التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ
٥٧
أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ
٥٨
ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ
٥٩
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٦٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦١
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ
٦٢
أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ
٦٣
ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ
٦٤
لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
٦٥
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
٦٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٦٧
أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ
٦٨
ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ
٦٩
لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ
٧٠
أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ
٧١
أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ
٧٢
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ
٧٣
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٧٤
-الواقعة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول - والله أعلم -: لما صدقتموني ورسلي بأنا خلقناكم في الابتداء، فهلا صدقتمونا ورسلنا بأنا نعيدكم تارة أخرى؛ إذ الأعجوبة في ابتداء الأشياء أكثر منها في الإعادة، وهو ما قال:
{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 37].
والثاني: إنكم صدقتموه ورسله: أنه أنشأكم في بطون أمهاتكم في الظلمات الثلاث، ونقلكم من حال إلى حال، لا يحتمل أن يترككم سدى بلا عاقبة؛ فيكون فيه إثبات البعث؛ إذ لولا ذلك لكان خلقهم وتحويلهم من حال إلى حال عبثا؛ كما قال تعالى:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [المؤمنون: 115]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } قد علموا أنهم لم يخلقوا ما يمنون، ولا خلقوا أنفسهم، فيقول - والله أعلم -: قد أقررتم أنكم لم تخلقوا ما أمنيتم، ولا أنفسكم، ولا تملكون ذلك، فق دعرفتم أن الله هو خالقكم وخالق ذلك كله، وهو المالك لذلك؛ فإذا عرفتم ذلك، وأنتم أهل تمييز، وأكمل عقلا من غيرككم، فإذا لم تملكوا خلق أنفسكم، فالذين هم دونكم أحق ألا يملكوا خلق أنفسكم وخلق ما ذكر ثبت أن الله تعالى هو خالق ذلك كله؛ فكيف عبدتم غيره، وصرفتم الألوهية إلى غيره.
وقوله - عز وجل -: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } يحتمل وجوها:
أحدها: أنه لما كان هو الذي خلقكم وما ذكر، ثم قدر بينكم الموت، وفيكم الولي له والعدو، وقد سوى في الدنيا بين الولي والعدو، وفي الحكمة التفريق بينهما؛ دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما.
والثاني: { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ }، أي: المعجل والمؤجل؛ أي: لم يجعل موت جميعكم في وقت واحد، بل جعل أجلا مؤجلا في الأصل، وقدر أن تكون مدة أجل هذا أكثر من مدة أجل الآخر.
وقيل: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } أي سوينا بينكم في الموت بين عزيزكم وذليلكم، ورفيعكم ووضيعكم، لا يسلم أحد عنه.
ويحتمل وجها آخر هو - أولى -: وهو أنه قدر بينكم الموت، وكل واحد منكم يكره الموت، ثم لم تملكوا دفع الموت عن أنفسكم؛ دل أن هاهنا قاهرا يجب القول بوجوه، والانقياد لأوامره ونواهيه.
وقوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: وما نحن بمغلوبين في تبديل أمثالكم.
أو يقول: وما نحن بعاجزين على أن نبدل أمثالكم.
وقوله: { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال أبو بكر الأصم: فيما لا تعلمون من تبديلكم إلى صورة ذميمة قبيحة؛ كصورة القدرة والخنازير، ونحوها.
وقيل: { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } في أي خلق شاء؛ وهو أقرب من الأول.
وجائز أن يكون معناه { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } في ظلمات ثلاث الذي لا يبلغه علم البشر، ولا تدبير الحكماء إلى أن بلغوا ما بلغوا، فمن ملك ذلك لا يحتمل أن يعجز عن بعث أو غيره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ }، فهو على ما ذكرنا: إنكم لما عرفتم أنه هو الذي أنشأكم النشأة الأولى لا عن أصل سبق، لا يحتمل أ، يعجز عن النشأة الآخرة؛ لأنها مثل الأولى؛ بل في وهمكم أسهل وأهون.
وقوله - عز وجل -: { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } يخرج على ما ذكرنا: هلا تذكرون وحدانيته وربوبيته.
أو هلا تذكرون أن قادر على البعث.
أو هلا تذكرون أنه هو المستوجب لشكر ما أنعم عليكم، وهلا تذكرون نعمه وإحسانه.
ومن الناس من قال: النشأة الأولى هاهنا نشأة آدم - عليه السلام - وخلقه؛ أي: علمتم نشأته لا عن أصل ولا احتذاء لغير، فمن قدر على ذلك فهو على النشأة الآخرة لقادر، وعلى تقدير وهمكم أقدر، والله الموفق.
وقوله - عزو جل -: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ }، كأنه يقول: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تخلقون الزرع أم نحن الخالقون له؟ فيكون فيه الذي ذكرنا في ذلك، والله أعلم.
والثاني: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم جعلتم الحراثة بحيث تنبت أم نحن الجاعلون بحيث تنبت؟
ثم قال: { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً }، أي: يابساز
وقال أبو عوسجة: أي: متكسر؛ يذكر نعمته التي أنعهما عليهم؛ يقول: هو الذي جعله بحيث ينتفع [به]، ويبقى، ولو شاء لجعله بحيث لا ينتفع به، ويخبر عن قدرته: أنه قادر على الإنبات، وعلى الإهلاك؛ فعلى ذلك قادر على الإنشاء والإعادة.
وأهل التأويل يقولون: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون، وأصله ما ذكرنا.
قوله - عز وجل -: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } قيل: تعجبون.
وقيل: تندمون، وهي لغة عكيل.
وقال أبو بكر الأصم: أي: صرتم تنعمون وتتلذون؛ كما يقول الرجل الآخر: لو أخذت مالك أو سلبته صرت غنيا أو استغنيت.
ولكن لا ندري أيقال ما ذكر أم لا؟ فإن كان يقال ذلك، يصير تقديره كأه يتلذذ؛ لكثرة ما يذكره في كل وقت؛ لأن الرجل إذا ذهب ماله لا يزال يذكره كالمتلذذ به والمتنعم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ }، أي: تلاومون.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (فصرتم تفكهون)، وقوله: { فَظَلْتُمْ } يستعمل في زمان النهار دون الليل.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: فظلتم تقولون: إنا لمغرمون.
ثم اختلف فيه:
قيل: إنا لمعذبون بقوله:
{ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [الفرقان: 65].
وقيل: إنا المذمومون الملقون للشر، ونحون ذلك، لكنه من الغرم الظاهر؛ لأن مرتجعه خسران في ماله، أو هلاك يلحقه الغرامة؛ لما يحتاج إلى غيره، وأصله كأنه يقول - والله أعلم -: لو جعله حطاما يابسا لا تنتعفون به، ظلمتم تقولون: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ }.
وقوله: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } قيل: المحروم: هو الذي ينتفى عنه المال او ما ينتفع به.
وقال بعضهم: محدودون.
وقيل: محاربون.
لكن المحروم ظاهر، لا يحتاج إلى التفسير ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } يذكر نعمه عليهم بما أنزل لهم من الماء العذب فيشربون، وأخبر أنه لو شاء، لجعله أجاجا مالحاً ما يهلك الأنفس، ولا تقوم به، وكذلك قوله: { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما } حتى يخرج من أن يكون غذاء فيه، ولكن يفضله ورحمته أبقى لهم ذلك أغذية وأشربة؛ ولذلك قال في آخرة: { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [أي]: هلا تشكرون ما أنعم عليكم؟
ثم في هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة في أفعال العباد؛ حتيث قال: { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ }، والإمناء: هو فعل العبد؛ إذ هو دفق المني، ثم أخبر أنه هو خالق ذلك؛ حيث قال: { ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ }، وكذلك الحراثة والزراعة فعل العباد، وأخبر أنه خالق ذلك.
[و] في قوله تعالى: { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما } و{ أُجَاجاً } نقض قولهم في الأصلح؛ فإنه يقال لهم: إن قوله: لو شاء لجعله كذا، ثم لم يفعل ذلك، فقد ترك الأصلح لهم، أو يكون الأصلح لهم في إبقاء ذلك؛ فيصير كأنه قال: لو شاء لجعل ما هو حق وعدل جورا، ولا يجوز أن يقال: إن الله تعالى لو شاء أن يجور لجار؛ فعلى أي الوجهين حمل، كان في ذلك نقض مذهبهم.
وفي قوله تعالى: { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } نقض قولهم من أن المقتول لم يمت بأجله؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه قدر الموت بينهم، وعندهم: أن من قتل لم يمت بما قدر الله تعالى، ولم يمت بأجله، وقد أخبر أنه هو قدر ذلك، وأنه لا يسبق في ذلك قوله: { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }، ولو كان على ما تقوله المعتزلة يموت قبل أجله، فقد قالوا: إنه لم يقدر له الموت، وأن القاتل قد سبقه ومنعه عن وفاء ما جعل له من الأجل والبلوغ إلى ذلك الأجل الذي جعل له وكذبه في خبره: أنه يبلغ إلى ذلك الأجل، والله الموفق.
ثم قوله: { ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ } اختلف في تأويل المزن: قال عامة أهل التأويل والأدب: المزن: هو السحاب.
وقال أبو بكر الأصم: المزن: هو الماء العذب؛ فعلى قوله يكون حرف { مِنَ } صلة، كأنه قال: أأنتم أنزلتم المزن.
والظاهر ما ذهب إليه أولئك: أنه ينزل من السحاب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } قال بعضهم: توقدون.
وقال بعضهم: تقدحون، يقال: قدحت النار، وأوريتها: أي أخرجتها؛ يقال: ورت الناس ترى وريا؛ فهي وراية، أي: أضاءت.
وقوله - عز وجل -: { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } قيل: هي الشجرة التي تجعل حطبا، وتوقد بها النار وتحرق.
وقيل: هي الشجرة التي فيها النار، وهي التي يتخذ منها الزيوت، والأول أقرب، والله أعلم.
وقوله: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال بعض أهل التأويل: أي: جعلنا هذه النار تذكرة للنار الكبرى: وهي نار الآخرة.
ويحتمل أن يكون { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا }، أي: هذه النعم الحاضرة تذكرة للنعم الموعودة.
أو جعلنا هذه الشدائد والبلايا في الدنيا تذكرة لما أوعدنا في الآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } قال بعض أهل التأويل: أي متاعا للمسافرين، خص المسافرين، لنزولهم القواء، وهو القفر؛ وهو قول القتبي.
وقيل: المقوين: المستمتعين.
وقال أبو عوسجة: المقوي: الذي لا زاد له.
وقيل: الذي يقع في أرض قواء، والقواء: الأرض الخالية من الناس.
وقال أبو عبيد: أرى الذي لا زاد له ليس أولى بالنار، ولا أحوج إليها من الذي معه الزاد؛ بل صاحب الزاد إليها أحوج، ويقال: رجل مقوٍ: إذا كانت معه مطية قوية.