التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
١٦
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٧
إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١٨
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٩
-الحديد

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ }.
{ وَمَا نَزَلَ } قرئ مخففا ومثقلا، فمن شدد لما سبق من ذكر الله تعالى، ومن خفف، جعل الفعل للحق.
ثم الآية تحتمل وجوهاً:
أحدها: ما قال بعض أهل التأويل: إنها نزلت في المنافقين الذين أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر، { أَلَمْ يَأْنِ }، أي: قد أنى للذين آمنوا ظاهراً وأظهروا الموافقة للمؤمنين { لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ }، أي: إذا ذكر الله { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ }، أي: القرآن إذا يتلى عليهم، أي: يرق قلوبهم وتؤمن به؛ لأنهم كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر، ويطمعون هلاكه، أمّن الله تعالى المؤمنين من ذلك الخوف وآس أولئك عما تربصوا فيه من نزول الدوائر، فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } ظاهراً { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } والقرآن، وترق لذلك، وتؤمن به، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ }.
[على] هذا التأويل: أي: لا تكونوا كأولئك الذين تمادوا في الضلال وقساو القلوب؛ لما طال عليهم الوقت، وتركوا النظر في الكتب.
ويحتمل أن يكون الآية في أهل الكتاب الذين كانوا مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فيقول: { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } به من قبل أن يبعث { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي كتابهم { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } وهو القرآن أن يؤمنوا به، كما كانوا آمنوا به لما وجدوا نعته في كتابهم.
ثم قوله - عز وجل -: { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ... } الآية.
أي: لا تكونوا كالذين كانوا من قبلكم من أهل الكتاب، { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ } أي: طال عليهم أن ينظروا في كتبهم؛ { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } بطول ترك نظرهم فيها، والله أعلم.
ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين حققوا الإيمان بالله ورسوله، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: { أَلَمْ يَأْنِ }، أي: قد أتى للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم عند ذكر الله بالنظر والتأمل في ذلك؛ فيحملهم ذلك على خشوع قلوبهم عند ذكر الله، ويزداد لهم الإيمان واليقين؛ للنظر فيه والتفكر، وفهم ما فيه، والله أعلم.
والثاني: { أَلَمْ يَأْنِ }، أي: قد أنى للذين آمنوا أن تقطع شهواتهم وأمانيهم في الدنيا، وتخشع قلوبهم لذكر الله، { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }، أي: لا تغفلوا عن كتاب الله وذكره ولا تركزوا النظر فيه والتفكر، [كالذين] غفلوا عما فيه؛ فقست قلوبهم فلا تكونوا أنتم كهم؛ فتقسو قلوبكم كما قست قلوبهم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }، أي: كثير من أولئك الذين أوتوا الكتاب فاسقون؛ لتركهم النظر في الكتاب.
وجائز { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: المعاندون، والقليل منهم المقلدون؛ وهو كقوله:
{ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [المؤمنون: 70]، أي: معاندون، وهم الرؤساء والقادة الذين كابروا الرسل وعاندوهم إلا قليل منهم اتبعهم وقلدوهم.
وقوله - عز وجل -: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }.
ذكر هذا ليس على أنهم لم يكونوا علموا أن الله هو يحيي الأرض بعد موتها، بل كانوا عالمين بذلك، لكنه ذكر كما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:
{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [محمد: 19]، أي: أشعر قلبك في كل وقت وساعة الربوبية لله تعالى والوحدانية له؛ فعلى هذا يحتمل قوله: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }، أي: أشعروا قلوبكم في كل وقت جعل الألوهية والربوبية لله تعالى، وصرف العبادة إليه، والتنزيه والتبرئة له عما لا يليق به مما يوصف به الخلق؛ إذ علمتم أنه يحيي الأرض بعد موتها، فاعلموا، [أنه] يمتحنكم بأنواع المحن؛ إذ لا يحتمل إحياء ما ذكر بغير فائدة وتركهم سدى.
أو يقول: قد علمتم أن الله تعالى هو يحيي الأرض بعد موتها، وأنتم ترغبون فيما أحياه، وتصيبون منه، وتجتهدون في نيل ذلك وإصابته، فاجتهدوا في إصابة البركات الدائمة في الحياة الباقية.
أو يقول: كما علمتم: أنه قادر على إحياء الأرض بعد موتها، فاعلموا أنه قادر على البعث، والله أعلم.
وقوله: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف "لعل" من الله تعالى يخرج على الإيجاب، لكن يخرج هاهنا على الترجي وإطماع العقل للآيات والفهم لها إذ نظروا فيها وتأملوا أنها آيات من الله تعالى.
أو أن يرجع ذلك إلى خاص من الناس لو خرج حرف "لعل" للإيجاب دون الترجي، وهم الذين علم الله تعالى أنهم يعقلون أنها آيات ويؤمنون بها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ } قرئ مشدد الصاد والدال، ومخفف الصاد، فمن شدد جعله من التصدق، أي: المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد، فيصير المصَّدِّقين، مثل: المزمل والمدثر؛ يؤيد ذلك ما ذكر في حرف أبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه قرأ بالتاء: (إن المتصدقين والمتصدقات).
ومن خففه، جعلهما من التصديق والإيمان.
وقوله: { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ }.
قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ }، سمى المؤمنين: صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق وإن كان ما يأتي به إنما هو شيء واحد نحو إذا صدق الله - صدق رسله فيما أخبروا عن الله تعالى وفيما دعوهم إلى ما دعوا، وبلغوا عن الله إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا فيما شهدوا على وحدانية الله تعالى وألوهيته من حث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين، فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل، وهو كما قلنا لأبي حنيفة -رحمه الله - في جواز الخطبة بتسبيحة أو تهليلة: إنها كلمة وجيزة، لو فسرت وبسطت، صارت خطبة طويلة، والله أعلم.
فإن قيل: إن أبابكر - رضي الله عنه - فضل باسم الصديق على غيره من الأمة، فإذا استحق غيره من المؤمنين هذا الاسم لم يختص هو بتلك الفضيلة؟
قيل: إن أبا بكر - رضي الله عنه - سمي: صديقا وخص به من بين سائر الصحابة والمؤمنين؛ لمعنى اختص به من بينهم، وغيره من المؤمنين سموا: صديقين من بين سائر أهل الأرض جميعا إلا في مقابلته، كهو اختص بهذا الاسم من بين سائرهم إلا في مقابلة النبي وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هذا هو معنى تفضيله، والفضل عند المقابلة يكون.
ويحتمل أن يكون ذلك الاختصاص له للاعتقاد والمعاملة جميعا وسائر المؤمنين سموا: صديقين؛ للاعتقاد خاصة، ومن وفى الأمرين جميعا كان أفضل من ممن وفى أمرا واحدا.
وقوله: { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } من الناس.
من جعل قوله: { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } على الابتداء مقطوعا من قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ }، ومنهم من وصله به:
فمن قطع عنه؛ فإنه يقول: الشهداء هم الرسل؛ لقوله تعالى:
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41]، ثم أخبر أن لهم أجرهم.
ومن قال إنه موصول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس؛ كقوله:
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ... } الآية [البقرة: 143]، سماهم: شهداء على غيرهم من الأمم، والله اعلم.
ولأهل الاعتزال أدنى تعلق بظاهر هذه الآية؛ وذلك لأنهم يقولون: إن الله تعالى إذا ذكر المؤمنين على الإطلاق، ذكر على أثر ذلك ما وعد لهم من الكرامات والثواب الجزيل، وإذا ذكرهم مع جريمتهم ذكر الوعيد لهم، ويستدلون بذكر الوعيد على أثر ذلك على أنه قد خرج من الإيمان، لكن ليس لهم بذلك دليل وإنما ذكر مقابل ما ذكر للمؤمنين من الكرامات للكفار الجحيم، والله أعلم.