التفاسير

< >
عرض

وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ
٢٧
فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ
٢٨
وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ
٢٩
وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ
٣٠
وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ
٣١
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
٣٢
لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ
٣٣
وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ
٣٤
إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً
٣٥
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً
٣٦
عُرُباً أَتْرَاباً
٣٧
لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٣٨
ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
٣٩
وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
٤٠
-الواقعة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ... } الآية: أصحاب اليمين هم المؤمنون على ما ذكرنا.
ثم اختلف في ذكر شجر السدر لهم، وما ذكر من الطلح، وغير ذلك.
فمنهم من قال: إنما ذكر هذا لهم لتفضيل المقربين على أصحاب اليمين؛ لأنه قال في المقربين:
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ... } [الواقعة: 10-12] إلى آخر ما ذكر من عظيم الكرامات التي ذكر لهم، ثم ذكر لأصحاب اليمين دون ذلك؛ ليعلم تفضيل المقربين على أصحاب اليمين.
ومنهم من قال: إن قوما من العرب ينتفعون بذلك؛ لأن لها ثمرة، لكن ليست بمرغوبة، ولها شوك، فأخبر الله تعالى أن لهم في الجنة ذلك بلا شوك ولا أذى؛ بل رغب فيه، وهو كما وعد لهم من الخمور، ثم نفى عن خمورها الآفات؛ فعلى ذلك جائز أن يكون شجر السدر فيها بغير آفات، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ }، منهم من قال: هو طلع منضود متراكم؛ كما ذكر في آية أخرى
{ طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ق: 10] ذكر في إحدى الآيتين فعيل، وفي الأخرى مفعول، وذلك جائز في اللغة.
وقيل: طلح: بالحاء: هو الموز.
وذكر أن عليا - رضي الله عنه - سمع قارئا يقرأ: { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ }، فقال علي - رضي الله عنه -: ما شأن الطلح؟ إنما هو طلع؛ فقيل له: إن في المصحف { وَطَلْحٍ } أفلا نغيره؟ فقال: إن المصحف لا يغير اليوم؛ وهذا يؤيد التأويل.
وقال أبو معاذ: الطلح في كلام العرب: شجر عظام، كثير الأغصان، وأحدها: طلحة، وقال مخضود: أي: مقطوع الشوك؛ خلقت هنالك هكذا بلا شوك، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - في شجر الحرم:
"لا يخضد شوكها، ولا يعضد شجرها" .
وقوله - عز وجل -: { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } يصف أنه ليس فيها شمس يؤذي حرها، ولا برد يؤذي، بل ظل؛ لأن الظل شيء لطيف لا أذى فيه، ولا شيء يثقل على الأبدان؛ بل هو شيء يوافق البدن، ويخف عليه.
وقيل: ممدود؛ لأنه لا شمس فيها فتنسخه، وبالشمس يعرف الظل هاهنا، وظل الآخرة ممدود أبداً.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } قيل: جار غير منقطع؛ وهو قول القتبي.
وقال أبو عوسجة: أي: مصبوب.
والأول كأنه أقرب؛ أي: جار أبدا، ليس كمياه الدنيا؛ إلا أن يراد بالانصباب صبه من الأعلى إلى الأسفل، وذلك مما رغب إليه في الدنيا.
ثم قوله: { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } جائز أن يكون ذكر هذا لأصحاب اليمين، وما ذكر من قوله تعالى:
{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [الإنسان: 6]، وقوله: { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } [المطففين: 27]؛ فيكون للمقربين قوله: { عَيْناً يَشْرَبُ } [الإنسان: 6]، ولأصحاب اليمين { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } [المطففين: 27]، وكذلك ما ذكر من { جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ } [البقرة: 25] للمقربين يكونون في العليين، وتكون الأنهار تحتهم، وما ينسكب وينصب من الأعلى لأصحاب اليمين؛ لأنهم يكونون دونهم في الدرجة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ } فواكه الدنيا، يخبر أنها لا تنقطع في الجنة في وقت من الأوقات، وأنها كلما قطعت مرة خرجت أخرى مكانها بهيئة الأكل من غير أن يحتاج فيه إلى وقت النضج كما في الدنيا تنقطع من وقت خروجها إلى وقت نضجها، وبعد النضج والإدراك تنقطع إلى وقت وجود حمل آخر.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي: لا آفة بها تصير ممنوعة؛ كفواكه الدنيا، إذ هي ربما تمتنع بآفة تصيبها.
وقال القتبي وأبو عوسجة: { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } أي: لا تحبس، كما يمنع في الدنيا بعضهم من بعض.
وقوله - عز وجل -: { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي: مرفوعة القدر والمنزلة، أو مرفوعة بنفسها في القيامة، وهو ما ذكرنا في قوله تعالى:
{ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } [الرحمن: 7]، وقيل: { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } مرفوعة النساء، يقال: امرأة فريش ونساء فرش.
وقوله عز وجل: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } قال: الأصم وغيره: إن هذا صلة قوله:
{ وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } [الواقعة: 22-23] كأنه قال على أثره.
وقال القتبي: إنه لما ذكر على إثر قوله: { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ }: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ } دل أن الفرش كناية عن الأزواج؛ إذ هن اللؤلؤ يفرش وواحدة الفرش: فريش.
وقيل: قد استفرشت الناقة إذا اشتهيت العمل.
والأشبه أن يكون هذا على صلة
{ وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } [الواقعة: 22-23]، إذ ذكر في قوله { وَحُورٌ عِينٌ } على أثر ذكر أثر المجالس والزوجات لا معنى لذكرهن في هذا الموضع.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } أي: أنشأهن في الابتداء على هيئة الاستمتاع ليس كنساء الدنيا، وهو كما ذكرنا في قوله في صفة الفواكه: إنها غير مقطوعة ولا ممنوعة؛ أي: إنها تخرج أول ما تخرج على هيئة الأكل، لا كثمامر الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً } قيل: أي: خلقناهن كذلك، ويكن أبدا كذلك، كلما ذهبت عذريتهن عادت؛ فيكن أبدا على تلك اللذة؛ لأنهن أنشئن هكذا، والله أعلم.
وقال عامة أهل التأويل في قوله تعالى: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } أي: خلقنا نساء الدنيا من الثيبات والأبكار خلقا جديدا سوى الخلق الذي كان في الدنيا، { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً }، وكن في الدنيا عجائز وثيبات، وروي على ذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - إن ثبت - أنه قال في قوله: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً }: "الثيب والبكر".
وفي بعض الأخبار قال: "إن العجوز لا تدخل الجنة".
ثم قوله: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } من قال: هو صلة قوله:
{ وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة: 22] هو لسِنِّ نساء الدنيا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { عُرُباً أَتْرَاباً } بجزم الراء مخففة ومضمومة.
وقال أبو عبيد: تقرؤها بالضم لوجهين:
أحدهما: التفخيم.
والثاني: أنها أقيس في العربية؛ لأن واحدها: عروب، مثل صبور وصبر، وشكور وشكر.
وأما الوجه الآخر التخفيف.
وقيل في تأويل: { عُرُباً }: عاشقات لأزواجهن.
وقال أبو عوسجة: العروب: المراحة.
وقال القتبي: هي المتحببة إلى زوجها.
وقيل: الغنجات لأزواجهن.
وقيلأ: إن أهل مكة يسمونها: العربة، وأهل المدينة الغنجة، وأهل العراق: الشكلة.
وقال سعيد بن جبير: عربا: ضبعات، والضبعات: هي التي تعرض للزوج من الشهوة، ويقال للناقة إذا اشتهت الضراب: ضبعة.
وقوله - عز وجل -: { أَتْرَاباً }، أي: مستويات الأسنان.
وقال القتبي: الترب واللذة واحد، وهو بالفارسية: همزاد.
وأصله: أنهن أنشئن بلا ولاد يتقدم ويتأخر كما يكون في الدنيا يتفاضلن في الأسنان؛ فصرن في الآخرة أترابا.
ثم قال: { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } قد ذكرنا تأويله: أنه يخرج على الوجهين:
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"هما جميعا من أمتي" ، وكذلك تأويل قوله تعالى: { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } [الواقعة: 13-14].