التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٨
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ
١٩
تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
٢٠
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٢١
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٢٢
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ
٢٣
فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٢٤
أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
٢٥
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ
٢٦
إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ
٢٧
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
٢٨
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ
٢٩
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٠
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ
٣١
وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٣٢
-القمر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } ذكر أنباء الأوائل وما نزل بهم بالتكذيب، والعناد، سوء معاملتهم الرسول - صلى الله عليه سلم - وهو صلة قوله: { جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } [القمر: 4] تأويل الآية يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } قيل: باردة.
وقيل: شديدة.
وقوله - عز وجل -: { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ }؛ إذ استمر بهم العذاب - كما قال الله عز وجل -:
{ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } [الحاقة: 7].
وقيل: { مُّسْتَمِرٍّ } أي: ذاهب على الصغير والكبير، فلم تُبْقِ منهم أحداً إلا أهلكته.
وقوله - عز وجل -: { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } من الناس من قال: لما اشتدت بهم الريح، تنادوا فيما بينهم: البيوت! فدخلوها، فدخلت الريح عليهم، فأخرجتهم من بيوتهم، وألقتهم في فنائهم؛ فذلك النزع.
ومنهم من قال: تنزع مفاصلهم فتلقيهم كأعجاز نخل منقعر؛ لأنهم كانوا أطول الخلق، فذكر أن كل رجل منهم كان طوله ستين ذراعا، والنخل لا يبلغ ذلك المقدار إلا بمعد قطع المفصال؛ فجائز التشبيه بأعجاز نخل منقعر بعد انتزاع مفاصلهم، والانقعار: هو الانقلاع.
قال أبو عوسجة: { مُّنقَعِرٍ }، أي: منقطع ساقط.
ومنهم من قال: شبههم بأعجاز النخل؛ لعظم أعجازهم.
وقال بعضهم: شبههم بأعجاز النخل؛ لطولهم، ولكن ذلك بعد نزع مفاصلهم؛ لما ذكرنا.
وفي حرف حفصة - رضي الله عنها -: (تنزع [الناس] على أعقابهم).
وقوله: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }.
وقوله - عز وجل -: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما:
أحدهما: { بِٱلنُّذُرِ } أي: بالرسل التي دعتهم إلى الإيمان بالله تعالى.
والثاني: كذبت بما وقعت به النذارة التي أخبرهم الرسل: أنها نازلة واقعة بهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ }، لم يزل الأكابر من الكفرة والرؤساء منهم يلبسون على أتباعهم بهذا الحرف: { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ }، وقالوا:
{ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } [المؤمنون: 33]، وقوله - تعالى -: { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ } [المؤمنون: 34]، ونحو ذلك، وذلك تناقض [في] القول؛ لأنهم كانوا ينهون أتباعهم عن اتباع بشر مثهلم ويدعونهم إلى ابتاع آبائهم والاقتداء بهم، وهم أيضا بشر، وليس مع آبائهم حجج وبراهين، ومع الرسل حجج وآيات، فيكون تناقضا في القول ومعارضة فاسدة، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } فهو يخرج على ما ذكرنا من الوجهين، وكذا قوله: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }، قال بعضهم: السعر: الجنون؛ أي: لو اتبعنا بشرا منا، لكنا في ضلال وجنون، وهو مأخوذ من سعر النار؛ إذا التهبت، يقال: ناقة مسعورة، أي: كأنها مجنونة؛ من النشاط.
وقيل: الضلال والسعر واحد.
ويحتمل: أي: إنا إذا لفي ضلال في الدنيا، وسعر في الآخرة، والسعر: من السعير، وهو النار، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } فجائز أن يكون هذا القول من أهل مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله - تعالى - خبرا عنهم:
{ أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ص: 8]، والذكر هو القرآن، على هذا التأويل.
وجائز أن يكون ذلك من ثمود وصالح - عليه السلام - والقصة قصة صالح؛ فهو الأشبه بالتأويل، ولم يزل الكفرة ينكرون تفضل الرسل - عليهم السلام - على غيرهم من البشر بالرسالة، وإنزال الذكر عليهم من بينهم، ثم يرون لأنفسهم الفضل على أولئك الرسل: إما بفضل مال، أو بفضل نسب، أو رياسة، ونفاذ قول، بلا سابقة كانت منهم، ولا تقدم صنع، وما ينبغي لهم ان ينكروا تفضيل الرسل بالرسالة والنبوة بلا سابقة كانت منهم، ولا تقدم صنع؛ إذ هي فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } عن مجاهد: أنه قرأ بفتح الشين، وقرأ العامة { أَشِرٌ } بكسر الشين.
قال أبو عوسجة: وقيل: الأَشِر، والأَشَر هو البطر - كما يقال: حذر وحَذَر - وهو المرح التكبر.
وقوله - عز وجل -: { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } قرئ بالياء والتاء؛ فمن قرأ بالياء احتج بقوله { فِتْنَةً لَّهُمْ }، ولم يقل "لكم"، ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للكفرة، أي: ستعلمون غدا عند نزول العذاب بكم من الكذاب أنا أو أنتم؟ وهذا وعيد منه لهم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ }؛ لنفتنهم بها، ونمنحهم، لم نعطهم مجانا جزافا؛ كقوله - عز وجل -:
{ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168]، وقوله - تعالى -: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35].
وقوله - عز وجل -: { فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } أي: فارتقبهم بما يكون منهم من التكذيب للناقة والعقر لها.
ويحتمل أن يكون قوله - عز وجل -: { فَٱرْتَقِبْهُمْ } هو خطاب لرسوله عليه الصلاة والسلام في حق أهل مكة، كقوله
{ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [الدخان: 10].
وقوله -: { وَٱصْطَبِرْ } أي: اصطبر على أذاهم، ولا تكافئهم.
أو اصبر على تبليغ الرسالة.
وقوله - عز وجل -: { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ }، وقال في آية أخرى:
{ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الشعراء: 155] وفيه من الفوائد والدلائل:
أحدها: أن تلك الناقة كانت عظيمة على خلاف سائر النوق؛ حتى احتاجت هي إلى الماء مثل الذي احتاج إليه سائر النوق وأهلها؛ حتى قسم الماء بينها وبين سائر النوق.
وفيه: أنه لا بأس بقسمة الشرب؛ حيث ذكر في الآية قسمة الماء، وذكر في آية أخرى:
{ شِرْبُ يَوْمٍ } [الشعراء: 155] وهو قسمة بالإيام.
وقوله - عز وجل -: { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي: كل شرب بحضرة من له شرب ذلك، لا يحضره غيره.
وفيه: أن تلك الناقة وإن كانت آية ومعجزة له، فكانت تعتلف وتشرب كسائر النوق التي ليست هي بآيات. وإن كانت تخالف سائر النوق في عظمها، وقدر علقها وشربها.
ثم جعل الماء بينها وبين أولئك القوم بالقسمة، ولم يجعل العلف بينها وبينهم بالقسمة؛ لاشتراكهم جميعا في الماء - أعني: البهائم والبشر - وحاجة كل منهم إلى الماء، فلذا جعل النبات مشتركا بينها وبين سائر البهائم؛ لأن في ذلك كثرة، فلا حاجة إلى القسمة، فأما في الماء في ذلك الموضع عزة؛ لما يسقون من الآبار؛ فلذلك جعلوا الماء بالقسمة، والله أعلم.
وفيه: أن المياه إذا ضات قسمتها بالأجواء تقسم بالأيام؛ من حيث جعل لها شرب يوم معلوم، ولهم شرب يوم معلوم.
وفيه: أن الماء وإن كان عينا فيهو كالمنفعة في جواز قسمتها بالأيام.
ثم قوله: { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } جائز أن يكون الخطاب لصالح - عليه السلام - أمره أن ينبئ قومه: أن الماء قسمة بينهم وبين الناقة.
وجائز أن يكون الخطاب به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره أن خبر قومه: أن الماء كان قسمة بينهم وبين الناقة، والله أعلم.
وقوله - عز جل -: { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ }، أضاف العقر هاهنا إلى واحد، وفي رواية أخرى أضافه إلى الجماعة، وهو قوله:
{ فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } [الأعراف: 77]، وقال في موضع آخر: { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } [الشعراء: 157]، فيكن ظاهر هذه الآيات على التناقض؛ من حيث ذكر الفرد والجماعة.
وفيه تناقض من وجه آخر؛ فإنه ذكر في آية:
{ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [الأعراف: 77]، وقال في موضع: { فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } [الشعراء: 157]، ذكر الندامة، وهي خلاف العتو.
لكنا نقول: لا تناقض، لا اختلاف عند اختلاف الأحوال و الأوقات، فقوله:
{ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } [الطلاق: 8] قبل أن ينزل بهم العذاب، وقوله: { فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } [الشعراء: 157] إذا نزل بهم العذاب، والتناقض في وقت واحد في حال واحد، وكذلك العقر من واحد على الحقيقة، لكن إما أضافه إلى الجماعة، لأنه عقر بمعاونتهم.
أو الواحد هو الذي طعنها، ثم اجتمعوا، فعقروا جميعا، ونحو ذلك؛ فثبت أنه لا تناقض.
وقال بعضهم: { فَتَعَاطَىٰ } تناول، { فَعَقَرَ } أي: ضرب عرقوبها؛ أي: ساقها.
وقيل: العقر: قد يكون جرحا، وقد يكون قتلا.
وقوله: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً } يحتمل: أي: أرسلنا عليهم العذاب قدر صيحة واحدة، يخبر عن سرعة نزول العذاب ووقعه عليهم.
ويحتمل أن يكون أرسل عليهم الصيحة، وأهلكهم، وصاروا كما ذكر من هشيم المحتظر، وهو قوله: { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ }، قيل: الهشيم: العظام البالية.
وقيل: كالشيء المتناثر، من الحائط، وأصل الهشيم: الانكسار، أي: صاروا كالشيء المنكسر المجتمع في موضع.
وقوله تعالى: { ٱلْمُحْتَظِرِ } بكسر الظاء ونصبه، روي النصب عن الحسن.
قال أبو عبيد: بالكسر يقرأ على تأويل الإنسان المحتظر.
وقال أبو عوسجة: الهشيم: البالي من الشجر، والمحتظر: الذي يتخذ حظيرة.
وقال القتبي: الهشيم: النبت اليابس الذي ينهشم، أي: ينكسر، والمحتظر - بكسر الظاء -: صاحب الحظيرة لغنمه، وبفتح الظاء أراد: الحيطان، وهو الحظيرة.
وقوله - عز وجل -: { يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ }، أي: يسرنا القرآن لذكر ما نسوا من نعم الله تعالى، وأغفلوا عنها.
أو يسرنا القرآن لذكر ما أغفلوا من الحجج والآيات ونسوها.
أو يسرنا القرآن لذكر ما نسوا من الأنباء، وما نزل بمكذبي الرسل - عليهم السلام - بالتكذيب والعناد.
وقوله - عز وجل -: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قد تقدم ذكره.
وقوله - عز وجل -: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }، قال أهل التأويل: أليس الذي أنذروا به وجدوه حقّاً.
وقال بعضهم: أليس وجدوا ما وعد لهم رسلي حقّاً. وقد ذكرناه.