التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١٩
لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ
٢٠
لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
-الحشر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }.
الأصل إذا ذكرت الحال بين البعد وبين سيده، لم يكن بد من إضمار يدخل في ذلك، مثاله قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } [النحل: 128]، يعني: أنه معهم في النصر والمعونة، وقوله: { لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69]: في التوفيق والولاية. وكذلك قوله - عز وجل -: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }؛ لأنه لا يحتمل أن يتقوا الله حتى يكون معهم في التقوى؛ إذ ظاهر اللفظ يقتضي هذا؛ كقوله: { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } [التوبة: 119]، أي: في الصدق، وإذا ثبت فيه الإضمار كان الوجه في ذلك أحد معانٍ:
إما أن يقول: اتقوا حق الله - تعالى - أن تضيعوه، أو اتقوا حده أن تعدوه وتبطلوه، أو اتقوا سخطه واتقوا مخالفته، أو اتقوا الأسباب التي تستوجبون بها مقت الله تعالى.
ويحتمل أن يراد من التقوى في هذه الآية أوامره ونواهيه، على ما وصفنا أن [لفظ] التقوى إذا أطلق جاز أن يراد به الأوامر والنواهي، وإذا ذكر مقابلة أمر كان المعنى منه محارمة ونواهيه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }، قال [بعضهم]: من عمل بما أمر في هذه الآية سلم من تبعات الآخرة؛ لأنه إذا شعر قلبه أن الذي يفعله يقدمه لغد امتنع عن ارتكاب ما يجب أن يستحي منه أو يخرب عليه في ذلك الوقت، وأتى بما يستر عليه، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون معنى الآية على النظر لما قدمته نفسه للغد، وذلك أنه إذا تذكر، فنظر فيما قدمت نفسه للغد، وذلك أنه دعاه إلى أحد أمرين: إما إلى التوبة عن السيئة التي قدمها أو إلى الشكر على الحسنة التي يتعاطاها، وكل ذلك منه زيادة في الخير، فكان الواجب ألا يغفل المرء عن ذلك، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون هذا على المستأنف من الأفعال أنه ينظر فيما يريد أن يقدمه لغد، فإن كانت عاقبة الهلاك: انتهى عنه، وإن كانت عاقبته النجاة: مضى عليه وأتى به، والله أعلم.
ويحتمل قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أن يكون المراد منه: الاتقاء عن ترك النظر لما تقدمه نفسه لغد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }: ذكر قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } مرة أخرى، والآية واحدة، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد من الأول: أن اتقوا مخالفة الله في أوامره ونواهيه، وفي الثاني: اتقوةا سخطه وعقوبته.
والثاني: أنه خرج على التكرار على ما جرت العادة في الكلام في التكرير عند الوعيد على التأكيد؛ كقوله - تعالى -:
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } [المؤمنون: 36]، وكقوله: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } [القيامة: 34-35]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
فيه تحريض على المراقبة والتيقظ وقت فعله؛ لأن من علم وقت فعله أن الله - تعالى - مطلع على ما يرتكبه من الذنوب ويقربه من الشرور، امتنع عنها وازدجر، وقالوا: في قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وعيد من أربعة أوجه:
أحدها: في قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }.
والثاني: في قوله: { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }.
والثالث: في قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }.
والرابع: في قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
ثم ذكر هذا الوعيد خرج بعدما خاطب المؤمنين، كقوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ }، فكان الوعيد للمؤمنين أكثر من الوعيد في الكفرة، لكن المؤمنين يوعدهم عما هي معدة للكافرين؛ لئلا يعملوا عملا يستوجبون بذلك ما أعد للكافرين، وهو كقوله - تعالى -:
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131]، ثم إن الله - عز وجل - سمى الآخرة باسم الغد؛ لسرعة مجيئه، وسمى الدنيا باسم الأمس؛ لسرعة فنائها، وهو كقوله: { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } [يونس: 24]، فيذكرهم ويعظهم بهذه الآية؛ ليتفكر كل أحد في نفسه ما به: خلق للعبث، أم خلق لأمر عظيم؟ على ما ذكره الله، تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ }.
قال بعض المفسرين: { نَسُواْ ٱللَّهَ }، أي: نسوا العمل لله، والنسيان هو الترك، أي: تركوا العمل الواجب لله - تعالى - فأنساهم أنفسهم، أي: خذلهم الله - تعالى - بما نسوا.
ثم الوجه عندنا في الآية: أن ليس أحد من البشر يعمل عملا إلا وهو يأم بذلك نفعاً لنفسه؛ إذ من لا يعمل للنفع فهو عابث في الشاهد في ذلك العمل؛ فهؤلاء الكفرة لما لم يأتمروا بأمر الله - تعالى - ولم يطيعوا، وتركوا العمل له - صار تركهم العمل لله - والعمل له عمل لأنفسهم - فاصروا تاركين العمل لأنفسهم؛ فكأنه قال: نسوا أنفسهم؛ فاصروا منسيين.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ }، أي: خلق فعل النسيان والترك فيهم: أضاف اختيار النسيان إليهم، ثم أضاف الإنساء إلى نفسه وأثبت فعله فيه، وليس هذا على أن تقدم منهم فعل النسيان، ثم هو أنساهم بعد ذلك؛ لكن على أن خلق ذلك فيهم وقتما اختاروا ذلك الفعل، وهو كقولهم: هداه الله - تعالى - فاهتدى، واهتدى فهداه الله؛ فذلك كله في وقت واحد؛ فكذلك هذا في الخذلان والنسيان: لما اختار هو فعل النسيان خلق الله - تعالى - ذلك النسيان فيه، كما خلق الهداية والكفر باختياره، ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقدم بعض على بعض.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } كقوله: { نَسُواْ ٱللَّهَ }؛ إذ قوله - تعالى - هذا داخل في قوله: { نَسُواْ ٱللَّهَ }؛ إذ العمل لله هو العمل لأنفسهم، والعمل لأنفسهم هو العمل للذي أريد به وجه الله؛ فلذلك قلنا بأن المراد منهما ما في الآخرة.
ويحتمل وجهاً آخر، وهو أنهم لما تركوا طاعة الله فخذلهم الله - تعالى - بتركهم أمر الله تركهم أنفسهم لهم [فلم يهتدوا] ثَمَّ للخيرات والطاعات، وهذا من أشد العقوبات.
ويحتمل أن يكون معناه: أي: يجازيهم في الآخرة جزاء ما عملوا بأن تركهم في الآخرة في العذاب الدائم؛ فيكون ذلك جزاء لهم بما عملوا في الدنيا وبما تركوا من الإيمان بالله تعالى، وهذان التأويلان يرجعان إلى ما ذكر من الخذلان فيما فعلوا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }.
فالفسق هو الخروج عن أمر الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ }.
أي: الناجون، والفوز: هو الظفر بالحاجة، ثم قوله - عز وجل -: { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: ألا يستووا في الدنيا، أو لا يستووا في الآخرة، فإن كان على الأول فمعناه: لا يستوي عمل أهل الجنة في الدنيا في العقول [و]عمل أهل النار، إذ عمل أهل النار بالذي يستقبحه العقول، وأما أفعال أهل الجنة الداعية إليها بالتي يستحسنها العقول؛ لأن عمل هؤلاء بالذي ظهر بالبراهين والحجج، وليس لعمل أولئك براهين وما أقيم بالبراهين والحجج فهو في العقول أحسن من الذي لا برهان عليه، وكذلك كل عمل يستحق صاحبه عليه الثواب فهو في العقول مستحسن، وما يستحق صاحبه عليه العقاب فهو في العقول مستقبح؛ فلم يستويا.
وأما الوجه الثاني: لا يستوي جزاء أهل النار [و]جزاء أهل الجنة؛ إذ في الجنة النعيم الدائم وفي النار الشدة والنقمة الدائمة؛ فلم يستويا، يذكرهم الله - تعالى - هذا؛ لينتهوا عن غفلتهم، ويعملوا لله - تعالى - حتى يستوجبوا بها الثواب في الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ... } الآية.
اختلف الناس في تأويل هذه الآية: [قال بعضهم: هي] على التمثيل، وهي على التنبيه والتذكير، وذهبوا في ذلك إلى أن العرب إذا استقبلهم أمر، وأرادوا أن يصفوه بالعظم والشدة كانوا يضربون الأمثال بما يعظم ذلك عندهم وصفه - لم يكن يريدون به الحقيقة في ذلك، وهو كقولهم عند شدة الأمر: أظلم علي ما بين السماء والأرض، وكقولهم: ضافت علي الأرض برحبها، وكما وصف الله - تعالى - من أمر لوط - عليه السلام -:
{ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } [هود: 77]. فهذا القول من العرب إنما كان على التمثيل فيما يريدون أن يصفوا الشيء بغايته لا على الحقيقة؛ لأنه معلوم أن الدنيا عليه كما كانت لم تتغير، وكذلك لم يظلم عليه ذلك، لكنهم تكلموا على التمثيل من شدة ما نزل بهم من الأمر، وكذلك قوله - تعالى -: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ... }، يقول: لو كانت هذه الحجج أنزلت على جبل مع صلابته وشدته، لخضع لله - تعالى - وانصدع؛ من خشيته على وجه التمثيل، لكن قلوب هؤلاء أقسى منه؛ حيث لم يتخضع ولم تشخع، وهو كقوله: { كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74]؛ إذ الحجارة قد تكون فيها منافع: نحو خروج الماء وغيره، فأما قلوب هؤلاء الكفرة فليس فيها شيء من المنافع، بل هي قاسية لا تخشع ولا تتصدع، وعلى ذلك حملوا تأويل قوله - تعالى -: { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريم: 90] على التمثيل، وليس على حقيقة ذلك.
وقال قائلون: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ }: إنه حقيقة ذلك الفعل منه: وهو الانصداع والخشوع، وكذلك تأويل قوله:
{ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريم: 90]، فمعناه: لو كان نزول هذا القرآن وما فيه من الأحكام والأمانات التي أوجب على البشر على الجبل، وكان هو بحيث يملك قبول ذلك باختياره لقيام شرئطه - لكان هو يفزع ويخضع ويتصدع من خشية الله - تعالى - وكان لا يقبل؛ مخافة ألا يمكنه أداء ما لزمه بنزوله، وهو كقوله - تعالى -: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ... } الآية [الأحزاب: 72]: فيقول: معناه: لو أنزلنا هذه الأمانات التي في هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً؛ إذ الأمانات التي في هذا القرآن مما قد يلزم المرء لا يمكن أداؤها كلها؛ لأن الأمانات مما يكثر عدها، فضلا من أن يمكن أداؤها؛ فعلى هذا التأويل يخرج على حقيقة التصدع أو لو أنزل عليه - مع عظمه وصلابته - لانصدع؛ فعلى هذا تنبيه للخلق وتذكير لهم.
وقال بعضهم: إن في هذه الآية تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم منته عليه وعلى جميع الرسل: لولا فضل الله ومنته على الرسل، لكان لا يطيق أحد من الرسل حمل ما في الكتب، ولا أداء ما افترض مدَّكرٌ؛ فيسر عليهم وثقل العمل بما فيه، فيقولون كذلك.
وقوله - عز وجل -: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ }: لثقل ما فيه، لكنه [أنزله] عليك، ويسر ذكره [و]وفقك تبليغ ما فيه إلى أهله.
وقال قائلون: إن الله - تعالى - لما أراد أن ينزل التوراة على موسى - عليه السلام - وكانت في لوح من زبرجدة حمراء - أم الملائكة أن يحملوها فلم يطيقوا حملها، ثم أمرهم أن يحملوا كل حرف منها، فلم يطيقوا ذلك؛ فخفف الله - تعالى - على موسى - عليه السلام - حتى حمل ذلك، فكذلك ذكر ذلك في عيسى وداود - عليهما الصلاة والسلام - ثم خفف ذلك على الأنبياء - عليهم الصلاة ولاسلام - فكانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ } كذا، لكنه خفف ذلك عليك كما خفف على الأنبياء من قبلك، وإليه يذهب الكلبي، لكن إن صح هذا الخبر فإن ذلك الثقل لم يكن في تلك الكتابة التي في الألواح، لكن ذلك فيما يلزمهم من العمل بذلك من أداء الأمانات وغيرها؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه لو كان أنزل هذا القرآن على جبل { لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ }، وقال في موضع آخر:
{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ... } الآية [الأحزاب: 72].
ثم كانت تلك الألواح قد احتملها الأرض، وأمكن لموسى - عليه السلام - حملها؛ فكذلك هذا القرآن كله والتوراة والإنجيل والزبور مما قد يحتمل حقيقة، ويمكن كتابته في قليل الألواح، ثبت أن المراد من ذكره ليس هو الحروف، إنما كان على ما فيه من الأمر والنهي وأداء الأمانات واتقاء الله حق تقاته، لا على نفس تلك الألواح، وهذا الذي ذكرنا هو تأويل القوم في نزول هذه الآية، فأما أنا لا علم لي بحقيقة تأويل هذه الآية، ولولا أن في الآية تذكيراً وتنبيهاً لكنا نقول: هي من المتشابه المكتوم الذي لا يفسر، لكنه لما خرج مخرج التذكير واستئداء شكر ما سهل علينا قراءته - احتجنا إلى تأويله.
وقوله - عز وجل -: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
هو ظاهر.