التفاسير

< >
عرض

قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
١
ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
-المجادلة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } قال جماعة من أهل التفسير: إنها نزلت في أوس بن الصامت - أخي عبادة بن الصامت - وامرأته، غير أهم اختلفوا في اسم امرأته.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان اسمها خولة.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت جميلة.
وقال بعضهم بأنها كانت تسمى: خويلة على تصغير خولة.
وروي في بعض الروايات أنه كان سبب هذا القول من أوس لزوجته لما دعاها ليلة إلى فراشه، وكانت امرأتُهُ بحيث لا يحل له التمتع بها؛ فأبت عليه، وأرادت أن تخرج من البيت؛ فقال لها: "إن خرجت من البيت فأنت علي كظهر أمي"، فخرجت، فلما أصبحت قال لها زوجها: ما أراك إلا قد حرمت علي، قالت: والله ما ذكرت لي طلاقا، قال: فَأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم واسأليه، فإني أستحي أن أسأله عن هذا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته، فنزلت فيهما هذه الآية.
وروي في بعض الأخبار أن أول من ظاهر [من] امرأته أوس، قال: وكان [به] لمم، فقال في بعض ضجراته ذلك القول، وهذا يرويه محمد بن كعب القرظي، لكنه لا يحتمل أن يكون أراد باللمم الجنون؛ لأن المجنون لو طلق امرأته لا يقع الطلاق فضلا أن يكون ظهاره ظهارا.
وتأويل قوله: "وكان به لمم"، أي: فضل غضب وشدة؛ فكأه لم يكن به حلم، ثم اختلفت الروايات في شأنها وشأن زوجها:
منهم من روى - وهو محمد بن كعب -: أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن أوسا أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إلي، وقال كليمة؛ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، قال: أنت علي كظهر أمي. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" قالت: يا رسول الله، لا تقل ذاك ما ذكر طلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه"، وكررت المرأة ذلك، ويرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: "اللهم إني أشكو إليك شدة وجدي به، وما يشق علي من فراقه، اللهم أنزل على نبيك، فأنزل الله تعالى: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ... } إلى قوله: { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً }.
وفي بعض الأخبار رواها الكلبي: أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني يوم تزوجني وأنا شابة، ذات أهل كثير ومال كثي، فأكل شبابي حتى إذا كبرت عنده سني، وذهب أهلي، وتفرق مالي، وضعفت - جعلني عليه كظهر أمه، ثم تركني إلى غير شيء، وقد ندم وندمت؛ فهل من شيء يجمعني وإياه يا رسول الله؟! فقال - عليه السلام -: "أطلقلك؟" قالت: لا، قال: "ما أمرت في شأنك من شيء، فإن نزل علي في شأنك شيء أبينه لك، فرفعت يديها إلى السماء تدعوه وتتضرع إليه أن ينزل إليه بيان أمرهما، ثم خرجت من عنده، وأتت زوجها، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه الآية.
وروي ي بعض الأخبار أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وإني شابة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وكبرت سني، ورق عظمي، وباد أهلي - جعلني عليه كظهر أمه، ولي منه صبيان إن أنا وكلتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلى نفسي جاعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغربي فعلك الظالمة لزوجك"، فقالت: يا أمين الله في أرضه، إنه لظالم لي، فقال: "اذهبي؛ فإن فيكن الضعف والعجز" قال: فجعلت تجادله، فلما رأت أنه لا يرفع بها رأسا، ولا تجد عنده مخرجا، خرجت فرفعت طرفها إلى السماء تشكو إلى الله صنع زوجها بها، وقالت: "اللهم إني أتيت [أمينك في] أرضك، فلم يرفع لي رأسا، فتول اليوم حاجتي، وارحم ضعفي وقلة حيلتي"، فلم تصل منزلها حتى هبط جبريل - عليه السلام - بالوحي: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } فدعا أوسا زوجها فقال: "ما الذي حملك على ما صنعت بخولة، وقد أنزل الله فيها ما أنزل؟"، وبعث إليها فرحب بها، فقال: يار سول الله عمل الشيطان، فهل من أمر يجمعني الله وأياها؟ قال: نعم، ثم تلا عليهم آية الكفارة إلى آخرها.
ثم بين هذه الرويات اختلاف: ذكر في رواية القرطبي أنه قال - عليه السلام -: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" وفي رواية قال لها: "ما أمرت في شأنك من شيء"، لكنمه يمكن التوفيق بين الخبرين، وهو أن قوله: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" على ما كان أهل الجاهلية يرونه محرما، فقال: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه، من ذا الوجه، لكنه لم ينزل علي شيء في بيان هذا، فإن ينزل شيء على في هذا أبينه لك.
والثاني: أن ليس في قوله: "ما أراك" إثبات حرمة، بل هو قول على الظن بما قد كان الناس يعرفون بينهم لذلك القول، ويجوز أن يراد التقرير على ذلك، أو يرد لهذه الحادثة الحرمة بالوحي، فتوقف في الجواب مع الإشارة لها بالامتناع من الزوج؛ احتياطا لباب الحرمة، والله أعلم.
ثم إن بعض الفقهاء ذكر الاختلاف بين السلف في حكم الظهار قبل نزول الآية:
عن عكرمة أنه قال: كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، وكان طلاقا قبل نزول الآية، فجعله الله تعالى بهذه الآية ظهارا.
وعن أبي قلابة وغيره: كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أ،ه قال: إنما كان طلاق أهل الجاهلية الظهار، وقد جعل لهذه الأمة حرمة ترتفع وتزول بالكفارة التي أوجب.
وعن الحسن أنه قال: كان الظهار أشد الطلاق، وأحرم الحرام، إذا ظاهر من امرأته لم يرجع إليها أبدا.
والأشبه أنه لا يكون طلاقا في الإسلام لو كان يكون في الجاهلية، وأنه [لا] يكون موجبا حرمة لا ترتفع أبدا؛ كما قال الحسن؛ فإنه ذكر في حديث خولة أن زوجها لما قال لها: ما أراك إلا وقد حرمت علي، قالت: والله ما ذكرت لي طلاقا، ولو كان الظهار طلاقا لمعرفته، وكذلك لما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لي: أنت علي كظهر أمي، فقال - عليه السلام -: "ما أراك وقد حرمت عليه"، قالت: يا رسول الله، لا تقل ذاك؛ ما ذكر طلاقا، ولم يرد عليها اعتقادها في أن الظهار طلاق، وكذلك ما روي في رواية أخرى في حديث طويل: جعلني عليه كظهر أمه، ثم تركني إلى غير شيء، فهل من شيء يجمعني وإياه يا رسول الله؟ فقال - عليه السلام-: "أطلقك؟" قالت: لا، قال: "ما أمرت في شأنك من شيء"، ولو كان الظهار طلاقا بعد الإسلام قبل نزول هذه الآية لما فقال: "أطلقلك؟" بعدما قالت: "جعلني عليه كظهر أمه"، ولما قال: "ما أمرت في شأنك من شيء"، وحكم شريعته أنه طلاق مزيل للملك، دل هذا يقرر ما قلنا إنه ذكر في حديث خولة وأوس أنه أول من ظاهر في الإسلام فكيف يكون طلاقا؟!
فإن قيل: أليس صلى الله عليه وسلم قال: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه"، والحرمة التي لا ترفع النكاح بالظهار إنما ثبتت بعد نزول الآية، والآية نزلت بعد صدور القول من أوس من الصامت؛ فدل أن مراده تحريم الطلاق، فهذا يدل على أن هذا الحكم كان ثابتا في شريعته قبل نزول آية الظهار بوحي غير متلو وإن كان قبل ذلك في حكم الجاهلية، فكذلك ذلك الزوج قال للمرأة - أيضا -: "ما أراك إلا وقد حرمت علي"؛ دل هذا على أنه كان طلاقا قبل نزول الآية.
[قلنا]: هذا حجة عليكم؛ فإنه لو كان المراد بقوله - عليه السلام -: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" إثباتا للحرمة فيها بالظهار؛ لكونه طلاقا، فيكف يحكم عليها بالحرمة بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه، وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أوسا وامرأته بالكفارة، وأبقى النكاح بينهما لو كان ذلك طلاقا؟! والمثبت حكمه إنما ينسخ بالآية الثانية إلى حكم آخر، فظهر ذلك في المستقبل لا في الماضي؛ فدل أن هذا حجة عليه، ولكن إنما قال: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه؛" للوجهين اللذين ذكرناهما، والله أعلم.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بالطلاق في حقها، مع أن الظهار كان طلاقا بطريق القطع، بل قال: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" على طريق الظن؛ لأنه جائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه سينسخ حكم هذا القول وينقله من الطلاق إلى تحريم المتعة، فلم يقطع القول فيه حتى نزلت الآية.
قيل: لو كان ذلك حكما ثابتا مقررا في شريعته، لم يمتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن العلم به، وحكمه بذلك ما لم ينزل عليه الناسخ وإن أعلم أنه سينسخ؛ لأنه يجب عليه العمل بما أنزل عليه؛ لقوله:
{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [المائدة: 49] وقوله: { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [المائدة: 67]، وإذا ورد الناسخ بخلافه يكون عمله في المستقبل لا فيما مضى، وإنما يستقيم هذا على ما قلنا: إن الظهار قبل نزول الآية لا حكم له في الإسلام، وكان تحريما في الجاهلية؛ فمتى وجد هذا السبب، ووقعت هذه الحادثة، أمرها بالاجتناب عن الزوج؛ احتياطا حتى نزلت الآية؛ فيظهر أن حكمه ما هو؟ من حين وجوده؛ إذ يجوز أن يريد الله تعالى بهذا هذا الحكم، وإن كان لا علم للمباشر به؛ إذا كان بحيث يمكنه الوصول إلى العلم به عند الحاجة إلى العمل به، والحكم كالنص الذي ورد مجملا في إيجاب حكم، ثم ورد البيان متأخراً، والنص العام الذي يتأخر بيانه على خلاف ظاهره؛ فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا }، أي: سمع قولها ومجادلتها في زوجها، ومجادلتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤالها إياه عما ابتليت بقول زوجها لها: "أنت علي كظهر أمي".
[و] المجادلة هي المخاصمة، وهي المحاورة، وكان مجادلتها في زوجها أن قالت: "والله ما ذكر طلاقا"، حين قال لها بعدما قال لها: "إن خرجت من الدار، فأنت علي كظهر أمي"، وخرجت -: "ما أراك إلا وقد حرمت علي".
وأما مجادلتها مع النبي - عليه السلام - ومحاورتها هي قولها: "لا تقل ذلك"، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه"، فهذه محاورتهما.
ومن الناس من يقول: المحاورة: هي المراجعة في الكلام، وهما يرددان الكلام ويراجعانه ويكررانه، وهو ما ذكر أن النبي - عليه السلام - يكرر قوله: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه"، وهي تردد وتكرر قولها: "لا تقل ذلك يا رسول الله؛ فإنه ما ذكر طلاقا"، ولكن هذا قريب من الأول.
وقال بعض أهل اللغة: { تَحَاوُرَكُمآ }، أي: كلامكما، والتحاور: الكلام بين اثنين.
وقوله - عز وجل -: { وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } قيل فيه بوجهين:
أحدهما أن تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الله تعالى أضاف إلى نفسه؛ لأن مرادها أن تنزل آية من الله تعالى على رسوله بالفرج عنها.
والثاني: أن شكواها إلى الله وتضرعها قد كان حيث لم تجد الفرج والمخرج فيما قال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" فاشتكت إلى الله تعالى، ودعت، وتضرعت؛ حتى أنزل الله تعالى على رسوله الآية فيها، وجاءت الرخصة لهما بالاجتماع بعد التفكير على ما ذكر في الخبر، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ }، أي: سمع لها بما أجاب وأغاث بالفرج فيما اشتكت إليه، وسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما أبان ما ظهر له من الحكم في الحادثة التي أشبهت عليه، وأشكل عليه ذلك.
ثم اختلفت الاخبار في أمرهما - أيضا - حيث دعا الله صلى الله عليه وسلم [أوساً] وأخبره بالآية التي نزلت في أمرهما:
قال القرطبي: لما نزلت الآية دعا زوجها أوسا، فقال له: "أعتق رقبة"، قال: ما عندي رقبة أعتقها، قال: "فصم شهرين"، قال: ما أستطيع يا رسول الله ، إني لأصوم يوما واحدا فيشق علي، فكيف صوم شهرين متتابعين؟ قال: "فأطعم ستين مسيكنا"، قال: فنعم، قال: فأطعم ستين مسكينا فأمسكها.
وفي رواية أخرى ذكرها الكلبي: لما نزلت رخصتهما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوس ابن الصامت فأتاه، فقال: "ويحك ما حملك على ما صنعت وقلت؟" قال: الشيطان يا رسول الله؛ فهل من رخصة تجمعني وإياها؟ قال: "نعم"، وقرأ عليه هذه الآيات الأربع، وقال له: "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟" قال: لا والله يا رسول الله، إن المال لقليل غير كثير وإن الرقاب لغالية، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا والله يا رسول الله، لولا أني آكل في يوم ثلاث مرات لكلّ بصري، ولظننت أني سأموت، قال: "فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟" قال: لا والله يا رسول الله، إلا أن تعينني فأعانه عليه السلام بخمسة عشر صاعا، وأخرج أوس من عنده خمسة عشر صاعا فتصدق به على ستين مسكينا، فجمع الله بينه وبينها.
وذكر في خبر آخر أن رجلا كان ظاهر من امرأته، وكان هو يصوم عنه، فواقع امرأته في وقت الصوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فعابه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعله، ثم أمره بأن يكفر بما وصفنا من الكفارات، فقال [في] كل واحدة: لا أستطيع قال: فأمره - عليه السلام - أن يأتي موضع كذا إلى أبي زريق، ويأخذ منه وسقا من التمر، فيعطي ستين مسكينا كل مسكين ينفقه على عياله، ذكر في الإطعام في خبر: "لا أستطيع"، وفي خبر أنة قاله: "أما هذا فنعم"، وفي حديث آخر: "لا إلا أن تعينني"؛ فيشبه أن يكون هذا القول منه: "أما هذا فنعم" بعدما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإعانة أو بإعطاء الوسق؛ فتكمون الأخبار على الوفاق، والله أعلم.
وفي هذا الأخبار دليل على أن الكفارة إذا لزم فيها طعام، فمن الحنطة نصف صاع؛ لأنه جعل نصف صاع من الحنطة طعام مسكين، وأنه يجوز من صدقة الفطر، واله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ }، قرئ (يظَّهرون) مشددة الظاء بغير ألف، وهو في الأصل: "يتظهرون"، فأدغمت التاء في الظاء، وشددت.
وقرئ بفتح الياء وتشديد الظاء بألف، وهو في الأصل "يتظاهر" فأدغمت التاء في الظاء وشددت.
وقرئ - أيضا - { يُظَاهِرُونَ }، بتخفيف الظاء بألف من: ظاهر يظاهر مظاهرة.
والمعنى واحد فيما اختلف من قراءاتهم يقال: ظاهر الرجل من امرأته، وتظاهر وتظهر منها بمعنى واحد، وهو أن يقول لها: "أنت علي كظهر أمي".
وقال القتبي: { يُظَاهِرُونَ }، أي: يحرمون تحريم ظهور الأمهات.
وقال أبو عوسجة: { يُظَاهِرُونَ } هذه يمين أن يقول الرجل لامرأته: "أنت علي كظهر أمي"، وأما "يظَّاهرون" من التظاهر" وهو التعاون، يقال: تظاهروا، أي: تعاونوا، ولكن هو خلاف ما تضمنته الآية والله أعلم.
ثم الظهار كان عند أولئك القوم ظاهرا، وهو ما روينا في قصة امرأت أوس لما همت أن تخرج من الدار، قال لها: "إن خرجت من الدار، فأنت علي كظهر أمي"، وكذلك هذه الدلالة في قوله: { يُظَاهِرُونَ }.
والظهار أخذ اسمه من "الظهور"، وكذلك فيما عرف المسلمون فيما بينهم هذا اللفظ، وهو قوله: "أنت علي كظهر أمي"، والآية توجب أن يكون الظهار فيما يقول: "أنت علي كأمي"، وهو قوله: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }، ذكر الأمهات، ولم يذكر ظهور الأمهات؛ فصار ظاهر الآية يوجب هذا.
وبهذا احتج محمد -رحمه الله - لمذهبه فيمن قال لأمرأته: "أنت علي كأمي"، قال: يكون ظهارا.
وأما ابو حنيفة -رحمه الله - فإنه قال: لا يكون مظاهرا، إلا أن ينوي بذلك الحرمة، فإن أمي - وإنما نزلت الآية فيمن قال ذلك الحرف - أعني: قوله: أنت علي كظهر أمي - وإنما نزلت الآية فيمن قال ذلك القول، فلا يحل لنا أن نصرفه إلى غيره إلا بدليل.
وقوله: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }، أي: ما هن لهم كأمهاتهم؛ لأنه تعالى قال: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } على سبيل الرد لما قالوه، وقوله: { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ }، أي: قالوا لنسائهم: "أنتن علينا كظهور أمهاتنا".
وقوله - عز وجل -: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } يكومن ردّاً لقول من قالوا لنسائهم: "إنهم أمهاتنا" لا لمن قالوا: "إنهن "إمهاتنا" و"كظهور أمهاتنا"، فيحتمل بذلك القول تبعا لقوله: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }، أي: كأمهاتهم ولكن الإشكال أنه إذا صار تقدير الآية ما هو كأمهاتهم، فما معنى قوله: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }؛ لأنهم كانوا يدعون التشبيه بالأمهات، والله تعالى نفى ما ادعوا من التشبيه؛ فما معنى البيان حقيقة بقولهم: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }، وهم يعرفون ذلك ولا ينكرونه، ولا يدعون في نسائهم أنهن أمهاتهم حقيقة؛ حتى يرد عليهم دعواهم. بقوله: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }؟
وإشكال آخر: أنه قال: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً }، وظاهر هذا القول منهم ليس من الزور، ولا المنكر؛ إذ ليس في قولهم: "ظهور كظهر أمي" أو "أنت علي كظهر أمي" أو "كأمي" إلا التشبيه وهي لعلها [تشبهها] فإن ظهرها كظهور أمه؛ في الشبه والخلقة والتشبيه لا يقتضي العموم، فما معنى تسميته تشبيه المرأة بالأم: منكرا وزورا.
وإشكال آخر: أنه جعل الأمهات اللائي ولدنهم أمهات لهم؛ فإنه قال في نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن:
{ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6]، وقال فيمن يرضعن أولا الغير: { وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [النساء: 23] وإن لم يدلنهم.
فنقول - وبالله التوفيق -: إنهم كانوا يريدون أن يوجبوا حقوقا وأحكاما ما كانت في أمهاتهم، لم يكن لهم إيجاب ذلك؛ فإنهم كانوا يشبهون النساء بالأمهات، ولم يريدوا بذلك من حيث الصورة، ولكن يريدون بذلك التشبيه في الحرمة، وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات؛ فإن الأم حرام الاستمتاع بها لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه، ويخدمها، ويسافر بها، ويباح النظر، والمس، والإركاب، والإنزال، والخلوة بها، والمرأة متى حرمت بالطلاق الثلاث، أو بالبينونة، لا يثبت شيء من هذه الحقوق، والمشابهة بين الشيئين - إن كانت - لا تقتضي مشابهتها من كل وجه، ولكن تقتضي المساواة بينهما في وجه من الوجوه على الكمال - فإن الذات في الشاهد إذا قام به العلم، يسمى: عالما، والله تعالى يسمى: عالماً ولا يوجب التشبيه؛ لانعدام التماثل بين العلمين، والتساوي من كل وجه، فلم يعد تشابها تعالى الله عن ذلك، وتشبيههم النساء بأمهاتهم أرادوا أن يجعلوا حرمة نسائهم كحرمة أمهاتهم، ويوجبون فيهن حقوقا وأحكاما كحقوقهن وأحكامنهن؛ حتى يباح لهم [في] المعاملة مع نسائهم ماي باح مع أمهاتهم، ويحرم ما يحرم معهن ويكون احترامهن كاحترامهن، والله عالى لم يجعل ذلك، ونهاهم عن ذلك، فقال: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }، أي: كأمهاتهم في هذه الحرمة التي يريدون إثباتها، وأنه لم يجعل لنسائهم حرمة أمهاتهم، ثم قال: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }، أي: أن هذه الحرمة التي يريدون إثباتها فيهن مما جعلنا لأمهاتهم اللائي ولدنهم، فما بالهم يخترعون من أنفسهم شيئا لم أجعله، ولم أشرعه؛ فرد صنيعهم بهذا.
وعلى هذا يخرج تأويل قوله: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً }، إنما كذبهم بما قالوا من إيجاب تلك الحقوق والأحكام على أنفسهم في نسائهم من غير أن جعل الله تعالى ذلك، أي: وإنهم ليقولون منكرا وزورا في إيجاب الحقوق فيهن كما في الأمهات، وتشبيههم أياهن بالأمهات في الأحكام والحقوق الحرمة، وإن كان كلامهم وقولهم من حث ظاهر التشبيه ليس بمنكر ولا بزور، وهذا كقوله في وصف المنافقين:
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]، وهؤلاء المنافقون فيما قالوا في الظاهر كانوا صدقة، ولكن لما كان قصدهم غير ذلك، وكان في قولهم إيجاب شيء غير ما أظهروا - سماهم: كذبة، فكذلك هؤلاء المظاهرون لما أرادوا إيجاب حكم لم يجعل لهم ذلك سمى قولهم: منكر وزورا.
والمنكر: هو الذي لا يعرف في الشريعة، والزور: هو الكذب؛ فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
وأما قولهم: إن الله تعالى قد سمى غير من يلزمهم: أمهات من نساء النبي - عليه السلام - والمرضعات -: منهم من قال: جائز أن تكون هذه الآية متقدمة على قوله:
{ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [النساء: 23]، وعلى قوله: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6]، فلم يكن في ذلك الوقت أمهات من رضاع، ثم كانت من بعد؛ فيكون الإخبار بهذا مقيدا بذلك الوقت، وهو كقوله تعالى: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [الأنعام: 145]، لم يجد في ذلك الوقت، ثم وجد من بعد ذلك غيره محرما، فعلى ذلك هذا.
وقيلأ: يحتمل أن يكون قال ذلكفي قوم خاص وقبيلة خاصة، لم يكن لهم أمهات من إرضاع؛ فيكون الإخبار بأن أمهاتهم لسن إلا اللائي ولدنهم صدقا.
ولكن هذا تكلف؛ لأن قوله: { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } يعني: أن هذه الحقوق والأحكام التي يوجبون ليس تثبيت إلا في الأمهات اللاتي تلدنهم، أو من كانت في معناهن وصرن أمثالهن بأمر يجعله الله تعالى؛ كأزواج النبي صى الله عليه وسلم، والأمهات بسبب الرضاع، والله تعالى لم يجعل لنسائهم تلك الحقوق التي جعلها لمن لحقن بالأمهات، فيكون تشبيههن بهن في هذه الحقوق منكرا من القول وزورا، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }: اختلف في حكم العود ما هو؟ وفي تأويل العود عن طاوس قولان:
في قول قال: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ }: الوطء، فإذا حنث، فعليه الكفارة؛ وهذا تأويل بعيد مخالف للنص؛ لأن الله تعالى يقول: { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } وإنما الذي ذهب إليه حكم الإيلاء: أنه إذا وطئ تجب الكفارة، أما في الظهار تجب الكفارة قبل الوطئ وفي قول: أنه إذا تكلم الظهار يجب عليه الكفارة، ولم يشترط معه شيء آخر.
وعن مالك أنه إذا ظاهر من امرأته، ثم أجمع، وعزم على إمساكها وإصابتها، وجبت عليه الكفارة حتى إذا طلقها أو ماتت المرأة بعد العزم على الإمساك والإصابة، أو بعد الإصابة - بقي وجوب الكفارة عليه.
وإن لم يجمع على إمساكها حتى ماتت، تسقط الكفارة.
وكذلك إذا طلقها، لكنه إذا تزوجها بعد ذلك، لم يسمها حتى يكفر؛ فيكون العود: هو إمساكها لبطأها.
وعن الحسن: أن العود هو العزم على الجماع؛ حتى إذا عزم على جماعها، تجب الكفارة، وإن أراد تركها بعد ذلك.
وقال عثمان البتي فيمن ظاهر من امرأته، ثم طلقها قبل أن يطأها، قال: أرى عليه الكفارة، راجعها أو لم يراجعها، وإن ماتت، لم يرتفع الظهار والكفارة، ولا يرث حتى يكفر.
وقال الشافعي: العود هو الإمساك، والكفارة تجب به، وحكم الظهار هو تحريم المتعة؛ حتى إذا أمكنه أن يطلقها بعد الظهار، ولم يطلق، وأمسكها ساعة؛ ليطأها، فقد وجبت عليه الكفارة عاشت أو ماتت، وإذا عاشت طلقها أو لم يطلقها، راجعها أو لا.
وإذا طلقها عقيب الظهار بلا فصل يبطل الظهار، ولا تجب الكفارة بعزم إمساك المرأة.
وقال بعض المتأخرين في تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ }، أي: يعودون إلى القول الأول فيكررون ذلك القول، وعندهم لا يكون الرجل مظاهرا حتى يقول: "أنت علي كظهر أمي" مرتين.
وأما عندنا فحكم الظهار هو تحريم مؤقت بالكفارة، ولا نرفعه إلا بالكفارة، هكذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا قال أنت علي كظهر أمي"، لم تحل له حتى يفكر.
وعندنا لا تجب الكفارة بنفس الظهار، وإنما الظهار يوجب الحرمة لا غير، وإنما تجب بالعود حتى إنها إذا ماتت لا يجب عليه الكفارة إذا ارتفع المعنى الذي يجب، وهو استباحة الوطء وكذلك إذا طلقها بائنا أو ثلاثا، لا تجب الكافرة لهذا؛ حتى إذا عادت إليه بالتزويج، وأقدم على استباحة الوطء، تجب الكفارة.
وهو عند أصحابنا أن يجع المرأة على الحالة الأولى، ويحللها على نفسه على ما كان عليه، ويستبيح وطأها، فإذا أراد أن يحللها على نفسه ويستبيحها ويقدم عليه، يجب عليه أن يكفر، ولا تزول تلك الحرمة عندنا إلا بالكفارة؛ فالتكفير سبب الحل؛ كذا ذكر العمي في تأويل: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ }، أي: يعودون إلى فسخ ما قالوا ونقض ذلك، واستدل بما ذكر عن الأصمعي: أن أعرابيا تكلم بين يديه بأنه كان شيء ما ثم يعود إليه، قال له الأصمعي: ما أردت به؟ فقال: أي: أنقضه، وأفسخه؛ فهذا يدل على أن المراد من قوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ }، أي: يعودون إلى استحلال ما حرموا، وينقضون ذلك، ويردون الحل إلى الحالة الأولى، إلا أن ظاهره العود إلى القول بقوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } ولكن أراد به المقول والثابت به وهو الحرمة؛ كأنه قال: ثم يعودون لما حرموا بالقول فيستبيحونه؛ ويجوز أن يذكر الفعل ويراد به المفعول؛ كقوله - عليه السلام -: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه:، وإنما هو عائد في الموهوب، وقال الله تعالى:
{ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر: 99]، أي: الموقن به، والله أعلم.
فإن قيل: العود الذي يوجب الكفارة هو العزم على استباحة الوطء، والقصد على تحليلها على نفسه وإعادة الحل إلى الحالة الأولى، أو الإقدام على الوطء أو مباشرة نفس الوطء، فإن كان المراد هو الأول، يجب أن تقولوا: تجب الكفارة بنفس العزم على الاستباحة والتحليل، كما قال مالك رحمه لله، والحسنرحمه الله .
وإن كان المراد إيقاع الوطء يجب أن تقولوا: إنه لا تجب الكفارة إلا بعد الوطء كما قاله قوم، وهو خلاف الآية، وخلاف قولم.
قيل: نعني بذلك: هو الإقدام على استباحة الوطء، والاشتغال بإقامته، فيقدم التكفير، ثم يفعله؛ إذ لا يجب بمجرد العزم، ولا بعد تحقق الفعل، وهذا لأنه إذا ظاهر حرمت المرأة عليه بسبب فعله الواجب عليه توفير حقها في الجماع إن كانت بكرا في الحكم حتى يجبر عليه، وهذا وإن كانت ثيبا وقد وطئها مرة يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى إيصال ذلك إليها.
وعند بعض أصحابنا يجبر في الحكم أيضا على ذلك، فإذا أقدم على ذلك يجب عليه تحصيل الكفارة؛ ليتوصل إلى إقامة ذلك الواجب عليه من الجماع؛ إذ لا يحل ذلك بدون الكفارة، وهذا كالوضوء في باب الصلاة ليس بفرض مقصود بنفسه، لكن يجب لإقامة الصلاة؛ إذ لا يجوز الصلاة بدون الطهارة، فإذا أقدم على الصلاة يجب عليه تحصيل الوضوء؛ ليتمكن من أداء ما عليه، ولا يجب بنفس الإرادة، ولا يجب بنفس الحدث؛ حتى لا يجب الوضوء ما لم يدخل وقت الصلاة، ويقوم إليها، وكذلك المرأة إذا حاضت بعد الوقت حتى سقط عنها الصلاة يسقط الوضوء، فعلى ذلك هذا يجب عند الإقدام على إقامة هذا الواجب وهو الوطء، والظهار شرط؛ ولهذا إذا ماتت المرأة تسقط الكافرة؛ لانعدام ما هو المقصود بالإقدام، وهو الوطء، وكذلك إذا طلقها ثلاثا أو بائنا لكن إذا عادت إليه يلزمه الكفارة إذا أقدم على الوطء، ولم يبطل الظهار؛ لاحتمال حصول الغرض، والله أعلم.
ويحتمل وجها آخر: وهو قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ... } الآية هذا خبر عن ظهار القوم الذين كانوا يظاهرون في جاهليتهم، أي: ظاهروا في ذلك الوقت، ثم يعودون لما قالوا: أي: لو قالوا ذلك القول بعد إسلامهم فعليهم ما ذكره؛ إذ الظهار كان ظاهرا في الجاهلية من عاد إلى ذلك القول، ورجع إليه وقت إسلامه؛ فعليه ما ذكر، وهو كقوله تعالى:
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [المائدة: 95] فهذا يرجع إلى فعل ذلك مرة، وإلى استحلال ما حرم الله ثانيا، وإن عاد إلى الفصل الأول لا من وجه الاستحلال، فينتقم الله منه بالغرامة عليه، وإن عاد إلى استحلال، فينتقم منه بالعذاب؛ وكذلك مثل هذه في آية الربا، حيث قال: { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَنْ عَادَ } [البقرة: 275]، أي: عاد إلى ما كان يفعله قبل الإسلام، فكذلك هذا العود إلى الظهار على هذا التقرير يخرج تأويل الآية عنده، وهو كقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [المجادلة: 8] أي: كانوا يتناجون في الجاهلية، فنهاهم الله تعالى عن العود إلى ما كانوا عليه؛ فعلى ذلك يحتمل هذا، والله أعلم.
لكن على هذا التأويل الإقدام على الوطء سببا لوجوب الكفارة لم يثبت بهذا النص، إنما فيه أن الظهار يوجب تحريما مؤقتا بالكفارة، وكذلك الأحاديث التي ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أوسا بالكفارة حين ظاهر من زوجه، وإنما يعرف من حيث الدلالة؛ فإنه لما كان التحريم مؤقتا بالكفارة، يكون رافعه له قائما، ويجب الرافع بالإقدام عليه، لا بسبب سابق موجب للتحريم؛ لأن رافع الحرمة لا يجب بما يوجب الحرمة؛ كما ذكرنا في الوضوء: أنه لا يجب لما يحدث الذي هو رافع للطهارة، ولكن لما وجب على المكلف الصلاة بالطهارة، ويجب عليه الوضوء بالإقدام على الصلاة التي لا تجوز بدونه؛ فكذلك هذا، والله أعلم.
وقوله من جعل العود هو العزم على إمساك النكاح والبقاء عليه - فاسد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على أوس بن الصامت حين ظاهر من زوجه، ولم يسأله الإمساك والبقاء على النكاح.
ولأن تفسير العود بالإمساك لا يستقيم؛ لأنه لم يعرف في الاصل إمساك المرأة عودا عليا ولا إمساك شيء من الأشياء يتكلم بالعود إليه؛ فيكون هذا خلاف اللغة، ولما ذكرنا: أن العود إلى الشيء هو الرجوع إلى ما كان عليه؛ فيقتضي انعدامه وزواله حتى يتحقق العود؛ إذ العود هو وجود ثان، وهذا إنما يتحقق فيما قلنا من الجزء؛ لأنه قد يبدل بالحرمة، فأما العقد [فهو] قائم لم يزل بالظهار؛ فكيف يعود إلى العقد؟ فلا يكون البقاء على العقد وإمساك المرأة بالنكاح عودا.
ولأن الله تعالى قال: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ }، و"ثم" يقتضي التراخي.
ومن جعل العود هو الإمساك والبقاء على النكاح، فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخٍ، وذلك خلاف ظاهر الآية.
وقول من جعل العود ه العزيمة على الوطء، لا معنى له؛ لأن موجب الظهار هو تحريم الوطء لا تحريم العزم على الوطء وإن كان العزم على المحظور محظوراً؛ لكونه وسيلة إلى المحظور؛ فيكون العود هو الرجوع إلى ما يقوى به مقصودا لا وسيلة إلى حسب الأول.
ولأنه لا حظ للعزيمة في حق تعلق الأحكام في سائر الأصول؛ ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة، فلا اعتبار بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى عفا عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا به ويعلموا" .
وقول من جعل العود تكرار القول الأول فاسد أيضا، وإن كان ظاهر اللفظ يحتمل، وهو العود إلى القول الأول؛ لأنه خلاف الإجماع وخلاف أصول الشرع:
أما خلاف الإجماع؛ فإن السلف والخلف أجمعوا [على] أن هذا ليس بمراد من الآية؛ فيكومن قائله خارجا عن الإجماع.
وأما مخالفة الأصول؛ فلأن الحل والحرمة إنما تعلق وجوبهما بابتداء القول [لا] بتكراره في جميع الأصول من [البياعات و] النكاح والطلاق والعتاق والإجازات، فلما كان الأصل هذا في سائر الأسباب، والمظاهر موجب للحرمة بقوله؛ دل أن الموجب هو القول الأول دون الثاني، فيكن تعليق الحرمة بتكرار الموجب؛ مخالفة لسائر الأصول، وبهذا يبطل قول الشافعي في أن تعلق الحرمة بتكرار الرضعات لا برضعة واحدة، والله أعلم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكفارة في حق أوس، ولم يسأله عن تكرار القول، ولما لم يسأل دل أن الحكم غير متعلق بالتكرار.
وما قاله الشافعي: أنه إذا طلقها بعد الظهار بلا فصل فلا كفارة عليه، وإن لبث ساعة، ثم طلقها، كفر راجعها أو لم يراجعها، أو ماتت - قول تفرد به؛ لأن طاوسا أوجب عليه الكفارة طلقها أو أمسكها، وسائر التابعين قالوا: إن ماتت أو طلقها، ولم يراجعها فلا كفارة عليه، ولم يفصلوا بين أن يطلقها على أثر الطلاق بلا فصل، أو بعد ذلك بساعة؛ فيكون الشافعي بهذا القول مخالفا للسلف؛ فلا يعتبر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ظاهره يقتضي أن يكون الوطء محظورا عليه قبل الكفارة؛ لأنه جعل الحرمة مؤقتة بالكفارة، وإذا وطئ يسقط الظهار والكفارة؛ لأن كل ما تعلق بشرط أو توقت بوقت، فمتى فات الوقت، أو عدم الشرط، لم يجب لذل النص، واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: استغفر الله، ولا تعد حتى تكفر" ، فصار التحريم الذي بعد الوطء عرفناه بالسنة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يرجع إلى وجهين:
مرة إلى اسم الرقبة.
ومرة [إلى] ما يستحكم حكم الرقبة.
فإن كان المراد من ذكر الرقبة اسم الرقبة نفسها، فيجيء أن يجوز كل ما يقع عليه اسم الرقبة، صغيرا كان أو كبيرا، كافرا أو مسلما، مقطوع الرجلين، أو أعمى، أو كيفما كان. وبشر المريسي: يذهب ويجبر كيفما كانت الرقبة.
وإن كان المراد من ذكر الرقبة: ما يستحق حكم الرقبة فيجيء ألا يجوز إعتاق رقبة فيها نقصان؛ إذ الأصل في العبيد والإماء [أن النقص] فيما دون النفس يوجب نقصاناً في كل النفس؛ فيجيء ألا يجوز؛ أذ يصير معتقاً لبعض الرقبة لا كلها.
ثم الدليل على أن النقصان الحال فيما دون النفس في الرقاب جعل كالنقصان الحال في النفس أن العبد إذا قطعت يده أو فقئت عينه يشترى بنصف ما كان يشترى وقت الصحة؛ فصار النقصان فيما ون النفس كتلف نصف القيمة من العبد وإن لم يكن ذلك في نفسه النصف؛ فيجيء على هذا ألا يجوز إذا كان فيه أدنى النقصان؛ إذ الحكم فيما دون النفس محمو على حكم الأنفس، وحكم عليهم محمول على حكم كمال النفس. لكن هذان التأويلان في الآية لا يصحان.
وأما الجواب عن قولهم: إن النقصان الحال في بعض الرقبة كالحال في كلها: أن ذلك النقصان يرتفع بالعتق، وإن كان وقت قيام الرق يحكم عليه بالنقص؛ لما يصير رقبة له بحكم الكمال بالعتق إذا صار هو منتفعاً بالعتق إذ بالعتق جبر النقصان الذي كان به؛ فيسلم له الرقبة كلها من حيث المعنى فيجوز، كما إذا أعتق الرقبة السليمة، والدليل عليه: أنه لو جنى عليه بعدما عتق، لم ينقص من ديته شيء في مقابلة النقصان في نفسه وقت العبودة والرق، وثبت بهذا أنه في حق نفسه كامل النفس، وإنما كان ذلك النقص من نقص في قيمته وقت العبودة، إذ هو لو كان منقوصاً في حق نفسه لا يرتفع عنه ذلك النقصان أبداً؛ فلما ارتفع النقصان الذي به بإعتاقه دل أن إعتاقه جائز، والأصل فيما أوجب الله تعالى من هذه الكفارة إما أوجب ليكفر بها ما ارتكب من المآثم، وما ارتكب من المحظورات التي حظر عليه ارتكابها؛ ليتألم بهذه الكفارة؛ ليكون زجراً عن العود إليها فعلبنا أن ننظر في هذه الكفارة فإن كفر بشيء لا يتألم به نفسه، ولا يفجع عندها، فلا يجوز ذلك عن الكفارة، وإن كان بالذي يلحقه ويؤلمه يجوز.
ثم ما يصل إليه من الألم بإعتاقه وجهان:
أحدهما: أنه إذا تأمل ذهاب منافع ذلك المملوك عنه بما كان هو يصلح لخدمته يتألم بذلك ويتفجع.
والثاني: لما يتأمل منه النفع في العاقبة وإن لم يكن للحال ينتفع به؛ فيتألم - أيضاً - بذهاب تلك المنفعة المؤملة، فكل من كان يؤلم من هذين الوجهين جاز عتقه عن الكفارة، وإلا فلا، والله أعلم.
ثم لا يجوز إعتاق الأعمى والمقعد ومقطوع اليدين ونحو ذلك عن الكفارة، ويخرج على هذين المعنيين: أما على الأول: أنه وإن ارتفع النقص الحاصل في نفسه بسبب العبودة عند وجود الإعتاق [إلا أن العيب لا يزال] قائماً فلا يجوز لا للنقصان لكن لأنه يصير معتقاً ببدل، والإعتاق ببدل لا يجوز عن الكفارة؛ وإن كانت الرقبة بصفة الكمال. ومعنى قولنا: إنه يصير معتقاً ببدل: أنه ما دام في ملكه على تلك الحال، فإن مؤنته تلحقه، وبالإعتاق تسقط مؤنته عن نفسه، وتلحق تلك المؤنة المسلمين؛ فلم تجزئ عن الكفارة لهذا.
وأما على الثاني: فلا يلزم على الوجهين جميعاً أما على الأول: فلأنه لا يفجع ولا يتألم نفسه بإعتاق مثله؛ لما ليس له منفعة الخدمة؛ ليتألم بفوتها، وعلى الثاني: لما ليس له منفعة تؤمل في المآل؛ فيتألم بذلك - أيضاً - ولا يلزم الصغير على هذا العذر؛ لأنه ليس له منفعة الخدمة ونفقته عليه أيضاً، ومع ذلك يجوز إعاقته عن التكفير؛ لأنا نقول: إنه إنما ينفق على الصغير، لماتؤمل منفعته في العاقبة، والناس إنما يربون الصغار والصغائر، وينفقون عليهم؛ لينتفعوا بإيمانهم وإعتاقها في العواقب؛ فلم يصر عتقه عن هذا الوجه ببدل، والتألم في عتقه موجود، وحسب ما كان في الكبير أو أكثر.
والأعور، ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين يجوز عن الكفارة فإنه يمكنه الاكتساب؛ فيتألم مولاه بإعتاقه؛ لما فيه ذهاب منفعته؛ فيصلح أن يكون كفارة لما ارتكب من الشهوة، ولما قدمنا من جبر ذلك النقصان وارتفاعه بالعتق، والله أعلم.
وذكر الشافعي أنه لا يجيز عتق الرقبة الكافرة عن الكفارة، واحتج بذكر الله - تعالى - في كفارة القتل الرقبة المؤمنة، فكذلك في كفارة الظهار؛ إذ هما كفارتان.
ولكن نحن نقول: هذا أصل مذهبه خطأ؛ لأن مذهبه العموم بعم كل رقبة في دار الدنيا، والأصل في ذلك عندنا أن الله - تعالى - ذكر كفارة الظهار الرقبة المؤمنة؛ فلا يجوز أن نوجب ما ذكره في كفارة القتل هاهنا؛ والدليل عليه: أنه ذكر في تلك الآية الأشياء، وهو قوله - تعالى -:
{ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ } [النساء: 92]، فذكر الدية، ثم ذكر الدية في آية القتل - لم يوجبها على المظاهر؛ إذ ترك ذكرها في آية الظهار، ومثله في القرآن كثير.
وأيضاً: إن أحق ما يجوز في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة؛ وذلك لما أن المسلم قد يتألم بإعتاق الرقبة الكافرة، ولا يـتألم بإعتاق المسلمة؛ لما يأبى طبعه الإحسان إلى الكافر، ولا يأبى بمثله إلى المسلم، وقد وصفنا أن الكفارة للتألم بأخراج ما أمر بإخراجه عن ملكه، مع ما في القرآن دليل على جواز اصطناع المعروف إليهم، وهو قوله - تعالى -:
{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } [البقرة: 271-272]، ثم قال - أيضاً - بعد ذلك: { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [البقرة: 272].
وذكر في القصة أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد امتنعوا عن الإنفاق على أقربائهم لما أبو الإسلام؛ فنزلت هذه الآية؛ فهذا يبين ذلك [و]أن في الاصطناع إليهم وإعتاقهم يكون تكفيراً.
ثم قوله - عز وجل -: { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } فتأويله عند أبي حنيفة -رحمه الله -: أي: عتقا لا مسيس فيه؛ لأن عنده الإعتاق يحتمل التجزؤ: أنه يعتق نصفه، ثم النصف الآخر؛ فيشترط أن يعتق النصفين جميعاً قبل المسيس، حتى لو مسها فيما بين ذلك يلزمه استئناف العتق، وعلى هذا التأويل قوله: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }، أي: صوم شهرين لا مسيس فيه، حتى لو واقعها في وقت لم يتم صوم شهرين بعد يلزمه الاستئناف، وكأن معناه: لا مسيس في خلال الكفارة؛ فمتى وجد المسيس في وقت لم يتم الكفارة بعد يلزمه الاستئناف، وتأويل قوله: { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } عند أبي يوسف -رحمه الله -: أي: يعتق قبل وقت المسيس، ويصوم كذلك. ويقول بأن الآية خرجت لبيان وقت التكفير فيه: حتى إذا جامع امرأته في صوم الظهار أنه لا يستأنف الصوم، بل يصوم الباقي؛ إذ قد فات عن وقته فصار قاضياً عما عليه، وليس ب عد الجماع وقت لذلك الصوم، بل يكون ذلك على القضاء؛ فيجوز متفرقاً ومتتابعاً؛ كصوم شهر رمضان: لما تعين له وقت الأداء، ثم فات الوقت لا يجب متتابعاً؛ بل يجوز متفرقاً، كذا هذا، ولا يتصور المسألة في الإعتاق؛ لأنه لا ي تجزأ عنده.
ولا خلاف أنه إذا جامع بعدم أطعم ثلاثين مسكيناً أنه لا يلزمه استئناف الطعام، ولا خلاف أنه إذا جامع قبل الكفارة لا يلزمه شيء سوى التوبة والاستغفار في قول عامة الفقهاء.
وعند بعضهم يلزمه كفارتان.
لأبي يوسف -رحمه الله - ما ذكرنا، ولأنه قد رأى [أداء] بعضها في الوقت وبعضها في غير الوقت أولى من أداء الكل بعد الوقت؛ ولهذا المعنى في الطعام كذلك.
ولأبي حنيفة -رحمه الله - أن الظهار ليس يوجب الكفارة؛ ولكن يوجب حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة، ولا يؤمر هو بالكفارة مقصوداً، وكلن إذا أراد الاستمتاع بها يقال له: ليس لك ذلك إلا بالكفارة، فإذا كان كذلك فإذا أدى بعضها، ثم ماسها، ثم أدى البقية - لم يصر ما أدى بعد المماسة؛ فضاعف الوقت الذي قبل المماسة، فإذا لم يصر قضاء عن ذلك جعل كالنص إنما جاء في هذه الحالة: أن حرورا رقبة قبل أن تماسوا ثانياً، وصوموا شهرين متتابعين إذا أردتم العودة إليها، ولذلك قال - عليه السلام - للمظاهر الذي جامع امرأته:
"استغفر الله، ولا تعد حتى تكفر" .
لكن يدخل على هذا أمر الطعام أنه أطعم بعض الطعام، ثم ماسها لم يلزمه الاستقبال، والعبارة التي ذكرناها توجب الاستئناف، لكن يستحسن في الطعام؛ لأن الطعام وقع في الأصل متفرقاً؛ إذ لو أطعم بضعه للحال وبعضه بعد سنة فإنه جائز من ذي الجهة، لكن يدخل عليه الإعتاق عند أبي حنيفة -رحمه الله - فإنه إذا أعتق بعضه للحال وبعضه بعد سنة يجوز أيضاً، ومع ذلك إذا وجد المسيس فيما بين ذلك يلزمه الاستئناف.
وما ذهب إليه أبو يوسف -رحمه الله - من حمل الآية على بيان الوقت لا يصح؛ لأنا لو حملنا تأويل الآية على الوقت نفسه، لا فائدة تقع في الآية؛ لأن معرفة وقت ذلك ثابتة بدلالة العقل، وذلك أن قد علمنا إيجاب الحرمة بالظهار، وعلمنا أن تلك الحرمة لا ترتفع إلا بالكفارة؛ فصار وقت الحل بذكر الحرمة معلوماً؛ ولذلك هذا في جميع الحرمات من الطلاق وغيره أنه لا يرتفع إلا بسبب رفعه؛ فلو حمل تأويل الآية على بيان الوقت لم تفد شيئاً، ولو حمل على بيان إخلاء الكفارة عن المسيس، وعلى نفي المسيس في خلال الكفارة تفيد فائدة جديدة؛ فيكون ذها التأويل أحق وأولى.
ثم في الآية دلالة بأن ليس ذلك على بيان الوقت، وهو قوله - تعالى -: { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً }، ثم ذكر في العتق والصوم ترك المماسة، ولم يذكر في الإطعام، ولو كان ذلك على جعل الوقت له لكان يذكر فيه المماسة؛ إذ الكفارة إذا كانت عن شيء واحد لا يختلف فيه أوقاتها، بل يكون وقتها واحداً، ولا يقال: إما لم يذكر الوقت في الإطعام؛ لأن ذكره في العتق والصوم: ذكره في الإطعام؛ لأنه من أنواع هذه الكفارة؛ فذكر الوقت في بعض يكون ذكراً في الباقي، فإذا أدى بعضه في الوقت وبعضه في غير الوقت كان أولى من أن يؤدي الكل في غير الوقت؛ لأنا نقول: ذكره في العتق والصوم لا يصلح أن يكون بياناً في الإطعام؛ لأن البيان على وجوه ثلاثة: بيان نهاية، وبيان كفاية، وبيان تفصيل:
فأا بيان الكفاية: فهو أن يكتفى ببيان الواحد أو القليل عن الكل؛ ليعرف ذلك بالاجتهاد والقياس على نظائره؛ فيدل ذلك على معنى مودع فيه؛ وأنه محل الاجتهاد والتقليد.
وأما بيان النهاية: هو أن يبين الكل على المبالغة؛ حتى لا يبقى للاجتهاد فيه موضع.
وأما بيان التفصيل: هو الذي يبين في أكثره، ولا يبلغ به نهايته؛ فهو فيما يبين لا يتعدى إلى غيره؛ إذ لو كان فيه معنى مودع يجمع الكل لم يكن لذكر الزائد عليه وترك بعضه معنى.
وهاهنا بيان تفصيل دون كفاية؛ إذ لم يكتف بذكر في واحد، ولا هو بيان نهاية؛ إذ لم ينه البيان في الكل؛ فهو بيان التفصيل الذي ذكرنا أنه يقر في المذكور، ولا يتعدى إلى آخر، ولو كان ذكر ذلك البيان الوقت لاكتفى بذكره في الواحد عن الكل؛ إذ ذكر في الكل على المبالغة؛ فلما ذكر على بيان التفصيل دل أنه [ليس] لبيان الوقت، ولكن لنفي المسيس عن خلال الصوم والعتق المذكورين دون الطعام الذي لم يذكر فيه، وتبين أن إخلاء الصوم والعتق عن المسيس حكم عرفناه بالنص غير معقول المعنى؛ فلا يتعدى عنه إلى غيره، ويكون مثاله ما ذكر في قوله - تعالى -:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً... } الآية [النساء: 92]، على ما عرف في موضعه، والحاصل في المسألة طريقان: أحدهما: بحق القياس، والآخر: بحق الاحتياط.
أما القياس ما ذكرنا أن قوله - تعالى -: { مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } لإخلاء الصوم عن المسيس عن خلال الكفارة، لكن إما ذكر في الإعتاق والصوم دون الإطعام؛ فدلنا ذلك على أنه بيان تفصيل؛ فيكون دليلا على قصر الحكم على المنصوص، ومنع التعدية إلى غيره؛ لما هو علم أن العقول تقصر عن إدراك ذلك المعنى، فجعلنا نفي المسيس عن خلال الصوم والعتق واجباً بالنص؛ حتى لا يكون كفارة بدونه، ولم يجعل في باب الإطعام شرطاً.
وأما طريق الاحتياط، فهو أنه لما احتمل أن يكون لبيان الوقت أو لنفي المسيس عن خلال الصوم، فأخذ فيه بالاحتياط، وفي الإطعام أخذ بالقياس؛ لما أنه لم يذكر فيه المسيس، وذكره في الصوم والعتق لم يكن بيان كفاية حتى يكون ذكره ذكرا في الإطعام؛ بل هو بيان تفصيل وأن حكمه القصر على المنصوص دون التعدي، والله أعلم.
وفي الآية دلالة لصحة مذهب أبي حنيفة -رحمه الله - في أن العتق يحتمل التجزئة، وهو أن يعتق بعضه، ويبقى الباقي بحالة ثم يعتقه بأوقات بعده؛ إذ قال: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }، أي: تحرير رقبة بلا مماسة في التكفير، ولو كان بعض العتق يوجب عتق الكل لكان لا يفيد قوله: { مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }، ألا يقع العتق إلا قبل المماسة؛ فلما قال دل أنه أراد - والله أعلم - بألا تمسوهن عندما أعتقتم بعضه ولم تعتقوا الكل حتى يكمل ويتم فيه الإعتاق؛ ولهذا قال بأنه يلزمه الاستئناف في العتق كما في الصوم؛ فدل أن الإعتاق متجزئ، والله أعلم.
ثم جعل الكفارة فيه ما ذكرنا، ولم يجعل الكفارة فيه التوبة والاستغفار فقط؛ لوجهين:
أحدهما: أنه لو جعل توبته به لكان لا يظهر ذلك، وأنه أمر بينه وبين المرأة؛ فلا يدرى أنه تاب أو لم يتب، وربما يظهر التوبة بالقول وإن لم يتب حقيقة بقلبه؛ فتتهمه المرأة؛ فجعل التوبة فيه أمرا ظاهراً يعرف به توبته؛ دفعاً للتهمة عنه، وتسكيناً لقلب المرأة، والله أعلم.
والثاني: أن الله جعل الاستمتاع في النكاح نعمة عظيمة، فتشبيهها بالمحرم الذي يتأبد حرمته: أمر فظيع، فلم يجعل له الخروج منه بشيء لا يثقل عليه فيقدم ثانياً وثالثاً لخفة أمره عليه؛ بل جعل ما يتألم عليه ويشتد عليه زجرا له عن مثله في المستقبل ولغيره: كما في الزنى وغيره من الأجرام.
ثم لم يجعل ملك اليمين للاستمتاع خاصة - وإن أبيح لهم ذلك - ولا جعل لهن قبل السادات حق الاستمتاع؛ فلم يصر تشبيههن بمن ذكر كفران نعمة عظيمة، ولا إبطال حق لهن قبل ماليهن؛ لذلك افترقا، والله أعلم.
وقيل: إن الظهار كان طلاق قوم، فأبدل إلى تحريم المتعة، ولم يكن للإماء حظ من الطلاق، وهو الطلاق، ولم يكن لهن [حظ] من الذي صار وانتقل إليه. ولكن إن ثبت هذا كان طلاقاً يوجب حرمة لا ترتفع أبداً، لا طلاقاً يوجب حرمة ترتفع بالنكاح، على ما تقدم ذكره. والإماء لم يكن لهن حظ من هذا التحريم؛ لعدم تصور ملك النكاح مع ملك اليمين، فأما لهن حظ من الحرمة المؤبدة بالمحرمية: فإن كان تلك الحرمة هي الأصل، وهن أصل لها، مع قيام ملك اليمين، يكن أهلا لما ينتقل إليه من الحرمة المؤقتة؛ دل أن الطريق ما قلنا، والله أعلم.
وفي الآية دلالة جواز تأخير البيان؛ لأن ذلك الرجل لما ظاهر من امرأته اشتد بهم الحاجة إلى معرفة ما يجب فيه من الأحكام، ثم تأخير نزول بيان ما يجب عليهم؛ فطلبوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الحكم؛ فدل أن البيان يجوز أن يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع؛ بخلاف الأولى؛ لأن في الأولى قد ظهرت الحاجة واشتدت لوقوع النازلة وفي نزول العام الذي أريد به الخصوص لا وكذلك على هذا ما نزل من أحكام الإيلاء والقاذف زوجته بعد وقوع النازلة بأوقات، دليل على ما ذكرنا، والله أعلم.
ثم ج عل صيام شهرين بدلا عن العتق في كفارة الظهار والقتل وكفارة الإفطار في شهر رضمان، وجعل في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام بدلا عن العتق، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
صرح صاحب (الواضح) بأن قوله: { ذَلِكَ }، أي: ذلك أمرتم ونهيتم؛ { لِتُؤْمِنُواْ }.
ولكن عندنا تأويل قوله: { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } هو صلة قوله - تعالى -: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا... } الآية، يقول: أخبركم بما كان ذلك منكم في السر، وأطلعكم على ذلك؛ لتؤمنوا بالله ورسوله، أي: لتصدقوا وتعلموا أنه لا يخفى على الله من أعمالكم شيء.
ومنهم من قال: ذلك رادع إلى قوله: { وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } أي: ذلك الفرج والمخرج عما امتحنتم به من الحرمة وما اشتد عليكم؛ لتؤمنوا بالله ورسوله لما فرج عنكم بالخروج بما ذكر، والله أعلم.
ومنهم من قال: { ذَلِكَ }: القول المنكر الزور الذي قلتم وأعلمكم أنه منكر وزور؛ لتؤمنوا بالله ورسوله؛ فيخرج ذلك على الأمر بالشكر له ما أنعم عليهم، وجعل لهم من الفرج والمخرج عما امتحنوا بأدائها، وهكذا العبادات التي أمروا بها: أمروا؛ لإحدى ثلاث خلال:
إما بحق الشكر بما أنعم عليهم.
أو لتسليم الأمر له والخضوع.
أو لحق الاستغفار والتكفير بما سبق من التفريط والتقصير، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله - تعالى -: { لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } على غير هذا، أي: ذلك الذي أنزل، لتؤمنوا، أي: لتجددوا الإيمان بالله - تعالى - ورسوله في كل وقت وكل ساعة؛ إذ يلزم الناس إحداث الإيمان، وتجديده لإحداث الرخص والعزائم التي تجددت والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ }.
قيل: أي الذي افترضه الله عليكم من الأحكام، وقال الزجاج { حُدُودُ ٱللَّهِ }، أي: موانع الله تعالى؛ لذلك سمي الحاجب: حداداً؛ لأنه يمنع الناس منه.
وعندنا قوله: { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } أي: زواجر الله وموانعه، على معنى أنه يمنع كل شيء عن الدخول في حد الآخر يمنع الباطل عن الدخول في حد الحق والاختلاط به.
وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أضاف الفرائض، وهي الطاعات إلى نفسه بقوله: { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ }، وأنها أفعال العباد؛ دل [أن] أفعال العباد كلها مخلوقة لله - تعالى - وإنما خص هذه الأعمال بالإضافة إلى نفسه، مع أن جميع الأفعال [مضافة إليه] بخلقه إياها تبجيلا وتعظيماً لها، كما قال الله - تعالى -:
{ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } [الجن: 18] أضاف المساجد لنفسه؛ تبجيلا و تعظيماً لها. وعلى هذا يخرج تأويل من قال في قوله: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [طه: 15] من نفسي؛ فكيف أظهرها لمن دونه أراد بهذه الإضافة تبجيلا وتعظيماً لأمر الساعة؛ فكأنه يقول: إنما لم أظهر أمر الساعة لذلك الخلق الذي هو بهذه المنزلة، فكيف أظهرها لكم أي: لا أفعل ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
أي: للكافرين بالله وبحدوده عذاب أليم في الآخرة؛ لأن عذاب الكفر إنما يكون في الآخرة عذاباً دائماً لا انقضاء له، ولا قوة إلا بالله.