ أي: لا حجة لك في تكذيبك إياه أو إنكارك رسالته.
وقوله: { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ }، أي: الذي يدعوكم وينبئكم محمد صلى الله عليه وسلم من النذر الأولى التي أنبأها الرسل الأولون، وأوعدوا قومه؛ فيكون صلة قوله - عز وجل - { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ... } إلى آخره.
وقيل: { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } أي: الرسل الأولى، وتمام هذا التأويل: أي: هذا نذير من البشر كالذين كانوا من قبل.
وقيل: هذا الذي ينذر محمد صلى الله عليه وسلم هو من النذر التي في اللوح المحفوظ، أي: مما ينذر به، والله أعلم.