التفاسير

< >
عرض

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
٢
خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ
٣
إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً
٤
وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً
٥
فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً
٦
وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً
٧
فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ
٨
وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ
٩
وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ
١٠
أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ
١١
فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
١٢
ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
١٤
عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ
١٥
مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ
١٦
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ
١٧
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
١٨
لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ
١٩
وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
٢٠
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢١
وَحُورٌ عِينٌ
٢٢
كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ
٢٣
جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٤
لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً
٢٥
إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً
٢٦
-الواقعة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } هذا مما لم يبتدأ به الخطاب، وإنما هو جواب سؤال وخطاب لم يذكر؛ فيحتمل أن يكون المؤمنون ذكروا كرامتهم التي وعدوا في الآخرة، فقال لهم أولئك الكفرة: متى يكون ذلك لكم؟ فقالوا: إذا وقعت والواقعة؛ كما يسأل الرجل: متى يكون أمر كذا؟ فيقول: إذا كان كذا، فهو حرف جواب لسؤاله، وعلى هذا يخرج جميع ما ذكر في القرآن من هذا النوع؛ من نحو قوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة: 1] ونحو ذلك، وقوله: { ٱلْوَاقِعَةُ } كناية عنها، جائز أن يكون تأويله: إذا وقعت المثوية والعقوبة؛ فتكمون الواقعة كناية عنها.
وجائز أن تكون الواقعة: اسما من أسماء البعث: كالقيامة والساعة، وغير ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }، قال ب عضهم: أي: ليس لوقعتها مَثْنَويَّة ولا ترداد، يقال: حمل عليه فما كذب، أي: فما رجع.
وقال بعضهم: أي: هي حق، ليست بكذب.
وقال بعضهم: أي: لا يكذب بها أحد إذا وقعت، ليست كالآيات التي عاينوها في الدنيا مع ما عرفوا أنها آيات كذبوها؛ كقوله تعالى:
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر: 14-15]، وغير ذلك يكذبونها مع العلم بأنها آيات، يقول تعالى: إذا عاينوا القيامة يقرون بها؛ ويصدقونها، ولا يكذبون بها؛ كقوله: { أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } [فاطر: 37]، ونحوه.
ويحتلم أن يكون قوله: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ }، اي: ليست الأنباء والأخبار التي جاءت على وقوعها وقيامها كاذبة بل هي صادقة.
وقوله - عز وجل -: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ }، قال بعضهم: خافضة: تسمع القريب، رافعة: تسمع البعيد؛ وقال صاحب هذا التأويل: إن تفسير الواقعة هي الصيحة، وتلك خافضة رافعة.
وقال بعضهم: خافضة أناسا في النار ورافعة أناسا في الجنة.
ويحتمل خافضة لمن تكبر وتعظم على الخلق ورده، ورافعة لمن تواضع للخلق وانقاد له وقبله.
وقيل: خافضة لأهل النار في النار، كقوله تعالى:
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ } [القمر: 48]، ورافعة لأهل الجنة، كقوله: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } [القمر: 55]، وقوله: { لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [يونس: 2].
وقوله: - عز وجل -: { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } يخرج على السؤال، كأنهم لما سمعوا وصف القيامة والواقعة من المؤمنين، فقالوا عند ذلك: متى تكون الواقعة؟ فعند ذلك قال: { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً }، وهو كقوله:
{ إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة: 1]، فزلزلت حتى تلقي ما في بطنها.
وقوله - عز وجل -: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } قيل: فتنت حتى تصير كالدقيق، ومنه يقال للطعام المبسوس والبسيسة: سويق يلت به الزيت والخلط.
وقال الحسن: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ } أي: سيرت تسييرا.
وقوله: { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } قيل: الهباء الذي يكون فوق النار إذا خمدت، لا يكون غيره { مُّنبَثّاً }؛ أي: متفرقا.
وقيل: { هَبَآءً مُّنبَثّاً } أي: ترابا.
وقيلِ: الهباء المنبث، هو ما يسطع من سنابك الخيل.
وقيل: الهباء: الغبار الذي تراه في الشمس إذا دخلت في الكوة؛ يخبر تعالى عن شدة ذلك اليوم وهو له أنه يفعل بالجبال مع صلابتها وطاعتها لله تعالى، فكيف يفعل بكم يا بني آدم مع ضعفكم ومعصيتكم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً }، أي: أصنافا ثلاثة: ما فسر عقيبه؛ حيث قال: { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ * وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } الآية.
وقيل: الأصناف الثلاثة: المذكبون، والمصدقون، والسابقون.
وقوله - عز وجل -: { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أصحاب الميمنة من اليمن، وأصحاب المشأمة من الشؤم.
والثاني: سموا: أصحاب الميمنة؛ لأنهم أصحاب اليمين، وهي التي تستعمل في الطيبات، والكفرة أصحاب الشمال؛ لأنهم أصحاب الخبائث، والشمال تستعمل في الخبائث.
وهو كقوله:
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } [الحاقة: 19]؛ لأن في كتبهم طيبات وخيرات، وفي كتب الكفرة خبائث فتؤتى بشمالهم.
وقيل: أصحاب الميمنة والمشأمة؛ لما ذكر الله تعالى:
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } [الانشقاق: 7-8]، وقوله: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ... } [الانشقاق: 10]، فكذا؛ فكل من أوتي كتابه بيمنيه فهو من أصحاب اليمين، ومن أوي كتابه بشماله فهو من أصحاب الشمال.
وقوله تعالى: { وَٱلسَّابِقُونَ } يحتمل وجهين:
أحدهما: السابقون في الخيرات، يسبقون الناس في كل خير.
والثاني: السابقون في الإجابة لله ورسوله إلى ما دعاهم إليه.
ثم جائز أن يكون الخطاب به للناس كافة: الأولين والآخرين؛ فيكون جميعهم أصنافا ثلاثة: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال.
وجائز أن يكون الخطاب بهذه الآية لهذه الأمة: ففيهم السباقون، وفيهم أصحاب اليمين، وهم أصحاب النظر في الحجج والآيات والتأمل فيها [وفيهم] اصحاب الشمال، وهم الكفرة.
وقوله تعالى: { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } على التعجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكرمهم، أو على التعظيم لأولئك لعظم منزلتهم.
وكذلك قوله: { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } يخرج على هذين الوجهين: على التعجب والتعظيم لما يحل بهم.
وقوله: { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } يخرج على هذا أيضا: فلان ما أمر فلان، فيقال: فلان فلان؛ على تعظيم أمره وشأنه.
ثم في قوله تعالى: { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } [دليل] لقول أصحابنا - رحمهم الله - في جعلهم الكفر كله واحدة؛ لأنه جعل الله تعالى الكفرة على اختلاف مذاهبم وأديانهم زوجا، وأهل الإسلام زوجين، حيث جعل الكل أزواجا ثلاثة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } يحتمل أن يكون وصف القرب لهم لمسابقتهم في الخيرات في الدنيا.
ويحتمل: أنهم مقربون في الآخرة والمنزلة، لسبقهم في الخيرات، أو: في الإجابة، والسبق فعلهم، والتقريب بلطف من الله تعالى وفضل منه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } جميع الجنات نعيم؛ لأن فيها نعيما، وله أن يسمى واحدة منها: نعيما، والأخرى: عدنا، والفردوس والمأوى، يسمى ما شاء بما شاء وكيف شاء.
وقوله - عز وجل -: { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } اختلف في ذلك: قال بعضهم: { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } ممن شهد رسول الله، وقربوا منه، { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } ممن بعد من هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وإدراك زمانه، وقليل من المقربين من الآخرين، وهو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم" ، وعلى ذلك قوله تعالى: { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } [الحديد: 10] على ما يذكر، والله أعلم.
ومنهم من قال: { مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ }، أي: جماعة من المؤمنين الذين كانوا في الأمم الماضية، { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي: من هذه الأمة، وهكذا يكون عدد أهل الإيمان من هذه الأمة مع الأمم الماضية يكون هؤلاء أقل منهم.
ويحتمل - أيضا - أن السابقين المقربين من الأمم السابقة أكثر من السابقين المقربين من هذه الأمة؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كلهم من الأمم السالفة.
وقال أهل التأويل لما نزلت: { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ }، وجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدا شديدا، وقالوا: لن يدخل الجنة منا إلا قليل؛ فنزل قوله تعالى:
{ ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } [الواقعة: 39-40].
لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه خبر، ولا يرد في الأخبار نسخ، وما قالوه لا يصحن والوجه فيه ما ذكرنا.
ويحتمل قوله تعالى:
{ ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } [الواقعة: 39-40] هم أصحاب اليمين من الأولين والآخرين، وهم جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة كثيرة من الآخرين في في المقربين خاصة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ }، وقال في آية أخرى:
{ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } [الطور: 20]، والسرر قد تكون في الدنيا مصفوفة، ولكن لا تكون موضونة؛ أي: منسوجة؛ والوضن - هو النسج - لا يكون بين السرر في الآخرة انفصال ولا فروج، كما يكون في الدنيا، لكن موصولة بعضها ببعض.
وقوله - عز وجل -: { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا }، أي: على السرر التي ذكر أنها مصفوفة موضونة.
وقوله: { مُتَقَابِلِينَ }، أي: يقابل [بعضهم] بعضا، ولا يعرضون، ولا ينظر بعضهم إل بعض باحتقار كماي جعل أهل المجالس في الدنيا يعرض بعضهم على بعض ويحقر بعضهم بعضا يخبر أنهم يكونون في الآخرة خلاف ما في الدنيا، لا يتأذى بعض من بعض بوجه ما.
وقوله - عز وجل -: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } فيه أنهم يعطون في الجنة ما يستحبون في الدنيا من الشرف وطواف الولدان، وكذلك ما ذكر من السرر والفرش، وغير ذلك من أنواع ما ترغب أنفسهم فيه.
ثم ذكر أنهم ولدان، وإن لم يكن في الجنة ولاد؛ فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يكونوا على هيئة الولدان وإن لم يولدوا.
والثاني: سماهم: ولدانا؛ لولادهم في الدنيا وإن لم يولدوا في الجنة؛ لأن التولد في الدنيا لحاجة البقاء وأهل الجنة باقون.
وقوله - عز وجل -: { مُّخَلَّدُونَ } قال بعضهم: أي: المقرطون، والخَلَدَة: القرط، وجمعه: الجِلَدَة.
قال بعضهم: هو من الخلود، كقوله تعالى:
{ خَالِدِينَ فِيهَا } [البقرة: 162]، أي: باقون.
وقيل: مسورون من السوار.
وقوله: { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [الأكواب]: هي الكيزان المدورة الرءوس التي لا عرى لها، والأباريق التي لها عرى وخراطيم، وهم يسمون الأكواب: القداح التي يشربون بها؛ لأن في الدنيا يكون لأهل الأباريق والأقداح يصبون من الأباريق في القدح، ويشربون ولا يشربون من الأباريق، فعلى ذلك وعدوا في الجنة.
وقوله - عز وجل -: { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ }: الكأس: هو القدح المملوء من الشراب.
وأما المعين: قال بعضهم: هو الظاهر من الماء، يقع عليه البصر، فوعد لأهل الجنة ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ }، قرئ بكسر الزاي ونصبه؛ أي: لا تصدع خمورهم في الجنة رءوسهم كما تصدع خمور الدنيا أهلها.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يُنزِفُونَ } قيل بكسر الزاي: لا ينفد شرابهم، وبالفتح: لا يسكرون؛ فيه أنه ليس في خمورهم الآفات التي تكون في خمور الدنيا من ذهاب العقل، والصداع والنفاد.
وقوله - عز وجل -: { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } جميع فواكه الجنة مختارة، لكن يخرج على وجهين:
أحدهما: أن جميع فواكهها مما يتخيرون.
والثاني: العرف في الفواكه أن تقدم من أجناس مختلفة وألوان، لا من لون واحد ونزع واحد، فيتخيرون من أي نوع اشتهوا أو شاءوا.
وقوله - عز وجل -: { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } إن أهل الجنة إنما يتناولون ما يتناولون على الشهوة، لا على الحاجة وسد الجوع، وهو كما ذكر:
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71].
وقوله - عز وجل -: { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } يحتمل تشبيه الحور العين باللؤلؤ وجهين:
أحدهما: لما لا شيء أصفى من اللؤلؤ والياقوت، فضرب مثلهن بذلك؛ لصفاته وبياضه، وإلا ما خطر اللؤلؤ حتى يشبه أن الموعود في الجنة من الجواري به؟!.
والثاني: أن للؤلؤ فضلا ومنزلة عند العرب، وليس الخطر لغيره من الأشياء، فيشبه ضرب مثلهن به لفضل خطر ذلك عندهم، ليس ذلك لغيره، وهو كقوله تعالى:
{ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [الحج: 31] ضرب مثل من يشرك بالله بالذي يخر من السماء، والشرك بالله أعظم مما ذكر، لكن ليس شيء أعظم وأبعد من الخر من فوق السماء السابعة؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم.
وقوله: { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إن الله تعالى ذكر للأعمال جزاء كأنهم عملوا له فضلا منه وكرما في حق عباده، وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم؛ كقوله تعالى:
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } [الإسراء: 7]، وكذلك ما ذكر من شرائه أنفسهم وأموالهم منهم، وما ذكر من الإقراض في قوله تعالى: { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [المزمل: 20] وإن كانت أنفسهم وأموالهم له، وإن كان عام عباده في أنفسهم وأموالهم كأنها ليست له، فضلا وكرما؛ فعلى ذلك [ذكر] لأعمالهم جزاء؛ كان منهم إلى الله - تعالى - صنعا وإحساناً، وإن كانوا عاملين لأنفسهم ومنافع أعمالهم ترجع إليهم بفضله وكرمه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } هذا يرجع إلى وصف خمور أهل الجنة؛ أي: ليس فيها الآفات التي تكون في خمور الدنيا من ذهاب العقل، وقول اللغو، والهذيان، مثل ما يجري على ألسنتهم في الدنيا حين يشربون الخمور، وما يأثمون به، وذكر لهم هذه الخمور في الجنة؛ لأن قوما يرغبون فيها في الدنيا، فوعد لهم؛ ليرغبوا فيها فيطلبوها بالامتناع عن شربها في الدنيا من الخمور المحرمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: إلا كلاما فيه سلامة عن جميع الآفات التي ذكر.
والثاني: { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } أي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام؛ كقوله تعالى:
{ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [إبراهيم: 23].