التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٢
وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ
٣
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
-الحشر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ }.
قد سبق تأويل التسبيح وبيان وجوهه.
وقوله: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.
العزيز: هو الغالب القاهر، وقيل: هو العزيز؛ حيث جعل في كل شيء من خلقه أثر الذل والحاجة، وقوله: { ٱلْحَكِيمُ } له أحد معنيين: معنى الإحكام ومعنى الحكمة: فأما معنى الإحكام فهو أنه أحكم الأشياء على اختلافها وتضادها؛ حيث تشهد له بالوحدانية فهو حكيم؛ حيث وضع الأشياء مواضعها، وخلق الأشياء مواضع.
ثم الأصول التي يتولد منها هذه الأشياء والأفعال ثلاثة: الكيانات والطبائع والعقول:
أما الكيانات: فنحو النطفة أنها بحيث تصلح أن يكون منها البشر إذا اتصلت بها موادها، ونحو الماء فإنه بحيث يحيا به كل شيء، وبحيث يصلح به كل شيء.
والطبائع: حيث خلق في البشر، وهي ما يميلون بها إلى المحاسن والمنافع ويحترزون من المساوي والمضار.
والعقول: ليدركوا بها العواقب، ثم إنه علمهم الوجوه التي تتولد من هذه الأشياء؛ فهو حكيم حيث خلق الأصول التي وصفنا، وعلم عباده الأسباب التي بها يولدون، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } هم بنو قريظة، وقال غيره من المفسرين: هم بنو النضير وهو أقرب.
ثم المعنى في إضافة الإخراج إليه يخرج على وجهين:
أحطهما: أنه اضطرهم إلى الخروج فنسب الإخراج إليه؛ كما قال الله - عز وجل -:
{ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } الآية [التوبة: 40].
والثاني: أنه خلق الخروج من ديارهم منهم؛ فأضيف إليه بحكم الخلق، ثم الأصل في إضافة الفعل إلى الله تعالى أنه يجوز أن يضاف إليه على التحقيق وعلى التسبيب، وأما الخلق قلما يضاف الفعل إليهم على جهة التسبيب لا على التمكين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ }.
اختلفوا فيه:
قال بعضهم: أول الحشر الجلاء إلى الشارم، والحشر الثاني: حشر القيامة.
وقال بعضهم: أو الحشر حشر أهل الكتاب وجلاؤهم من جزيرة العرب، والحشر الثاني: حين أجلاهم عمر - رضي الله عنه - إلى الشام.
وقوله - عز وجل -: { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي: ما ظننتم أيها المؤمنون أن تنتصروا منهم، فضلا عن أن يخرجوا من ديارهم، ولكن ذلك من لطف الله ومنته عليكم.
وقوله - عز وجل -: { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ }.
لا يحتمل أن يتوهم أحدا هذا، والمعنى في ذلك عندنا وجهان - والله أعلم -:
أحدهما: أنهم ظنوا أن الله - تعالى - حيث آتاهم القوة والحصون لا يبلغ بهم حكمه المبلغ الذي يخرجون من ديارهم؛ لأنهم كانوا أهل كتاب وكانوا يزعمون أنهم أولى بالله من غيرهم كقوله:
{ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ } [المائدة: 18]، ويكون قوله: { مِّنَ ٱللَّهِ }، اي: بالله وبأمره؛ كقوله - تعالى -: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11]، أي: بأمر الله؛ فعلى ذلك، الأول.
والثاني: أي: ظنوا أن حصونهم وقوتهم تمنعهم من أولياء الله أن يظهروا عليهم، أو من دين الله أن يظهر فيهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ }.
يعني: أنه قذف في قلوبهم الرعب من حيث لم يحتسب المؤمن ولا الكافر؛ لأن المسلمين لم يظنوا أن يقهرهم ويغلبوهم؛ مع قلة عددهم وكثرة عدد أولئك، وكذا لم يحتسب الكفرة أنهم مع قوتهم وقوة حصونهم يقهرون ويغلبون، حتى منّ الله - تعالى - على المؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب الكفرة، ذلك لطف عظيم من الله - تعالى - إلى المؤمنين، والله أعلم.
ثم الأصل فيما خرج هذه المخرج من نحو قوله - عز وجل -:
{ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } [النحل: 26]، ومن نحو قوله تعالى: { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22]، ومن نحو قوله - عز وجل -: { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة: 210]، وما يشاكله أن نحمله على أحد معان ثلاث:
أحدها: أن نقول: المراد إتيان آثار فعل الله - تعالى - ويجوز أن يضاف إليه سبيل إضافة حقيقة العمل؛ كما يقال: الصلاة أمر الله، ونحن نعلم أنها ليست بعين أمر الله؛ لكنها أثر أمر الله - تعالى - وكذلك يقال: المطر رحمة الله - تعالى - يعني: أثر رحمته؛ فكذلك إذا نزل بهم آثار حكم الله - تعالى - وتدبيره وفعله: وهو العذاب جاز أن يضاف إليه إضافة حقيقة الفعل، والله أعلم.
والثاني: أن يقال بأن ما كان من هذه الأفعال موصولا بصلة فإنه يجوز أن يراد منه تلك الصلة، وإما نتكلم بإضافة هذا الفعل إليه مجازا؛ على ما اعتاد الناس من أفعالهم إذا أرادوها أن يأتوها بأنفسهم، وشرح ذلك وبيانه أنه قال:
{ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [النحل: 26]، فكان المقصود من هذا تلك الصلة، وهو قوله - عز وجل -: { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [النحل: 26]، وكذلك قوله - تعالى -: { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ }، وكذلك ما أشبهه من نحو قوله - عز وجل -: { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [الفجر: 22]، ومن قوله - تعالى -: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29]، أي: استوى تدبيره من حيث صل منافع الأرض بمنافع السماء، وكذلك ما أشبه، هذا، والله أعلم.
والثالث: نقول بأن هذه أسماء مشتركة المعنى، وما كان سبيله هذا السبيل جاز أن يضاف إلى الله - تعالى - على معنى ليس يقع فيه الاشتراك بالمخلوقين؛ ألا ترى أنه يقال: جاء الليل وذهب النهار، ونحو ذلك على معنى الظهور ونحوه.
وقوله - عز وجل -: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
هذا يدل على أن المالك للمسلمين في أموال أهل الحرب ليس يقع بمجرد الغلبة ما لم يكن ثم أسر؛ لأنه أخبر أن المؤمنين كانوا يخربون بيوتهم: أضاف الملك إلى الكفرة، مع أن الغلبة للمسلمين؛ فإنكم إذا اعتبرتم علمتم أن الله - تعالى - من عليكم؛ حيث أخرج الكفار من ديارهم؛ فإنه لم يكن ذلك بقوتكم.
ويحتمل أن يكون المعنى فيه: فاعتبروا يا أولي الأبصار من أهل الكفار؛ فإن ذلك يدلكم ويعرفكم أن اتفاقكم على النصرة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يغنيكم، كما لم يغن هؤلاء الذين خرجوا إلى مكة واتفقوا مع المشركين، ثم لم يغنهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا }.
يعني: لولا أن كتب اله عليهم الجلاء في اللوح المحفوظ، لعذبهم في الدنيا بالقتل.
وقوله: { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ }.
قال هذا في قوم علم أنهم يموتون على الكفر، وما روي أن أحداً منهم مات على الإسلام؛ فيكون فيه دلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبر ذلك بالوحي والتنزيل، لا من تلقاء نفسه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
يحتمل أوجهاً ثلاثة:
أحدها: أن يقول: { ذَلِكَ }، يعني: ذلك العذاب في الآخرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، ثم المشاقة والمعاداة والمحادة والمضادة بمنزلة واحدة، وذلك كله: بمعنى المعاداة.
وقوله: { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
يحتمل أن يكون علم التقديم والتأخير؛ ووجهه أن يقول: إن الله شديد العقاب لمن يشاقق الله ورسوله، أو يكن فيه إضمار كأنه يقول: إن عقوبته لمن يشاق الله ورسوله شديدة.
وقوله - عز وجل -: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
وما ذكر أن اليهود نادوا المسلمين: إنكم تزعمون أن الله لا يحب الفساد، وأنتم تفسدون بقطع النخيل لا يحتمل هذا؛ قال الله - تعالى -: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ }، فإذا كانت أنفسهم تسخو بتخريب البيوت؛ فما بالهم لا تسخو بقطع الاشجار؟! ومعلوم أنه لا يؤمل في البيوت منفعة بعد تخريبها، وقد يؤمل في النخيل منافع بعد قطعها، ولكن إن كان يصح ذلك الخبر فتأويله عندنا أنه يجوز أن يكون المسلمون خوفوهم بالقتل؛ فقالوا على أثر ذلك: إنكم إذا قتلتمونا صارت هذه النخيل لكم؛ فيكف تفسدون أملاككم؟!
ثم في إذن الله بقطع النخيل أوجه من التأويل:
أحدها: أن يكون فيه بيان أن مقاتلة المسلمين إياهم لم تكن لرغبة في أموالهم؛ بل ليستسلموا لله ولرسولله، ويخضعوا لدينه.
والوجه الثاني: أن حرمة هذه الأموال إنما هي لحرمة أربابها، وأبيح قتلهم وإتلافهم؛ فما ظنك بأموالهم؟!
والوجه الثالث: أن الله - عز وجل - كتب عليهم الجلاء، ومعلوم أن أنفسهم بالجلاء إذا خربت بيوتهم وقطعت أشجارهم أسخى منه إذا بقيت ليقطع طمع من أجلي عن المقام؛ فأذن الله - تعالى - في قطع النخيل إتماماً لما كتب علهيم من الجلاء، والله أعلم.
والرابع: أن هؤلاء كانوا أئمة اليهود، والتحريف والتبديل للتوراة إنما وقع منهم؛ رغبة في الدنيا وسعها؛ فأذن الله - تعالى - في قطع النخيل عقوب له، وحزناً من الوجه الذي وقع له التبديل منهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
إن كان المراد منه العلم فوجهه أن الله - تعالى - علم منهم ذلك، ولو كان فسادا فيه لنهاهم عن ذلك.
وإن كان المراد منه الأمر فهو أن الله - تعالى - أمر بالقطع والترك جميعاً.
وإن كان المراد منه المشيئة فهو أن الله - تعالى - قد شاء الأمرين جميعاً، والله أعلم.
واللينة: اللون من النخيل؛ كما تقول: فوت وفيته.
وقوله - عز وجل -: { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ }.
أي: ليكون كبتاً وغيظاً للفاسقين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ }.
قال: حق هذه الآية أن تكون مؤخرة، وأن يكون قوله - عز وجل -:
{ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [الحشر: 7] متقدمة؛ لوجهين:
أحدهما: أنه ذكر فيه الواو، والواو لا يبتدأ بها إلا في القسم.
والثاني: أن قوله: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } حرف كناية، والكناية لا بد لها من معرفة تعطف عليها فترجع إليها؛ فلذلك قلنا: إن حقه التأخير وحق الثانية التقديم، وعلى ذلك قراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وإذا كان كذلك فوجهه: أن الذي وجب صرف إلى الأصناف التي ذكرنا إنما هو الخمس، وأوجب - هاهنا - من كل الغنيمة، فأبان بقوله: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أنه إنما يصرف هذا الأربعة الأخماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم دونهم؛ لهذا المعنى: أنهم لم يوجفوا عليه من خيل ولا ركاب، أشار إلى أن استحقاقهم الأربعة الأخماس بسبب إيجاف الخيل والركاب، والله أعلم.
وإن كانت القراءة على ما يتلى للحال، ليس على التقديم والتأخير، فإنه يحتمل أن يكون قوله - تعالى -: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } صلة قوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ .... وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ }، وإذا كان بناؤه على ذلك، استقام أن يذكر بحرف الواو وحرف الكناية.
قال - رضي الله عنه -: إن المنافقين وأهل الضعف من المؤمنين الذي آمنوا بالتقليد يظنون في هذا الموضع أن كيف خص هذه الغنيمة قرابته والمهاجرين الذين هاجروا إليه، وكيف آثر بها نفسه؟
والجواب عن هذا: أن هؤلاء الأصناف قوم عامة المسلمين تحمل مؤنتهم لولا هذه الغنيمة، ومعلوم أن أنفس المسلمين يبذل ما عليهم من تلك الأمانة أسخى منه لو صرف إلى كل واحد منهم على الإشارة إليه من ملكه الخاص، وعلى هذه العبارة تجري مسائل لنا:
أحدها: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعل العقل على أهل الديوان؛ لأن ذلك يخرج مخرج المعونة، ومعلوم أن المعونة على عامتهم؛ فبذل ما رجع من هذا الحق إلى تلك العامة أسهل عليهم لو صرف إلى خاصتهم، وكذلك قوله:
{ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } [الممتحنة: 11] ومعلوم أن منع تلك الزوجة عن أن تذهب إلى دار الحرب بشيء مال زوجها كان واجباً على العامة، وكذلك المسلمون إذا أصابوا غنيمة وفيها مال مسلم قد غلب عليه المشركون: أنه ما دام الملك للعامة ولم يقسم يرد عليه من غير بدل، وإذا قسموا، واختص كل واحد بملكه لم يأخذه إلا ببدل؛ فكذلك الأول، والله أعلم.
قال الفقيه -رحمه الله -: والذي يجب أن من جهة العرف والشريعة: أن يكون تحمل مؤنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته: أما من جهة العرف فهو أن من عمل لغيره كان مؤنته على ذلك القول له، وكذلك من جهة الشريعة، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم بأمور أمته في أمور دنياهم وآخرتهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان أولى ما يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو مال العامة، وذلك هو الفيء، هذا لو اختصه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه؛ فكيف وقد قسمه بين الفقراء وأهل الحاجة، ولم يأخذه لنفسه؟!
ووجه آخر في هذا: ما وري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي" ، وقال: "نصرت بالرعب مسيرة شهرين" ، فلو اختص ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، فجاز له بما قال، ولكن الله جعل الفيء له بين من كان تحمل مؤمنتهم على المسلمين لولا هذا الفيء؛ كي يكون منة له على أمته ولئلا يكون لأحد من أمته عنده - عليه الصلاة والسلام - يد ولا صنيعة، والله أعلم.
ووجه آخر: أنه لما لم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسب شيء من الدنيا وفضولها؛ حتى يصطنع من فضولها بالمعروف، فجعل الله له الفيء ليكتسب به الفضائل والمعروف، والله أعلم.
وفي قوله:
"نصرت بالرعب مسيرة شهرين" : دلالة أن ما أفاء الله على رسوله وأعطاه فهو له خاصة، يصنع به ما شاء، ويفرقه فيمن شاء، والقول عند أصحابنا في الإمام إذا أعطاه أهل الحرب فيئاً يشترك فيه قومه؛ لأن هبة الأئمة إنما هي لقومهم، وكان هبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصر بالرعب؛ فجا أن يختص بها قومه والله أعلم.