التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٥
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
٢٦
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله عز وجل: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } كانوا يستمعون إليه ليجادلوه، على ما ذكر، { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ } دل هذا أنهم كانوا يستمعون إليه للمجادلة معه والخصومة.
وقيل في بعض الحكايات: إن الناس كانوا ثلاث فرق في أخبار الرسل والأنبياء - عليهم السلام -: منهم من يستمع للجمع والاستكثار.
ومنهم من يستمع ليأخذ عليهم سقطاتهم وما يجري على لسانهم من الخطأ.
ومنهم من يستمع ليأخذ الحق منه ويترك الباقي، ولكن هؤلاء كانوا يستمعون إليه ليخاصموه في ذلك وليجادلوه؛ ليعرف قومهم أنهم يستمعون إليه، ويعرفون ما يقول ليصدوا بذلك أتباعهم.
والثاني: أنهم يستمعون ويحاجون في ذلك ليعرفوا أنهم أهل حجاج وعلم ليصدوهم عنه.
ثم يحتمل أن يكونوا أهل نفاق؛ لأنهم كانوا يرون ويظهرون الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضمرون الخلاف له.
ويحتمل أن يكونوا أهل الشرك، أي: رؤساؤهم؛ ليستمعوا إليه، ويجادلوه فيما يستمعون إليه.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً }.
أخبر أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقراً.
وقال:
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة: 18].
نفى عنهم ذلك لما لم ينتفعوا بذلك كله، وإن لم يكونوا - في الحقيقة - صما، ولا بكماً، ولا ما ذكر، لما لم ينتفعوا بما أنشأ فيهم من السمع والبصر والعقل، فنفى عنهم ذلك.
ثم قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }.
لا يخلو إضافة ذلك إلى نفسه من أن يكون خلق منهم فعل الكفر، أو خلق الظلمة التي في قلوبهم، يعني ظلمة الكفر؛ لأن ظلمة الكفر تستر وتغطي كل شيء، ونور الإيمان ينير منه كل شيء، فإضافة الفعل إليه لا تخلو من أحد هذين الوجهين، إما لخلق فعل الكفر منهم، ففيه دلالة خلق أفعالهم، وإما لخلق ظلمة الكفر في قلوبهم. وفيه ردّ قول المعتزلة لإنكارهم خلق فعل العباد.
وقوله - عز وجل -: { وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً }.
قيل: الوقر: هو الثقل في السمع، يقال: وقرت أذنه، توقر وقرا، فهي موقورة، وأما الوقر فهو [الكفر في قلوبهم].
وقال أبو عوسجة: الوقر: الصدع في العظم أيضاً.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا }.
يحتمل كل آية: آية وحدانيته، وربوبيته، وقدرته على البعث، وآية رسالته ونبوته.
ويحتمل: كل آية سألوا أن يأتي بها؛ يقول: وإن أوتيت بكل آية سألوك لا يؤمنون بك بعد ذلك أبداً، كقولهم:
{ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [الفرقان: 21]، ونحو ذلك مما سألوا من الآيات؛ يقول: إنك وإن جئت بما سألوك من الآيات لا يؤمنون بك، ولا يصدقونك، يقولون: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [أي ما هذا إلا أساطير الأولين]
قيل: أحاديث الأوّلين، والأسطورة: الكتاب، يقولون ذلك تعنتاً منهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أنه حق، وأنه ليس بكلام البشر؛ لأنهم عجزوا عن إتيان مثله، ولو كان هو مفترى على ما قالوا لقدروا هم على أن يأتوا بشيء مثله، حيث قيل لهم:
{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] فعلموا بعجزهم عن إتيان مثله أنه ليس من كلام البشر، وأنه سماوي.
وقوله - عز وجل -: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ينهون الناس عن طريقته ومتابعته وينأون عنه] أي: يتباعدون عنه [و] ينهون غيرهم عن اتباعه ويتباعدون هم.
ويحتمل ما ذكر في القصّة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش عنده ليريدوا بالنبي سوءاً قال أبو طالب وأنشد فيه:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقرّ بذاك منك عيونا
فدعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سُبَّة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

كان ينهى الناس عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ويتباعد هو عنه فلا يتبع دينه، فنزل هذا.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [أي لا يشعرون] أنهم بذلك يسعون في هلاك أنفسهم.