التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ
١٤
وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ
١٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٦
رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ
١٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٨
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
١٩
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
٢٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢١
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ
٢٢
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٣
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٢٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٥
-الرحمن

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } ذكر في خلق الإنسان أحوالا مختلفة: مرة قال: { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59]، والتراب: هو الذي لم يصبه الماء، ومرة قال: خلقه من طين والطين: هو الذي أصابه الماء، واعتجن، ومرة قال: { مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11] واللازب: هو الذي يلتصق باليد ويلزقه، وهو الحر الخالص، وقال مرة: { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26]، وهو الذي أسود وتغير؟ لطول المكث، ومرة قال: { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } والصلصال: هو الذي له صوت إذا حرك، وهو من صلصلة الحديد.
ويحتمل صلصال: أي: منتن، يقال: صلَّ البثر؛ إذا أنتن، والفخار: هو الذي تكسر إذا يبس.
وقال أبو عوسجة: الفخار: الذي طبخ.
فجائز أن تكومن هذه الأحوال التي ذكرت على اختلافها في ذلك الإنسان، كان في الابتداء، ترابا، ثم صار لازيا؛ لأنه كان من جيد الطين وحره، ثم صار مسنونا منتنا: أسود: لطول المكث، وصلصالاً لكثرة تربيته ولجودته، يكون له صوت.
وتشبهه بالفخار يحتمل وجوهاً:
أحدها: لتكسره ويبسه.
أو لأنه كان ذا دوف كالفخار، أو لطول المكث، وكثرة التربية؛ إذ طين الفخار له ذه المصفات، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ... } الآية، ذكر أنه أبو الجن، وأنه لفظ الوحدان، والجن جماعة، وكذا قال أبو عوسجة: الجان: الجن.
وقوله: { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } قال بعضهم: المارج: هو لهب النار صافياً لا دخان فيه؛ يقال: مرجت النار؛ إذا التبهت، فالمارج على هذا هو النار التي فارقت الحطب والتهبت، وارتفعت منه؛ وكذا قال أبو عوسجة: المارج - هاهنا -: اللهب، من قولك: مرج الشيء؛ إذا اضطرب، ولم يستقر، وعلى ما قال بعضهم في قوله: { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } إذا خلط وجميع بينهما يجيء أن يكون خلق الجان من نار غير منقطعة من الحطب، ولا خالية من الدخان؛ وكذا قال أبو عبيد: { مِن مَّارِجٍ }، أي: من خلط من النار.
وعلى تأويل من قال في قوله: { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أي: أرسل أحدهما في الآخر، فهو يكون من نار منقطعة من الحطب.
وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما أودع من الحكمة فيما ذكر من خلق آدم - عليه السلام - من تراب، وخلق الجان من نار.
والفائدة في ذلك - والله أعلم - يخبر عن قدرته: أن من قدر على خلق الإنسان من ذلك التراب وإخراج جميع ما في الدنيا من الناس من نفس واحدة، لا يحتمل أن يعجزه شيء، وكذلك ما ذكر من خلق ألوان من النار، وإخراج ما أخرج منه من النسل حتى أخذ الدنيا بأسرها لا يعجزه شيء، ولا ما لو اجتمع حكماء البشر والجن، أدركوا المعنى الذي به أنشأ الإنسان منه، وخرج هذا الخلق منه، وفي ذلك وجهان من الحكمة:
أحدهما: ما ذكرنا من القدرة على البعث:
والثاني: أن كل ما ذكر من النقل والتغير من حال إلى حال، وإخراج ما أخرج منه، لا يحتمل أن يفعل ذلك عبثا باطلا، ولو لم يكن بعث، لكان إنشاء هذا الخلق عبثا باطلا، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }، يقول، - والله أعلم -: إذا لم تنكروا شيئا من الآية أنه ليس منه فما لكم تنكرون في البعث وغيره؟!
وقوله - عز وجل -: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ }، وقال في موضع آخر:
{ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ } [المعارج: 40]، قد ذكرناه فيما تقدم.
ثم دل قوله: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } و
{ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ } [المعارج: 40] وذكر الحد لهما - أعني: الشمس والقمر - في الشروق والغروب، وفي أنهما طلعا بأمر، وغربا حيث غربا بأمر؛ إذ لو كان ذلك لا بأمر لكن بأنفسهما، لكانا يطلعان ويغربان في جميع الأوقات والأطراف، ولا يرجعان إذا بلغا مكانا ولا يزدادان، ولا ينتقصان في وقت من الأوقات، ثم هذه كله منشأ للبشر، مسخر لهم؛ فيقول - والله أعلم -: ما بال المجعول لكم أطوع لله تعالى منكم؛ حيث لا يجاوز الحد الذي جعل له، ولا يتعدى أمر خالقه، وأنتم تجاوزون أمره ونهيه، وتتعدون حدوده.
وفي الآية دليل على أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه؛ ألا ترى أنه خص رب المشرقين ورب المغربين، ولم يدل على أنه ليس برب ما بينهما، أو ليس برب ما سوى المشارق والمغارب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } قيل: جمع بينهما وخلط.
وقيل: أحدهما العذاب، والآخر: المالح.
وقيل: { يَلْتَقِيَانِ } أي: يتقابلان.
وقوله - عز وجل -: { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } أي: بين البحرين حجاب وحاجز.
{ لاَّ يَبْغِيَانِ } قيل: لا يختلطان، ولا يمتزجان، ولا يتغير طعم كل واحد منهما؛ يخبر عن لطفه في منعهما عن الامتزاج، ومن طبع الماء الامتزاج والاختلاط، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء.
وقيل: { لاَّ يَبْغِيَانِ } أي: لا يجاوزان حد الله الذي حد لهما.
ثم اختلف في البحرين: قال بعضهم: أحدهما: بحر الروم، والآخر: بحر الهند، و{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } أي: سكان، { لاَّ يَبْغِيَانِ } أي: لا يختلطان، وهو قول الأصم.
ومنهم من قال: أحدهما: بحر الروم، والآخر: بحر فارس، { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ }، أي: جزيرة العرب.
وقيل: أحدهما: بحر السماء، والآخر: بحر الأرض، كقوله:
{ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر: 11-12]، و{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ }، وهو: [ ] الأرض وسكان الأرض، وهذا أيضا لطف منه تعالى.
وقوله - عز وجل -: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } منهم من قال: يخرج من العذب والمالح جميعا، كما هو ظاهر الآية.
ومنهم من قال: يخرجان من المالح خاصة دون العذب، وإن كانت الإضافة إ ليهما، وذلك جائز في اللغة، كقوله:
{ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [الأنعام: 130]، ولم يأت من الجن رسل، وذلك كثير في القرآن.
ثم قرئ { يَخْرُجُ } بنصب الياء، ورفع [الراء، وقرئ برفع] الياء ونصب الراء، فالأول على جعل الفعل [لهما، والثاني على جعل الفعل] لغيرهما؛ كقوله تعالى:
{ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [النحل: 14]، ولم يقل: (يخرج منه حلية).
ثم اختلف في اللؤلؤ والمرجان، منهم من قال: اللؤلؤ: ما عظم منه، والمرجان ما صغر من اللؤلؤ.
ومنهم من قال على العكس، وأكثرهم على الأول؛ كذلك روي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك، وكذا قال أبو عوسجة: المرجان: صغار اللؤلؤ، والواحد: مرجانة.
وقيل: إن المرجان المختلط من الجواهر، من قولهم: مرجت، أي: خلطت.
وقيل: إنه ضرب خاص من الجوهر يخرج من البحر.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: إذا جاء القطر من السماء، انفتحت الأصداف؛ فكان في ذلك اللؤلؤ.
وقيل: إنما قال تعالى: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } وإنما يخرج اللؤلؤ من المالح دون العذب؛ لأن العذب والمالح يلتقيان؛ فيكون العذب لقاحا للمالح؛ كما يقال: يخرج الولد من الذكر والأنثى، وإنما تلده الأنثى، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ }: عن إبراهيم -رحمه الله تعالى -: أنه قرأ: { ٱلْمُنشَئَاتُ } بكسر الشين، وفسر بعض الناس المنشآت، أي: ظاهرات السير.
وعن الحسن أنه قرأها بفتح الشين، وقال أبو عبيدة: وبها يقرأ؛ لأن تفسيرها: أ،ها التي قد رفع قلعها في البحر، فهي الآن مقطوع بها؛ فقيل: المنشآت، وهي المرتفعات، والتي لم يرتفع قلعها، فليست بمنشأة.
وقيل: المخلوقات، والجواري: هي السفن المنشآت.
وقوله - عز وجل -: { كَٱلأَعْلاَمِ } أي: هي في البحار كالجبال في البراري.
قيل: وهي الأعلام أنفسها.
ثم في هذه الآيات التي ذكرت وجوهٌ من الحكمة وإثبات القدرة لله تعالى وسبحانه:
أحدها: أن من قدر على تسخير البحار وإنشاء ما فيها، وعلم إخراج ما فيها للآدمي، واتخاذ السفن وإجراءها في البحار؛ للوصول إلى المنافع التي في البلدان النائية - لقادر على البعث وغيره.
والثاني: أن لا سبيل إلى معرفة ما في البحار من الأموال، واتخاذ السفن وإجرائها في البحار، ومعرفة ما وراء البحار من البلدان النائية وما فيها إلا بخبر الرسل، فيقول - والله أعلم -: ما بالكم صدقتم الرسل الأوائل فيما يرجع إلى منافعكم الدنيوية، ولم تصدقوهم فيما يرجع إلى الدين والآخرة من الوعد والوعيد.
أو يقول: ما بالكم لا تنكرون شيئا من هذه النعم - التي جعلها لكم - أنها من الله تعالى، فكيف تنكرون ما أتاكم به الرسل، عليهم السلام؟!
ثم في قوله: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ } دلالة نقض قول المعتزلة في إنكارهم خلق أفعال العباد؛ فإنه أضاف السفن إلى نفسه بقوله: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ }، وقد اتخذها بنو آدم بأفعالهم، فلو لم يكن له في أفعالهم صنعٌ، لكانت السفن لهم لا له، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }، أذا لم تكذبا شيئاص من آلاء ربكما: أنه من الله تعالى، ولم تكذبا ما أتاكم من الأخبار في منافع الدنيا، فكيف تكذبان أخبار الرسل عليهم السلام بعدما جاءو بالآيات والحجج.