التفاسير

< >
عرض

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ
٣١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٢
يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
٣٣
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٤
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ
٣٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٦
-الرحمن

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } يحتمل وجوها:
أحدها: أي: مُلْكُ كُلِّ من في الأرض فانٍ، ويبقى ملك ربك أبدا دائما.
والثاني: يحتمل سلطان كل من عليها أو قوة كل من عليها وقدرته فان، ويبقى سلطان ربك وقدرته وربوبيته؛ ليعلم أنه ملكه وسلطانه بذاته، لا كالخلق؛ حتى يكون فناؤهم وذهابهم يُدْخِل نقصا أو وهنا في ملكه، خلاف ملك ملوك الأرض وسلطانهم.
وجائز أن يكون قال هذا على الإياس للكفرة، وقطع الرجاء عن عبادة من عبدوا دونه من الأصنام والملوك والرؤساء، ومن قدموهم، كأنه يقول: كل من عبد دونه أو خدم، أو عمل لا لوجه الله، فكله فان، ذاهب، إلا ما عمل لوجه الله؛ فإنه باق، والله أعلم.
والباطنية يقولون: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي: النفس الجسدانية، وتبقى النفس الروحانية أبدا؛ لأنهم يقولون: إذا فنيت هذه الأجساد ينشئ الله تعالى من أعمالهم الصالحات أنفسا روحانية تبقى أبدا.
ويحتمل { وَجْهُ رَبِّكَ } أي: كل مايطلب من العمل وغيره رضاء الله تعالى، فكنى بالوجه عن الرضاء.
وقوله - عز وجل -: { ذُو ٱلْجَلاَلِ } يخرج على وجهين:
أحدهما: على خلق إ جلال حق الله وأمره وتعظيم ذلك.
والثاني: أن يجل الله تعالى من شاء من خلقه؛ أي: منه إجلال من جل في الدنيا، وإكرام من أكرم من الآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يخبر الله - عز وجل - عن فزع أهل السماء والأرض إليه عند الإياس من الخلق وانقطاع الرجاء عنهم، وهو يذكر أنه المفزع في الأحوال كلها، وللخلائق كلهم، ومنه يسألون الرزق والنجاة، وهو ما ذكر:
{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ... } الآية [الأنعام: 63]، وقوله: عز وجل -: { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } [الأنعام: 64] وقوله: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } [الزمر: 8]، وقوله تعالى: { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ } [النحل: 53] هنا صلة قوله: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } يقول - والله أعلم -: شأنه وأمره باق دائم أبدا، وذهاب الخلق لا يدخل نقصا في شأنه وأمره، ولا هنا في سلطانه وملكه؛ بل هو في شأنه وأمره عند فنائهم كهو في حال بقائهم.
وجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل: إن اليهود قالت: إن الله تعالى استراح يوم السبت لا يقضي بشيء، ولا يحكم ولا يأمر، ولا يفعل فعلا؛ فنزلت الآية عد ذلك { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } من إحداث وإفناء، وإحياء وإماتة.
وأصله: أن الله تعالى إذا وصف بشيء يوصف بالأزل، يقال: عالم لم يزل، قادر لم يزل، رازق بذاته لم يزل، وإذا ذكر بأمر وتدبير مضاف إلى الخلق يوصف على ذكر الوقت؛ فيكون الوقت للخلق لا له، نحو أن يقال: إن الله تعالى لم يزل عالما بجلوسك الوقت؛ فيكون الوقت للخلق لا له، نحو أن يقال: إن الله تعالى لم يزل عالما بجلوسك هاهنا، أو في هذا الوقت؛ أي: لم يزل عالما أنه يجلس الآن، أو يجيء الآن، أو في هذا الوقت، وإذا وصفته بالماضي، قلت: لم يزل عالما بما كان، وبالمستقبل: لم يزل عالما بما يكون أنه يكون في وقت كذا، وللحال: لم يزل عالما بكونه كائنا للحال، ونحو ذلك، نفيا لوهم الخلق: أن المخلوق كيف يكون في الأزل؟! فعلى ذلك قوله - عز وجل -: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ذكر اليوم والوقت؛ لئلا يتوهم يكن الخلق قديما، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } الآية، قرئ: { سَنَفْرُغُ } بالنون والياء، [و] يرفع الراء في الحالين.
قال أبو عبيد: بالياء يقرؤها كقوله تعالى: { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ذكر على المغابية، فكذلك هذا الذي قرئ عليه.
قال الزجاج: قوله تعالى: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } ليس هو الفراغ عن الشغل، لكن كما يقول الرجل الآخر: سأفرغ لك كذا، أي: سأجعل لك، أو كلام نحوه.
ومنهم من يقول: هذا على الوعيد في كلام العرب، يقول الرجل: سأفرغ لك، وإني لفارغ، على الوعيد.
وقال أبو بكر الكيساني: إن الفراغ ليس يستعمل عند الفراغ عن الشغل خاصة، لكن يستعمل له ولغيره من نحو: إنجاز ما وعد، وأوعد؛ كأنه قال: سننجز لكم ما أوعدتكم أيها الثقلان.
وعندنا أن الفراغ: هو اسم لانقضاء الفعل وتمامه، لا للفراغ عن الشغل، يقال: فلان فرغ من شغله: إذا فرغ [، وفرغ] من بناء داره، إذا أتمه وانقضى ذلك؛ ألا ترى أنه وإن فرغ من شغل تلك الدار وذلك العمل، فهو مشغول بغيره، دل أنه ليس باسم للفراغ من الشغل؛ إذ لو كان اسماً للفراغ من الشغل لا يوصف به وهو مشغول بغيره؛ دل أنه اسم التمام والانقضاء، لكن فهم الخلق بعضهم من بعض الفراغ من الشغل؛ لما أن فعلهم للشيء لا يلتئم إلا بالشغل في ذلك؛ فيفهم ذلك من فعلهم، فأما الله - سبحانه وتعالى - حيث لا يشغله فعل عن فعل، ولا شيء عن شيء، لم يجز أن يفهم من فراغه من الشغل فراغه، فبالله العصمة والتوفيق.
وقوله - عز وجل -: { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }، له تأويلان:
أحدهما: كأنه يقول: لو مكن لكم النفاذ من أقطار السماوات والأرض ونواصيها، فتنفذون فتجدون هنالك، وترون من آيات من كذب بالرسل وما حل بهم بالتكذيب.
ثم قال: { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي: لا تنفذون لو مكن لكم من النفاذ إلا وتجدون حجج من أهلك منهم ظاهرة أنه بم أهلكهم؟ وهو كقوله تعالى:
{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام : 11] أمرهم بالسير في الأرض والتدبر في آثار من أهلك بماذا أهلك من أهلك منهم؟ وبماذا نجا من نجا؟ والله أعلم.
والثاني: على الإعجاز، أي: لا تستطيعون أن تخرجوا أو تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، ولو مكن لكم من النفاذ والخروج منها لوجدتم ثَمَّ سلطاني وحجتي وملكي هنالك قائما، أي: لا تقدرون [على] الخروج من سلطاني وملكي حيثما كنتم؛ بل حيثما سرتم كنتم في سلطاني وملكي؛ فلا تتخلصون من الموت والهلاك، وهو كقوله تعالى:
{ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ... } الآية [الأنعام: 35].
وقال الضحاك: في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (يا معشر الجن والإنس قد جاء أجلكم فانفذوا من أقطارهما لا تنفذوا إلا بسلطان)، يعني: أنه لا يجيركم أحد من الموت وأنتم ميتون؛ أي: لا تأتون قطرا من أقطار السماوات والأرض إلا وجدوا هنالك سلطان الله وملائكته؛ يقول: لا تستطيعون فرارا من الموت ولا محيصا، وإن نفذتم من أقطار السماوات والأرض فلم تخرجوا من سلطاني وأنا آخذكم بالموت حيث كنتم، وهو كقوله:
{ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78].
وقال بضعهم: يبعث الله تعالى ملائكة عند الحشر، فيحيطون بالدنيا يكونون في أقطارها؛ فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جان أن يخرج من الأقطار، ولو خرجوا كانوا في سلطان الله.
وقيل: { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي: الحجة.
وقال قتادة: إلا بملك.
وقال: إلا بقدرة الله تعالى والله أعلم.
ثم أوعدهم فقال: { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }.
قرئ { شُوَاظٌ } بضم الشين وكسرها؛ روي عن الحسن بالكسر، وكذا عن مجاهد.
وقرئ { وَنُحَاسٌ } بكسر السين وضمه، فمن رفع { وَنُحَاسٌ } عطفه على قوله: { شُوَاظٌ } ومن كسره، عطفه على قوله: { مِّن نَّارٍ }.
ثم اختلف في تأويل الشواظ والنحاس: عن ابن عباس - رضي الله عنه -: النحاس: الدخال.
وقيل: الشواظ: هو لهب النار، الذي لا دخان فيه، والنحاس: هو الدخان.
وعن الكلبي: الشواظ: لهب النار، والنحاس: الصفر الذي يذاب، فيعذبون به.
وقيل: الشواظ: هو الذي فيه الدخان، والنحاس: هو النحاس المعروف، يذاب ويصب على رءوسهم.
وقال الضحاك: الشواظ: الدخان الذي يخرج من اللهب، ليس بدخان الحطب، والنحاس: الصفر: فمن قرأ بالخفض يقول: لهب من نار ومن دخان، ومن قرأ بالرفع أراد به الصفر؛ يقول: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس ذيب في النار.
وقيل: النحاس في القراءتين يحتمل الدخان، ويحتمل الصفر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } قيل: لا تمتنعان من ذلك.
ويحتمل: أي: لا نصار لكما كما يكون في الدنيا.
فإذا قيل: إنه قد ذكر في أول الآيات: الآلاء والنعم، فقرن بآخرها: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }، وقد انقطع ذكر الآلاء هاهنا، ونذكر المواعيد في هذه الآيات، فما فائدة قران قوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بآخرها.
قيل: إن في الوعد ترغيبا، وفي الوعيد ترهيبا؛ فيرغب في الوعد، ويخاف ويرهب من الوعيد؛ فيرتدع ويمتنع عما يوعد؛ فيكون في ذلك نعمة عظيمة؛ إذ بالوعد والوعيد تتم المحنة، وبالمحنة تتم النعمة؛ لذلك ذكر على إثر الوعيد: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.