التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
٢
وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ
٦
خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
٧
مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
٨
-القمر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } قال بعضهم: أي: اقتربت الساعة، واقتر انشقاق القمر.
وقيل: على التقديم والتأخير، اقترتب الساعة، وإن يروا آية يعرضوا وإن كان انشقاق القمر.
فعلى هذين التأويلين، لم يكن انشقاق القمر بعد، ولكن يكون في المستقبل، وعند قيام الساعة؛ وهو قول أبي بكر الأصم، ويقول: معنى قوله: { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } أي: سينشق القمر عند الساعة؛ إذ لو كان قد انشق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لَمَا خفي على أهل الآفاق، ولو كان ظاهرا عندهم، لتواتر النقل به؛ إذ هو أمر عجيب، والطباع جبلت على نشر العجائب.
وعامة أهل التأويل على أن القمر قد انشق؛ لكان [من] معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال:
"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى، فانشق القمر، فذهبت فرقة منه وراء الجبل، فقال - عليه السلام -: اشهدوا، اشهدوا" ، وروي عن غيره أيضاً: عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - وأنس بن مالك، وحذيفة، وجبر بن مطعم، في جماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -: أنهم رأوا انشقاق القمر.
وقول أبي بكر: لو كان، لم يخُفَ وظهر؛ فيقال له: قد ظهر؛ فإنه روي عن غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم - وتواتر الحديث عن الخاص العام، وفشا الأمر بينهم، حتى قل من يخفى عليه سماع هذا الحديث.
على أنه قد يطلق ظاهر الكتاب، وإنما يكلف حفظ ما لم ينطق به الكتاب، والعمل بحقيقة اللفظ واجب.
وقال بعضهم: يجوز أن يستره الله - تعالى - من الآفاق بغيم، أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور؛ لضرب تدبير ولطف منه؛ لئلا يدعيه بعض الملتبسين في الآفاق لنفسه، وادعى الرسالة كاذبا؛ بناء على دعواه: أنه فعل ذلك؛ فيحتمل أنه أخفى عن أهل الآفاق إلا في حق من تظهر المعجزة عليه من الحاضرين، والكفرة يكتمونه، والصحابة الذين رأوا قد نقلوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } كأنه يقول: اقتربت الساعة التي تجزون، أو الساعة التي تنشرون فيها، أو الساعة التي تحاسبون فيها.
فإن قيل: أليس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"[بعثت] أنا والساعة كهاتين" ، وأشار إلى السبابة والوسطى، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تقم الساعة بعد.
قيل: يحتمل أن مراده - عليه الصلاة والسلام - أنه ختم النبوة والرسالة، وتبقى أحكامه وشريعته إلى وقت قيام الساعة، وبقاء شريعته كبقائه، فصار كأنه قال: شريعتي والساعة كهاتين.
ويحتمل أنه لما كان به ختم النبوة والشريعة، صار بعثه ومجيئه - عليه السلام - علامة للساعة وآية لها، وهو كقوله - تعالى -:
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } [الزخرف: 61] على تأويل من جعل بعث الرسول - عليه السلام - علَما وآية للساعة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } ذكر نعتهم وعنادهم: أنهم وإن يروا آية سألوها، يعرضوا؛ فلم يُرِهمْ تلك.
أو من سنته: أن كل آية جاءت على أثر السؤال، فلم يقبلوها أهلكوا، فإذا كان من سننه هذا، وقد وعد تأخير عذاب هذه الأمة إلى الساعة، وعفا عنهم التعجيل - لم يرهم تلك الآيات المقترحة، والله أعلم.
ويحتمل: وإن يروا آية حسية يعرضوا؛ لأن آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم عامتها وأكثرها كانت عقلية وسمعية، فيخير عن سفههم وتعنتهم أنهم وإن يروا آية حسية يعرضوا عنها، وهو كقوله - عز وجل -:
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ } [الأنعام: 111]، وكقوله - تعالى -: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ... } الآية [الحجر: 14-15].
وقوله - عز وجل -: { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ }، اختلف فيه:
منهم من قال: { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } أي: ماض، لم يزل الرسل - عليهم السلام - كانوا يأتون بمثله من السحر.
ومنهم من قال: { مُّسْتَمِرٌّ } أي: قوي؛ مأخوذ من المِرَّة، وهي القوة، وأصل المرة: الفتل.
ومنهم من قال: { مُّسْتَمِرٌّ } أي: ذاهب؛ ويتلاشى ولا يبقى.
وقوله - عز وجل -: { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } يحتمل كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أتى به من الآية على الرسالة.
ويحتمل: وكذبوا بالتوحيد { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } يخبر أنهم إنما كذبوا ما ذكر باتباع أهوائهم، لا بحجة وبرهان.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ }. يحتمل قوله: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } وجاءتهم - أيضاً - حكمة بالغة، وهي القرآن.
ويحتمل أن يكون معناه: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } وفي تلك الأنباء حكمة بالغة.
ثم الأنباء التي فيها مزدجر حكمة بالغة، وهي ما ذكر في هذه السورة من أنباء عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم نوح، وموسى، فقد جاءهم أنباء هؤلاء، وعرفوا ما نزل بهم من العذاب والإهلاك، وبأي شيء نزل بهم، وهو تكذيب الرسل - عليهم السلام - ليتردعوا عن مثل صنيعهم، فلا يلحقهم مثل ما يلحق أولئك، وفي ذلك حكمة بالغة، والبالغة هي النهاية في الأمر؛ يقال: فلان بالغ في العلم: إذ انتهى في ذلك نهايته.
وقال القتبي: مزدجر: أمر متعظ.
وقال أبو عوسجة: مزدجر: أي: زاجر.
وقوله - عز وجل -: { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ }.
يقول - والله أعلم -: قد جاءهم ما ذكر من الأنباء التي فيها مزدجر وإنذار، فلم يزجرهم ذلك، ولم ينفعهم، فأنَّى تغني النذر لهم؟ ومن أين تنفعهم النذر؟ أي: لا تغنيهم.
ثم النذر تحتمل وجهين:
أحدهما: النذر: [الرسل] - عليهم السلام - جمع: نذير.
والثاني: ما تقع به النذارة، وهو الأنباء التي أنذر الرسل بها، وحذروا بذلك؛ يقول: فما يغنيهم قول الرسول، ولا خوف ما بلغهعم من القصص التي فيها تعذيب للكفرة بتكذيب الرسل - عليهم السلام - وترك اتباعهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } يحتمل وجوها:
أحدها: قوله: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: أعرض عنهم، ولا تكافئهم بإساءتهم.
والثاني: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: لا تقاتلهم، ولا تجاهدهم؛ فإن كن التأويل هذا، فهو يحتمل النسخ على ما قاله أهل التأويل، وإن كان الأول فهو لا يحتمل النسخ.
والثالث: يحتمل: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون، وذلك في قوم علم الله - تعالى - أنهم لا يؤمنون، يؤيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع في إيمانهم.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي: إلى شيء منكر، فظيع، هائل.
ويحتمل: إلى شيء أنكروه في الدنيا - وهو الساعة - فيقرون في الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ }، وقرئ: (خاشعاً)، بالألف، روي عن ابن عباس، وتصديقها في قراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (خاشعة أبصارهم)، وصفهم بالخضوع في الآخرة مكان استكبارهم في الدنيا، وبالإقرار والتصديق بالساعة مكان إنكارهم في الدنيا، وبالإجابة للداعي مكان ردهم له في الدنيا حيث قال: { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ }.
وقوله - عز وجل -: { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: تشبيههم بالجراد لحيرتهم، لا يدرون من أين يأتون؟ وإلى أين يصيرون؟ كالجراد الذي لا يُدْرَى من أين؟ وإلى أين؟ وهو كقوله - تعالى -:
{ وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } [الحج: 2].
والثاني: تشبيههم بالجراد؛ لكثرتهم، وازدحامهم؛ لما يحشر الكل بدعفة واحدة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ }: قال عامة أهل التأويل: { مُّهْطِعِينَ }، أي: مسرعين.
وقال قتادة: أي: عامدين.
وقال مجاهد: الإهطاع: السيلان، وهو بالفارسية: يويه رقيق.
وقال بعضهم: مهطعين: ناظرين، رافعي رءوسهم؛ وهو قول الكلبي.
وقال أبو عوسجة: أي: مسرعين، مادين أعناقهم.
وقيل: الإهطاع: إدامة النظر إلى الداعي.
وقوله - عز وجل -: { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }، وهو ما قال في آية أخرى:
{ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } [المدثر: 9].