التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٥
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }
يحتمل: ما تأتيهم من آية من آيات توحيده، أو من آيات إثبات رسالة محمد ونبوته صلى الله عليه وسلم، ويحتمل في إثبات البعث والنشور بعد الموت؛ لما أخبر أنه خلقهم من طين، فإذا ماتوا صاروا تراباً، فإذا كان بدء إنشائهم من طين، فإذا عادوا إليه يقدر على إنشائهم ثانياً؛ إذ ليس إنشاء الثاني بأعسر من الأول. ثم يحتمل الآيات آيات القرآن.
ويحتمل: الآيات ما كان أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات سوى آيات القرآن.
ثم أخبر عن تعنتهم ومكابرتهم بقوله: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }، فإذا أعرضوا عنها لم ينتفعوا بها؛ ليعلم أنه إنما ينتفع بالآيات من تأملها ونظر فيها لا من أعرض عنها.
ثم سورة الأنعام إنما نزلت في محاجة أهل الشرك، ولو لم يكن القرآن معجزاً كانت سورة الأنعام معجزة؛ لأنها نزلت في محاجة أهل الشرك في إثبات التوحيد والألوهية لله والبعث، فكيف يكون وقد جعل الله القرآن آية معجزة عَجَزَ البشرُ عن إتيان مثله، ولم يكونوا يومئذ يعرفون التوحيد والبعث، كانوا كلهم كفاراً عبدة الأوثان والأصنام لا يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّف ذلك وأنشأه من ذات نفسه؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله.
وفيه دلالة إثبات المحاجة في التوحيد والمناظرة فيه؛ لأن أكثرها نزلت في محاجة أهل الشرك، وهم كانوا أهل شرك، وينكرون البعث والرسالة، فتنزل أكثرها في محاجتهم في التوحيد وإثبات البعث والرسالة.
وفيه أنه إذا ثبت فساد قول أحد الخصمين، ثبت صحة قول الآخر؛ لأن إبراهيم لما قال:
{ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام: 76] أثبت فساد عبادة من يعبد الآفل بالأفول.
وقوله - عز وجل -: { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } يحتمل الحق: الآيات التي كان يأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات التوحيد وآيات البعث.
ويحتمل القرآن، ولو لم يكن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية كانت نفسه آية عظيمة من أول نشأته إلى آخر عمره؛ لأنه عصم حتى لم يأت منه ما يستسمج ويستقبح قط؛ فدل أن ذلك إنما كان لما جعل آية في نفسه، وموضعاً لرسالته، وعلى ذلك تخرج إجابة أبي بكر - رضي الله عنه - في أول دعوة دعاه إلى ذلك لما كان رأى منه من آيات، فلما دعاه أجابه في ذلك مع ما كان معه [من] آيات عظيمة، وأعلام عجيبة.
وقوله - عز وجل -: { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } معناه - والله أعلم - [أن] يأتيهم وينزل بهم ما نزل بالمستهزئين، [وإلا كان أتاهم أنباء ما نزل بالمستهزئين]، ولكن معناه ما ذكرنا، أي: ينزل بهم ويحل ما نزل وحل بالمستهزئين.
ويحتمل قوله وجهاً آخر: { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وهو العذاب؛ لأن الرسل كانوا يوعدونهم أن ينزل بهم العذاب بتكذيبهم الرسل، فعند ذلك يستهزئون بهم؛ كقوله:
{ عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ص: 16] وكقوله: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } [العنكبوت: 53] وغير ذلك؛ إذ قالوا: { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] فأخبر أنه ينزل بهم ذلك كما نزل بأولئك.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } قال الحسن: ألم يروا: ألم يعتبروا { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ }.
وقال أبو بكر الكيساني: { أَلَمْ يَرَوْاْ } قد رأوا { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } [قال]: وهو واحد، قد رأوا آثار الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل، وتعنتهم ومكابرتهم، لكنهم لم يعتبروا بذلك.
وقوله - عز وجل -: { مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } قال بعضهم: أعطيناهم من الخير والسعة والأموال ما لم نمكن لكم يا أهل مكة أي: لم نعطكم، ثم إذا كذبوا الرسل أهلكهم الله - تعالى - وعاقبهم بأنواع العقوبة.
ويحتمل: مكناهم في الأرض من القوة والشدة؛ كقوله:
{ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت: 15] ثم مع شدة قوتهم أهلكوا إذ كذبوا الرسل.
ويحتمل وجها آخر: { مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: في قلوب الخلق، من نفاذ القول، وخضوع الناس لهم؛ لأنهم كانوا ملوكاً وسلاطين الأرض، من نحو نمرود، وفرعون، وعاد، مع ما كانوا كذلك أهلكوا إذ كذبوا الرسل، وأنتم يا هؤلاء ليس لكم شيء من ذلك، أفلا تهلكون إذا كذبتم الرسل؟! وإنما حملهم على تكذيب الرسل - والله أعلم - لما كانوا ذوي سعة وقوة، فلم يروا الخضوع لمن دونهم في ذلك [لما رأوا الأمر بالخضوع لمن دونهم في ذلك] جوراً غير حكمة، وإنما أخذوا ذلك من إبليس اللعين؛ حيث قال عند أمره بالسجود لآدم، فقال:
{ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12] فعلى ذلك هؤلاء الكفرة رأوا الأمر بالخضوع لمحمد صلى الله عليه وسلم جَوْراً منه، حتى قالوا: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
وقوله - عز وجل -: { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } قال القتبي: مدرارا بالمطر: أي غزيرا، ومن درّ ويدرّ.
وقال أبو عوسجة: أي: درت عليهم السماء بالمطر، أي: كثر ودام وتتابع واحدا بعد واحد في وقت الحاجة { وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } [أخبر عن سعة] أولئك، وما أنعم عليهم من كثرة الأمطار والأنهار ما لم يكن ذلك لهؤلاء، ثم مع ما كان أعطاهم ذلك أهلكهم إذ كذبوا الرسل.
فإن قيل: [كيف] ذكر إهلاك هؤلاء، وخوف أولئك ذلك بتكذيبهم الرسل، وقد أهلك الرسل والأولياء من قبل؟
قيل: لأن إهلاك أولئك إهلاك عقوبة وتعذيب؛ لأنه كان أهلكهم هلاك استئصال واستيعاب؛ خارجاً عن الطبع، وأهلك أولئك الرسل والأولياء لا إهلاك عقوبة خارجاً عن الطبع؛ لذلك كان ما ذكر.