التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٦١
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦٢
لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٦٣
قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
١٦٤
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
قال أبو الكيساني: قوله { هَدَانِي }، أي: دلني ربي إلى صراط مستقيم، لكن هذا بعيد؛ لأنه خرج مخرج ذكر ما منَّ عليه بلطفه، وليس في الدلالة والبيان ذلك؛ إنما عليه البيان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على الهدى ويبين لهم طريقه.
ثم أخبر أنه لا يهدي من أحب بقوله:
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56] دل أن ذلك إكرام من الله - تعالى - بالهداية بالتوفيق له والعصمة بلطفه، لا الدلالة والبيان.
وكذلك قوله - تعالى -:
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } الآية [الحجرات: 17]؛ فلو كان على الدلالة والبيان لكان منه ذلك، ثم [أخبر] إن المنة عليهم لله - تعالى - لا لرسوله؛ دل أنه لما ذكرنا من الهداية نفسها لا الدلالة.
وقوله - عز وجل -: { دِيناً قِيَماً }.
قيل: قائماً مستقيماً لا عوج فيه؛ كقوله:
{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } [الكهف: 1-2].
والعوج: هو الذي فيه الآفة، فأخبر أن لا آفة فيه ولا عوج.
وقوله - عز وجل -: { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ }.
إن أهل الأديان جميعاً يدّعون أن الذي هم عليه هو دين إبراهيم، فأخبر أن دين إبراهيم هو الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هم.
وقوله - عز وجل -: { حَنِيفاً }.
قيل: مسلما، والحنف: هو الميل، وهو حنيف، أي: مائل إلى دين الله، أخبر أنه يدعو إلى دين الله - تعالى - إلى الدين الذي كان عليه آباؤه وأجداده، أعني به: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
{ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.
برأه - عز وجل - من الشرك.
وقيل: كان حنيفاً خالصاً لله مخلصًا لم يشرك أحدا في ربوبيته ولا في عبادته، على ما فعل أولئك الكفرة.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - وحفصة: (ديناً قيما فطرتكم التي فطرتم عليها ملة إبراهيم حنيفاً).
ويقرأ: { قيِّماً }، بالتشديد، و { قِيَماً } بالتخفيف. أو يخرج قوله: { إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } على الشكر له والحمد على ما أنعم عليه وأفضل له، من الإكرام له بالهداية بالطريق المستقيم.
[والمستقيم] يحتمل: القائم بالحق والبرهان وكذلك قوله: { دِيناً قِيَماً } بالحجج والبراهين، ودين أولئك دين بهوى أنفسهم؛ ولذلك قال: { حَنِيفاً }.
وقوله: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً }.
خاطب الله بهذه الآيات رسوله صلى الله عليه وسلم والمرادُ به: الخلقُ كله، فمن بلي بمثل ما كان بلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من السؤال والدعاء، فله أن يقرأ أو يذكر ما في هذه الآيات.
ولو كان المراد [بالخطاب] بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لكان لا يقول له: { قُلْ }، ولكن يقول له: افعل كذا، ولا تفعل كذا؛ وعلى ذلك الخطاب في الشاهد في خطاب بعض بعضا ألا يقولوا: { قُلْ }؛ فدل أنه على ما ذكرنا، وكذلك قوله:
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الأخلاص: 1]: من استوصف صفات الله، فعليه أن يصف له ما في سورة الإخلاص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلائق سواءٌ في ذلك الخطاب.
ثم في قوله: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ... } الآية ذكر منَّته بما هداه، والاستسلام إلى شكر ما أنعم عليه. وفي قوله: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } الأمر بإخلاص العبادة لله - عز وجل - وإسلام النفس له في جميع أحواله محياه ومماته.
وفي قوله: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً }.
فيه الدعاء إلى وحدانية الله وربوبيته.
ثم في قوله: { إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ } دلالة رد قول من يستثني في إيمانه؛ لأنه أمره أن يقول: { إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }، من غير أن يأمره بالثنيا؛ فمن استثنى فيه لا يخلو استثناؤه من أحد معنيين:
إما أن يكون لشك فيه.
أو لكتمان ما أنعم الله عليه؛ فعلى كل من أنعم الله عليه أن يظهر ذلك، وأن يشكر له على ذلك؛ على ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقوله: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
يخرج على وجهين:
أحدهما: يخرج على الأمر بالدعاء لنفسه؛ لأنه قال: قل: أجعل صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.
والثاني: على المنابذة مع أولئك الكفرة والفجرة، يقول: أنا أجعل صلاتي وعبادتي ومحياي ومماتي لله، لا أجعل لغيره شركاء، كما جعلتم أنتم لغيره شركاء في عبادته وصلاته ونسكه، والله أعلم.
ثم اختلف في قوله: { صَلاَتِي }:
قال بعضهم: الصلاة المفروضة.
وقال بعضهم: الصلاة: الخضوع والثناء؛ يقول: إن خضوعي وثنائي لله، والصلاة: هي الثناء في اللغة.
وقوله: { وَنُسُكِي } اختلف فيه.
قال الحسن: نسكي: ديني؛ كقوله:
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } [الحج: 34]، أي: دينا.
وقيل: نسكي ذبيحتي لله في الحج والعمرة وغيره.
وقيل: نسكي: عبادتي، والنسك: اسم كل عبادة؛ وعلى ذلك يسمى كل عابد ناسكا.
وقوله - عز وجل -: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
أي: أنا حي وميت لله، لا أشرك أحداً في عبادتي ونفسي، بل كله لله لا شريك [له] في ذلك.
ويحتمل: أن يكون هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: قل إني أمرت أن أجعل صلاتي ونسكي لله، أو إني أمرت أن أدعو وأسأل الله أن يجعل صلاتي ونسكي وعبادتي له، لا أشرك غيره فيه.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
[يحتمل قوله: { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ }]، أي: وأنا أول من خضع وأسلم بالذي أمرت أن أبلغ؛ لأنه أمر بتبليغ ما أنزل إليه، فيقول: أنا أول من أسلم بالذي أمرت بالتبليغ.
ويحتمل: أن يكون لا على توقيت الإسلام؛ ولكن على سرعة الإجابة والطاعة [له]؛ كقوله:
{ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف: 48]: هو على الوصف بغاية العظم، ليس على أن بعضها أكبر وأعظم وبعضها أصغر؛ ولكن كلها أعظم وأكبر؛ فعلى ذلك هذا ليس على وقت الإسلام، ولكن لسرعة الإجابة، والطاعة له، والله أعلم.
الإسلام: هو جعل النفس وكلية الأشياء لله سالمة، أي: أنا أول من جعل نفسه لله سالمة.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ }.
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: أغير الله أبغي ربا وقد تعلمون أن لا رب سواه؟!
ويحتمل: أغير الله أبغي ربا سواه، وفي كل أحد أثر ربوبيته وألوهيته قائم ظاهر، وفيما تدعونني إليه أجد آثار العبودية والربوبية لله فيه، فكيف أتخذ ربا سواه؟!.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا }.
يحتمل وجهين:
[الأول] يحتمل: لا تكسب كل نفس من [سوء] إلا عليها، أي: لا يتحمل ذلك غيره عنه في الآخرة؛ وكذلك قوله:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [فاطر: 18]، وكقوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54].
[الثاني] ويحتمل: أن يكون قوله: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا }، أي: لا تكسب كل نفس - لو تركت وما تختار - إلا عليها، لكن الله بفضله يمنع بعضها وما تختار على نفسها؛ كقول يوسف - عليه السلام -:
{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } [يوسف: 53]: أخبر أنها كاسبة السوء إلا ما عصمها ربي.
وجائز أن يكون على الإضمار؛ كأنه يقول: ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولها، ومثله جائز في القرآن؛ كقوله - تعالى -
{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1]، وهو نذير لقوم، بشير لقوم آخرين: نذير في حال، وبشير في حال.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }.
هو على الوعيد وروي عن النبي أنه كان إذا كبر للصلاة، أتبع التكبير بهذه الآية: { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي... } إلى آخره.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبّر، ثم قال: { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79] { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي.. } إلى قوله تعالى { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
وذكر أنه كان يدعو بعد ذلك دعاء طويلا.
وروي عن عائشة، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذاء منكبيه، ثم يقول:
"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" .
فكان أبو حنيفة -رحمه الله - يختار من ذلك هذا في الفرائض.
وكذا روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قام إلى الصلاة، فكبر، ثم قال:
"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" .
[وكذلك روي عن أبي سعيد أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك]" .
وكان أبو يوسف يستحب أن يقول بهذه الكلمات والكلمات التي رواها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من غير إيجاب لذلك ولا حظر لما سواه.
وكان أبو حنيفة -رحمه الله - لا يستحب أن يزيد في الفرائض على ما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روت عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي عن عمر وعبد الله - رضي الله عنهما -.
وأما في النوافل فله أن يزيد ما شاء فيها من الثناء والدعوات؛ فيحتمل أن يكون ما رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك في النوافل.