التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٨
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
-الحديد

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ } يقول بعض أهل التأويل: يأيها الذين آمنوا بعيسى بن مريم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذا ضعيف؛ لأن الإيمان برسول من الرسل إيمان بجميع الرسل عليهم السلام.
وتأويل الآية: يأيها الذين آمنوا بالرسل جملة على غير الإشارة والتفسير، آمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على الإشارة به؛ لأن الإيمان بالرسل على غير الإشارة أمر سهل وإنما يصعب الإيمان به ويشتد بالإشارة إلى واحد؛ لأنه لما آمن بالمشار إليه، لزمه اتباع أمره، ونهيه، ولزمه موالاة من والاه واتبعه، ويلزمه معاداة من عاداه وخالفه في أمره ونهيه وترك اتباعه، وإن كان له أبناء وآباء، وذو إحسان، يجب أن يكن أحب الناس إليه وأقرب وأبر، فهذه معاملة الرسول الذي آمن به على الإشارة إليه وأنها تشتد في الطلب. وأما عند الإجمال والإرسال فأمر سهل إنما فيه تصديق كل صادق وتكذيب كل كاذب، وكل النسا قد اعتقدوا أصل تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، وليس في الإجمال الإرسال، إلا ذلك، وأما عند التعيين يوجد الامتحان، وبه يظهر نفاق المنافقين وتحقيق المؤمنين المحققين، وذلك قوله:
{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ } [محمد: 29-30]، ظهر نفاقهم بما أمروا بالجهاد والخروج معه على الإشارة، وكقوله: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ * فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [التوبة: 75-76]، وقد وعدوا في الجملة أن لو أعطاهم كذا من فضله لنصدقن، فلما أوتوا ذلك وأمروا بإخراجه أبوا إخراج ذلك عند الإشارة إليه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويله: يأيها الذين آمنوا بالرسل جملة، آمنوا بهذا الرسول المشار إليه؛ لما يصعب الأمر، ولما يلزم في ذلك معاداة من خالفه وترك اتباعه وإن كان أقرب الخلائق إليه، وكذلك عامل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربهم وأرحامهم لما آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصار عندهم رسول الله صلى الله لعيه وسلم أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأولادههم، وعادوا جميع أقاربهم الذين خالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا اتباعه، وفي ذلك آية عظيمة؛ ولذلك فضل إيمان من آمن في أول خروجه عن إيمان من تأخر منهم عن ذلك الوقت، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ }: قوله: { يُؤْتِكُمْ } أي: يوجب لكم { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي: أجرين: أجر الإيمان بالرسل كلهم على الإجمال، وأجر الإيمان بالرسل على الإشارة والتفصيل؛ ذكر هاهنا { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ }، وقال في آية أخرى:
{ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [القصص: 54] يحتمل قوله: { كِفْلَيْنِ }: مرتين وقوله: { مَّرَّتَيْنِ } [القصص: 54]: كفلين؛ فيكون أحدهما تفسيراً للآخر.
ثم ذكر هاهنا الأجر لهم من رحمته، وذكر هنالك الأجر مطلقا؛ ليعلم أن ما ذكر لأعمالهم من الأجر إنما من رحمته، وذكر هناك الأجر مطلقا؛ ليعلم أن ما ذكر لأعمالهم من الأجر إنما هو فضل منه ورحمة لا استحقاق على ما ذكرنا، والله الموفق.
ثم يحتمل ما ذكر من الأجر مرتين يكون مرة في الدنيا، والأخرى في الآخرة كقوله تعالى:
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } الآية [النحل: 30]، وقوله: { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة:201]، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من الأجر مرتين يكون وعدا في الآخرة، ويكون قوله: { مَّرَّتَيْنِ } أي: كفلين، أي: ضعفين، كقوله:
{ يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد: 18]. ثم قولهخ: { كِفْلَيْنِ } قال أكثر أهل التأويل: أي: أجرين.
وقال بعضهم: حفظين، ونصيبين.
وجائز أن يكون سماه: كفلا؛ لأنه كلفه؛ ألا ترى أن ذا الكفل ذكر إنما سمي به؛ لأنه كان يكفل لفلان، فعلى ذلك جائز تسميته هذا كفلا؛ لأنه يكفل به ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: النور كناية عما يبصر به ويتضح، والمشي كناية عن الأمور، يقول - والله أعلم -: يجعل ما تبصرون به السبيل، ويتضح لكم الأمور، ويزول عنكم الشبه؛ فيكون المشي كناية عن الأمور، والنور كناية عن البصر، والله أعلم، وهو كقوله تعالى:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [الأنعام: 122] أي: لا سواء، وهو كناية عما ذكرنا ليس بتصريح.
والثاني: على حقيقة إرادة المشي، وحقيقة النور، وذلك يكون في الآخرة، كقوله:
{ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا... } الآية [التحريم: 8].
وقال أهل التأويل: النور هاهنا القرآن، أي: أعطاكم قرآنا يفضي بكم إلى سبيل الخير، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } الغفران من الستر، كأنه يقول: يستر عليكم مساويكم بينكم؛ لأن ذكر المساوي ينقصهم النعم، ويحملهم على الحياء من ربهم.
وقوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، أي: يرحمهم، ويخلدهم في جنته.
وقوله: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } أجمع أهل التأويل واللغة أن حرف "لا" زيادة هاهنا وصلة، أي: ليعلم أهل الكتاب، وقد يزاد في الكلام حرف "لا" ويسقط بحق الصلة، يعرف ذلك أهل الحكمة والفقه؛ كقوله تعالى:
{ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء: 176] ليس يبين لنا أن نضل، ولكن يبين لنا لنعلم ونهتدي، فعرف الحكماء الفقهاء أن كلمة "لا" أسقطت هاهنا؛ فعلى ذلك عرفوا أن حرف "لا" هاهنا في قوله: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } زيادة، معناه: ليعلم أهل الكتاب: أن لا يقدرون على شيء من فضل الله.
ثم لا يحتمل أن يكون ذكر قوله: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ } على غير تقدم قول كان منهم حتى خرج هذا جوابا لهم عن ذلك؛ ولكن يذكر شيئا يشبه أن يكون الذي ذكر هو جواب ذلك الذي كان منهم، وهو أنهم كانوا أهل كتاب وأهل علم بالكتاب، يرون لأنفسهم فضلا على غيرهم وخصوصية ليست لغيرهم عندههم، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إليهم وإلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابا، وهو أمين عندهم، وذكر في كتابه ما كان في كتبهم، وأمرهم باتباعه والانقياد له والطاعة، وأحوجهم جميعا إليه وإلى ما في كتابه، أنكروا فضل الله عليه وإحسانه إليه، فعند ذلك قال: { يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ }، أي: يفضل من شاء على من يشاء، ليس ذلك إليهم.
ثم [في] قوله تعالى: { يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ } دلالة نقض قول المعتزلة في أن الله تعالى قد أعطى كل شيء ما يقدر على الوصول إلى جميع فضائله وإحسانه، وقد أخبر { يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ }، والمعتزلة يقولون، بل يقدرون فهذا خلاف لظاهر الآية، والله أعلم.
وفي قوله: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } - أيضا - دلالة نقض قول المعتزلة من جهة أخرى، وهو أنه ذكر المشيئة فيما هو حقه فضل وما هو حقه عدل، حيث قال: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ }، ولم يذكر المشيئة فيما هو حقه عدل، وما هو ظلم وجور، بل أطلق القول في ذلك، فقال:
{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46]، وقال: { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [غافر: 31]، وقال: { لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: 40]، وقال: { لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } [يونس: 44]، وغير ذلك من الآيات نفى أن يلحق أحدا منه الظلم والجور؛ ليعلم أن فعل الهدى منه يصل إلى من هداه وأرشده، والإضلال منه عدل، وكذلك قال: { يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [المدثر: 31]، أي: من نال الهدى والرشد إنما ناله بفضله ورحمته، ومن ضل فذلك عدل منه؛ ولذلك قال: { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [الحجرات: 17] والله الهادي.