التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ
٧٥
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
٧٦
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
٧٧
فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
٧٨
لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ
٧٩
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٠
أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ
٨١
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
٨٢
فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ
٨٣
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
٨٤
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ
٨٥
فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
٨٦
تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٨٧
فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٨٨
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
٨٩
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩٠
فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩١
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ
٩٢
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
٩٣
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
٩٤
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ
٩٥
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٩٦
-الواقعة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } عن ابن مسعود وإبراهيم أنهما قرآ: (بموقع النجوم)، على الوحدان.
وعن الحسن: أنه قرأها بمواقع على الجمع، وربه أخذ أبو عبيد، وقال إن بعض أهل التأويل يتأولونها على منازل القرآن، وبعضهم على مغايب الكواكب ومساقطها، وأي: الوجهين كان، فالجمع فيه أولى من الوجدان.
ثم اختلف في قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ }:
منهم من قال: إن حرف (لا) هاهنا صلة؛ كأنه قال: أقسم بمواقع النجوم، وذلك جائز في اللغة، كقوله:
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] ونحوه، يكون لى الصلة والزيادة على التوكيد.
ومنهم من قال: على إثبات حرف (لا)، لكنه جعل ذكره لرد قول كان من أولئك الكفرة، ولدفع منازعة كانت منهم، لكن لم يكذر ذلك؛ لما كنت معروفة بينهم، فرد ذلك بقوله: { فَلاَ } ثم ابتدأ القسم بقوله: { أُقْسِمُ }، كأنه قال: أقسم قسما بمواقع النجوم.
ثم اختلف في تأويل قوله: { بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقال بعضههم: { بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } أي: بمواقع نزول القرآن نجوماً؛ دليله: ما ذكر على أثره: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ }.
والثاني: { بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } النجوم المعروفة؛ على ما قال بعضهم.
ثم ن كان المراد منه: الكواكب، فالقسم بها يكون على وجوه.
أحدها: لعظم موقع النجوم ومحلها في القلوب، وجليل قدرها عند الناس حتى يجعلها بعض الملحدة مدبرة العالم.
أو لكثرة منافع الخلق بها من معرفة الطرق بها والسبل، ومعرفة كثرة الأنواء والمياه، ومعرفة الأوقات والأزمنة، وغيرها مما يكثر ذكرها.
أو { بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } أي: مساقطها، وفي ذلك إخبار وإنباء عن شدة طاعة النجوم وتسخيره إياها للخلق؛ حيث تملك قطع مسيرة خمسمائة يوم في ليلة واحدة ما لا يتوهم قطع ذلك من سواها من ذوي الأرواح والأجنحة التي هي أسرع لقطع المسافات والوصول إلى مقاصدها، والله أعلم.
ثم قال أهل التأويل بأجمعهم بأن القسم بها من الله تعالى.
وجائز أن يكون القسم من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أضافه إلى نفسه؛ تعليما منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم برب هذه الأشياء؛ وكذلك تعليما لغيره من الرسل القسم برب هذه الأشياء؛ إذ لا تنازع بينهم وبين الله تعالى؛ ليقسم وإنما وضع القسم لتأكيد الخبر عند الإنكار والتنازع، ولكن التنازع فيما بينهم وبين الرسل، وكذلك ما ذك:
{ فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ } [المعارج: 40]، ليس من الله تعالى، ولكن من الرسول؛ إلا يحتمل أن يكن الرب - عز وجل - هو المقسم، ويقول: { بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ } [المعارج: 40]؛ فظاهره أن يكون الرسول هو المقسم بها، فعلى ذلك الأول، والله أعلم.
ومن الناس من قال: إن الأقسام التي جرى ذكرها في القرآن بالأشياء التي ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت تلك الأشياء تؤكد وتوجب القسم، وتؤكد أو لو وقع بها القسم؛ لأن الأقسام فيه إنما جرى أكثرها في إيجاب البعث والتوحيد، وإثبات الرسالة، ونحوها، وما جرى ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت توجب ما يوجب القسم؛ لأن في هذه الأشياء دلالات على البعث والتوحيد والرسالة، والله الموفق.
وقوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } على قول من يجعل القسم بالقرآن، فهو ظاهر: أن يقول: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }، أي: الذي أقسم به وأنزله نجوماً هو كريم.
وعلى التأويل الذي يجعل القسم بالنجوم المعروفة، يجعل قوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } ابتداء ذكر منه له.
ثم تسميته القرآن: كريما، يخرج على وجوه:
أحدها: وصفه بالكرم؛ لما هو محل لقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، وفي العرف: الكريم: من نصب نفسه وأعدها لقضاء حوائج الخلق والقيام لإنجازها.
أو وصفه بالكرم؛ لأن من اتبعه، كرم وشرف.
أو كريم عند الله عظيم: لذلك وصفه بالكرم، والله أعلم.
وقوله: { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } قال أهل التأويل: في اللوح المحفوظ؛ سماه مكنون: لأنه مستور على خلقه عند الله.
وقال - عز وجل -: { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } يقول: لا يمس ذلك إلا المطهرون.
وقال بعضهم: هم الملائكة الذين يجري ذلك على أيديهمه؛ كقوله تعالى:
{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس: 15-16] طهروا من الذنوب والآثام، وكأنه ذكر هذا ليأمنوا عن تحريف هذا الكتاب وتبديله، وهو ما قال على أثره: { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، أي: أنه مكنون عمن يحرفه ويبدله، وأنه لا يمسه إلا المطهرون من الذنوب، والتحريف: إثم وذنب من رب العالمين، وهو كما ذكر في آية أخرى: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193-194]، وقال: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 5]، أخبر أن الذي نزل به من السماء أمين، لا يكون منه التحريف ولا التبديل، وأنه قوي، لا يقدر أحد من جني وإنسي أخذه من يده، ولا تحريفه، ثم تمام الأمن بقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، وكل حفظة إلى نفسه؛ لا إلى من خلقه؛ فصار محفوظا عن التبديل والتحريف، والله أعلم.
وقوله: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } قال بعضهم: أفبهذا القرآن أنت كافرون؟ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } الله تعالى جعل هذا القرآن حياة الدين وقوامه، والرزق حياة الأبدان وما به قوامها، فكذبوا الأمرين جميعا، ما به حياة الدين والأبدان جميعا.
ثم يخرج ما ذكر من تكذيب الرزق على وجوه:
أحدها: ما ذكر بعض الناس أهل التأويل: أنهم كانوا يقولون: رزقنا بنوء كذا؛ كانوا ينسبون الرزق لذلك النوء؛ فهذايخرج على قول المنجمة: إن النجوم هي مدبرة العالم ورازقتهمه؛ لا يجعلون لله تعالى في ذلك تدبيرا.
فأما من نسب الرزق إلى الله تعالى، ويقول: رزقنا الله بنوء كذا، فليس في ذلك تكذيبه؛ إنما يخرج ذكر النوء ذكر سبب من الأسباب التي يرزق الله تعالى بها، وكذلك من رأى الرزق من الأسباب خاصة، وأما من يقول: رزقنا تعالى بسبب كذا، فذلك جائز القول به.
وقال بعضهم: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي: تجعلون شكر الرزق التكذيب؛ وبه قال أبو عبيدة.
وجائز أن يكون تكذيبهم الرزق: صرف تسمية الألوهية إلى غير الذي رزقهم، والعبادة لغير المستحق لها، والله أعلم.
وقال الحسن: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } بئسما أخذ القوم لأنفسهم؛ حتى لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب؛ يقول: صار حظكم من القرآن التكذيب، ويجعل هذه الآية مع الآية الأولى: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ }.
وقال أبو بكر الأصم في هذه الآية: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ }، وهو هذا القرآن الذي خصكم به دون آبائكم، ورزقتم به ما لم يرزق آباؤكم منه، ثم جعلتم تكذبون بذلك الرزق الذي خصصتم به ورزقتم، أو كلام من نحوه، وهو كقوله تعالى:
{ وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } [الأنعام: 91].
وقال في قوله تعالى: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ }: هو الذي يرى الموافقة، ويحتال في دفع حجة ما يلزمه ويرد عليه، أو كلام يشبه معناه هذا، والله أعلم.
وقال أبو معاذ: مُدَّهِن وَمُدْهِن لغتان، ثم أصل المداهنة؛ لطمع له فيه مخادعة حتى يصل إلى ما يطمع، والمداراة الشفقة، يداريه إشفاقاً عليه ليتحقق له عليه الحق؛ ليسلم له دينه، وإلا هما الظاهر واحد، وهما الملاينة وخفض الجناح، لكن الفرق بينهما ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }، ليس هذا الكلام صلة ما تقدم من الكلام.
ثم يشبه أن يكون صلة ما قال أولئك للمؤمنين:
{ لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [آل عمران: 156]، يقول - والله أعلم -: لو كانوا عندكم لم يموتوا ولم يقتلوا على ما زعمتم، فهلا إذا كانوا عندكم؛ وقد بلغت الأرواح الحلقوم أن ترجعوها، وتردوها إلى الأجساد التي كانت لو كنتم صادقين في قولكم: { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ... } الآية [آل عمران: 156]، على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } يخرج على وجهين:
أحدهما: { تَنظُرُونَ } أي: تنتظرون خروج الروح أنها متى تخرج؟ لا تملكون ردها إلى حيث كانت، ولكن تنتظرون خروجها متى تخرج؟
والثاني: { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } على حقيقة النظر؛ أي: تنظرون إلى سلطاني وقدرتي.
وقيل: هو من الانتظار؛ أي: تنتظرون أن يحل بكم الموت، [و]هو ما ذكرنا.
وجائز أن يكون قوله: { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم في ضيق الحال، وإنما يضيق الحال عليهم الأمر عند حلول الموت؛ إذ لا بعث عندهم، فيقول: فلولا إذا بلغت الأرواح الحلقوم فتنفع لهم الأصنام التي يعبدونها، وترد الأرواح إلى المكان الذي كانت، فإذا لم تملك ذلك فكيف عبدتموها؟ والله أعلم.
وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ }، قال بعض اهل التأويل: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أي: ملائكتي ورسلي في ذلك الوقت أقرب إليه منكم { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } الملائكة، لكن أضاف إلى نفسه؛ لما أن الملائكة بأمره وتسليطه يعملون.
وقيل: نحن أقرب إ ليه منكم، أي: أولى به في ذلك الوقت؛ لما يعلم هو خطأه، ويتبين له الحق في ذلك الوقت من الباطل: { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } أنتم، أي: لا تعلمون ذلك، والله أعلم.
وقوله: { إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }، قال بعضهم: { غَيْرَ مَدِينِينَ } أي: لو كنتم غير مملوكين لله تعالى على ما زعمتم، ترجعون الأرواح، وتردونها إلى الأجساد التي كانت فيها؛ إن كنتم صادقين: أنكم غير مملوكين، فإذا كنتم عندكم غير مملوكين، تكونون مالكين؛ إذ ليس إلا المملوك والمالك، فإذا لم تكونوا مملوكين تكونون مالكين فتملكون ردها إلى ما فيها، فإذا لم تملكوا كتنم مملوكين، والله أعلم.
وقال بعضهم: { غَيْرَ مَدِينِينَ } أي: غير محاسبين ولا مجزيين، فردوا النشأة الأولى، واجعلوها بأنفسكم حتى تكون النشأة الأولى الحكمة؛ إذ لم تملكوا رد هذه الأرواح إلى الأنفس، أو اجعلوا النشأة الأولى حكمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ... } إلى آخره، اختلف في وقت ما ذكر [و]لمن ذكر ذلك؟ قال بعضهم: إن ذلك يقال لهم عند الموت؛ بشارة لهم بما يكومن لهم في الجنة.
ومنهم من يقول: إنما يقال ذلك إذا دخل هؤلاء الجنة، وأولئك النار؛ أعني: الكافرين، وهو ما ذكر، { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ }.
وجائز أن يكون يقال ذلك لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وصفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنده في الجنة، ومكانهم لديه، على ما كانوا عنده في الدنيا السابقين كانوا في الدنيا المقربين عنده، ومكانهم لديه أقرب من مكان غيرهم من المؤمنين؛ فعلى ذلك يخبر أن السابقين في الإجابة يكونون في الآخرة عنده أقرب، ويكون قوله: { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } أي: يستأنس هو بهم ويستأنسون به، لا يفارقونه ولا يفارقهم، على ما كانوا في الدنيا، وسائ المؤمنين يسلمون عليه في أوقات، وهو ما ذكر: و{ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } على ما كانوا يفعلون في الدنيا، وهو أقرب من الوجهين اللذين ذكرناهما.
ويحتمل ما ذكروا من البشارة عند الموت - أعني للمؤمنين والكافرين - في حق المؤمنين: { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ }، { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ... } كذا، وفي حق الكفرة: { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ... } الآية.
ويحتمل [ما] ذكر بعضهم: أن ذلك يقال لهم بعدما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، والله أعلم.
قوله - عز وجل -: { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } اختلف في تأويله وتلاوته:
أما تلاوته: روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } تعني: بضم الراء.
وعن الحسن: أنه قرأها بالضم أيضا.
وعن الضحاك: بفتح الراء، [و]عليه جميع القراء.
وقال أبو عبيد: لولا كراهة خلاف الأمة، وإلا ما قرأتها إلا الضم، ولكن لا أجد أحداً عليها، فأستوحش من مفارقة الناس، ولا يجمع الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الضلالة.
وأما تأويله: فعلى قراءة الرفع، عن الحسن قال: الروح: الرحمة، والريحان: ريحاننا.
وعن أبي عبيد قال:ِ بالرفع: هو الحياة والبقاء.
وعن الضحاك: بالفتح: الروح: الاستراحة، والريحان: الرزق.
وقال بعضهم: الروح: كناية عن دوام النعمة والسعة، يقال: فلان في روح؛ إذا كان في سعة ونعمة، والريحان: كناية عن الشرف والمنزلة، يقل: فلان ريحاني؛ وذلك لشرفه ومنزلته عنده.
ومنهم من قال: الروح: الراحة، والريحان: الرزق في الجنة.
وقال بعضهم: الورح - بالرفع -: من الرحمة، وبالنصب: الراحة.
ونحن نقول: جائز أن يكونا جميعا بالنصب والرفع من الرحمة؛ لقوله:
{ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]، أي: من رحمته، وقال في موضع آخر: { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22] أي: برحمة منه، يخبر الله تعالى أن المقربين يكونون في الجنة في رحمة الله ونعمته، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } يحتمل ما وصفنا أن أصحاب اليمين يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيي بضعهم بعضا بالسلام.
ويحتمل { فَسَلاَمٌ لَّكَ } أي: السلامة لك منهم من جميع الآفات والأذى.
وذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - (فسلام إنك من أصحاب اليمين)، فهذا إن ثبت فهو يخرج على البشارة له عند الموت، والله أعلم.
وقيلأ: يسلم عليهم الملائكة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } يقول: هذا الذي ذكرنا للمقربين، ولأصحاب اليمين، وللمكذبين هو حق اليقين؛ أي كائن لا محالة، لا شك فيه؛ مثل هذا يقال على التأكيد وتحقيق ما سبق ذكره ووصفه.
وقوله - عز وجل -: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } يقول - والله أعلم - فسبح ربك باسم لا سيمى به غيره؛ أي: نزهه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه من الولد والشريك، وتسمية من دونه: إلها وغير ذلك، والله الموفق للسداد وإليه المرجع والمآب.