التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ
٩
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ
١٠
فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
١١
وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
١٢
وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
١٣
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ
١٤
وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
١٥
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٦
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
١٧
-القمر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } يقول - والله أعلم -: كذبت قبل قومك قوم نوح نوحا - عليه السلام - وآذوه، فصبر على التكذيب وأنواع الأذى، ولم يدع عليهم بالهلاك ما لم يرد الإذن بالدعاء عليهم بالهلاك من الله - تعالى - فاصبر أنت على تكذيب القوم وأنواع الأذى، وهو كقوله تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35].
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار هذه الأنباء في القرآن، ولم يكرر ما فيه من الأحكام؟
قيل: إن هذه الأنباء والقصص إنما جاءت لمحاجة أهل مكة وأمثالهم من الكفرة في إثبات الرسالة والتوحيد والبعث؛ إذ هم المنكرون لهذه الأشياء، وهم كانوا أهل عناد ومكابرة، وفيهم - أيضاً - مسترشدون، ومن حق المحاجة مع [من] ذكرنا وأمثالهم أن تعاد الحجة مرة بعد مرة؛ لعلهم يقبلونها في وقت، وتنجع في قلوبهم في وقت، وإن لم تنجع في وقت، ومن حق الموعظة للمسترشدين - أيضاً - أن تكرر ليتعظوا؛ إذ يختلف ذلك باختلاف الأحوال، وقد ذكرنا فوائد تكرارها واقتصار الأحكام فيما تقدم، والله أعلم.
فإن قيل: إن نوحا - عليه الصلاة والسلام - قد دعا على قومه بالهلاك.
قيل: إنما دعا على قومه ب الهلاك بعدما أيس من إيمانهم؛ حيث قيل:
{ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36]، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤيسه عن إيمان قومه جملة؛ إنما يؤيسه عن بعض بطريق التعيين، وهم قوم علم الله أنهم لا يؤمنون، لا عن الكف؛ فلذلك لم يؤذن بالدعاء عليهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } يحتمل: كذبوه فيما ادعى لنفسه الرسالة.
أو كذبوه فيما دعاهم إليه بالتوحيد وتوجيه الشكر إلى الواحد القهار.
وقوله - عز وجل -: { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ }، أي: قالوا لأتباعهم: إنه مجنون.
وقوله - عز وجل -: { وَٱزْدُجِرَ }، أي: نوح - عليه السلام - حيث قالوا لقومهم: لا تتبعوه، وزجروهم عنه بقولهم: إنه مجنون؛ فهذا منهم زجر لأتباعهم عن اتباعه؛ فصار لذلك نوح - عليه السلام - مزدجر عن القوم، وصار القوم مزدجرين عنه.
وقال بعضهم: زجروا نوحا - عليه السلام - أي: منعوه عن إظهار ما أتاهم من الآيات على رسالته، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ }، أي: مغلوب بالسفه والمكابرة وأنواع الأذى؛ إذ لا يحتمل أن يكون مغلوبا بالحجج، فانتصر لعبدك عليم.
وقوله - عز وجل -: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } يحتمل قوله - تعالى - { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ } أي: من فوق؛ لأن ما كان من فوقك فهو سماء؛ فيحتمل أن يكون ذلك من البحر بفوق الذي ذكر أنه بين السماء والأرض.
{ وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً }، أي: أنبعنا الماء من الأرض؛ كأنه قال: أنزلنا الماء من فوق، وأبنعنا من أسفل.
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ } هو حقيقة فتح السماء وإنزال الماء منها، والله - تعالى - قادر أن يرسل الماء مما يشاء، وكيف [شاء]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } قيل: منصب.
وقال أبو عبيد: { مُّنْهَمِرٍ }، أي: كثير سريع الانصباب؛ يقال: همر الرجل: إذا أكثر في الكلام، فأسرع.
وقال أبو عوسجة: انهمرت السماء وهمرت، اي: أمطرت؛ فأكثرت.
وقوله - عز وجل -: { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } يذكر أن الماءين جميعاً: ما أرسل من الفوق، وما أخرج من التحت - على تقدير وتدبير، لا جزافا، وهو كقوله - تعالى -:
{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } [طه: 40] أي: على تقدير وتدبير من الله تعالى جئت، لا على غير تقديم منه.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (فالتقى الماءان على أمر قد قدر).
وقال بعضهم: { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي: قد قدر لهم أن يغرقوا بالماء إذ كفروا.
وقال بعضهم: { قَدْ قُدِرَ } أ ي: استوى الماء نصفه من عيون الأرض، ونصفه من السماء، وأصله ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }، وذكر في حرف حفصة - رضي الله عنها - (وحملنا وذريته على ذات ألواح ودسر)، ذكر - هاهنا - ذات ألواح، وذكر في آية أخرى السفينة بقوله - تعالى -:
{ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [يس: 41]، ونحوه؛ فيكون { ذَاتِ أَلْوَاحٍ } تفسير السفينة، ولو لم يفهم من { ذَاتِ أَلْوَاحٍ } السفينة؛ إذ ذات الألواح قد ترجع إلى الأشجار وغيرها، لكن كان تفسير السفينة بما ذكرنا، والله أعلم.
ثم اختلف في قوله - تعالى -: { وَدُسُرٍ }:
قال أهل التأويل: الدسر: المسامير التي تشد بها السفينة.
وقيل: الدسر: أضلاع السفينة.
وقيل: صدرها.
وقال الحسن: هي السفينة؛ لأنها تدسر الماء بجؤجئها.
قال أبو معاذ: واحد الدسر: دسار، وجمع الجؤجؤ: الجآجئ، وهي الصدور.
ثم في قوله: { وَحَمَلْنَاهُ }، وتسميته هذه المصنوعة: سفينة - دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - لأنهم هم الذين ركبوا السفينة، ثم أخبر أنه هو الذي حملهم، وكذا الخُشُب المجتمعة لا تسمى: سفينة، إنما سميت بهذا الاسم الخاص بعد الإيجاد والصنعة الموجودة من العباد؛ دل أن الله في فعل العباد صنعا، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي: بتقديرنا وبحفظنا.
وقوله: { لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي: حمل نوحاً - عليه السلام - وأتباعه في السفينة ونجاهم من الغرق جاء ما كفروا به قومه؛ كذا قال عامة أهل التأويل: إنه أخبر لنوح - عليه السلام - حين كفر به قومه فلم يؤمن به قومه.
وقال مجاهد: جزاء لمن كان كفر بالله - تعالى - أي: الغرق جزاؤه؛ لما كفروا بالله تعالى.
وقال أبو معاذ: وقرئ: (جزاء لمن كان كَفر) بنصب الكاف، وتأويل هذه القراءة: أي: إهلاك من أهلك من قومه؛ جزاء لما كفروا بالله - تعالى - أو بنوح - عليه السلام -.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } يحتمل وجهين:
أحدهما: تركنا سفينة نوح - عليه السلام - بعينها مدة طويلة حتى صارت آية لأواخرهم ولمن بعدهم؛ وبه يقول قتادة؛ قال: أبقى الله - تعالى - سفينة نحو - عليه السلام - بينة للمسافرين من أرض الجزيرة حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها، فصارت رماداً.
والثاني: تركنا آية آثار تلك السفينة وأبناءها آية لمن بعدهم؛ لأن أنباءها قد بقيت في المتأخرين حتى عرفوا أن من نجا لم نجا؟ ومن هلك لم هلك؟ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } عن الأسود قال: قلت لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أو (مُذَّكر)؟ فقال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم مدكر بالدال.
قال أبو عبيد: وأصله في العربية: "مدتكر"، فإنه من باب الافتعال على وزن مفتعل، فثَقُل لاجتماع التاء والدال، فأدغم الحرف الأول - وهو الدال - في التاء؛ فانقلب دالا، وهو كقوله: "ادخر"، أصله: "اتدخر"، من "الدخر" لما قلنا، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { مُّدَّكِرٍ } أي: هل [من] متذكر متعظ، يتعظ بما نزل بأولئك فينزجر عن مثل صنيعهم.
[و] قال قتادة: فهل من طالب خير؛ فيعان عليه.
وقوله - عز وجل -: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } يخرج على وجهين:
أحدهما: أليس ما وعد لهم رسلي من العذاب بالتكذيب مصدقاً حقّاً، وأريد بقوله: { وَنُذُرِ } أي: رسلي.
والثاني: أليس وجدوا عذابي شديداً ونذري ما وقعت به النذارة، وهو العذاب الذي أنذروا به، والنذر على هذا التأويل المنذر به؛ كقوله - تعالى -:
{ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [الإسراء: 5] أي: موعودا، ولا وعده لا يكون مفعولا، إذ هو صفة أزلية".
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } هذا يحتمل وجوها:
أحدها: { يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي: للحفظ، أي: صيرنا، بحيث يحفظه كل أحد من صغير وكبير، وكافر ومؤمن وكل أحد يتكلف حفظه.
والثاني: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي: لذكر ما نسوا من نعم الله - تعالى - عليهم، ولذكر ما أنبأهم فيه من أخبار الأوائل من مصدقيهم مذكر.
والثالث: جائز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة؛ أي: يسرناه عليه حتى حفظه كله على ظهر قلب؛ حتى إذا أراد أن يذكر شيئا منه يذكر في كل وقت وكل ساعة أراد؛ كقوله - تعالى -:
{ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [القيامة: 16-17]، وقوله - عز وجل -: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193-194] وقوله - تعالى -: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعلى: 6-7]، أمنه عن أن ينساه، ومنَّ عليه بالتيسير.
وقوله: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } فعلى التأويل الأول - والله أعلم -: أنه وإن يسرنا القرآن للحفظ، ولكن لم ينزل للحفظ، ولكن إما أنزل ليذكر ما فيه، وللإتعاظ به؛ أي: فهل من متعظ به.
وعلى التأويل الآخر: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } خرج مخرج الأمر؛ أي: اذكروا واتعظوا بما فيه من الأنباء، والله أعلم.