التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
٦٨
وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٦٩
وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٧٠
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }.
يشبه أن يكون قوله: { يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [أن يكون] أي: يكفرون بها ويستهزئون بها؛ كما قال في سورة النساء:
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } [النساء: 140] فيكون خوضهم في الآيات الكفر بها والاستهزاء بها، ويكون قوله - تعالى -: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }، أي: لا تقعد معهم؛ كما قال: { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } [النساء: 140].
وقوله - عز وجل -: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }.
يحتمل: النهي عن القعود معهم على ما ذكرنا من قوله:
{ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } [النساء: 140].
ويحتمل الإعراض: الصفح عنهم وترك المجازاة لمساويهم؛ كقوله - تعالى -:
{ فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ } [الزخرف: 89]؛ [و] كقوله تعالى: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [النساء: 63] وفيه الأمر بالتبليغ فينهى عن القعود معهم والأمر بالتبليغ.
وقوله - عز وجل -: { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ } معناه - والله أعلم -: أن الشيطان إذا أنساك القعود معهم فلا تقعد بعد ذكر الذكرى، ومعنى النهي بعد ما أنساه الشيطان، أي: لا تكن بالمحل الذي يجد الشيطان إليك سبيلا في ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ }.
قيل فيه رخصه الجلوس معهم؛ وهو كقوله:
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنعام: 52] ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى -: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [النساء: 140] وكان النهي عن مجالستهم ليس للجلوس نفسه، ولكن ما ذكرنا من خوضهم في آيات الله بالاستهزاء بها [والكفر بها] هو الذي كان يحملهم على ذلك، ليس ألا يجوز أن تجالسهم، وكذلك ما نهانا أن نسبهم ليس ألا يجوز لنا أن نسبهم، ولكن لما كان سبنا إياهم هو الذي يحملهم على سب الله.
{ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }.
يحتمل النهي عن القعود معهم وجهين.
[أحدهما]: نهى هؤلاء عن القعود معهم لما كان أهل النفاق يجالسونهم، ويستهزئون بالآيات ويكفرون بها، فنهى هؤلاء عن ذلك؛ ليرتدع أهل النفاق عن مجالستهم.
والثاني: أنه نهى المؤمنين عن مجالستهم؛ ليمتنعوا عن صنيعهم حياء منهم؛ لأنهم لو امتنعوا عن مجالستهم فيمنعهم ذلك عن الاستهزاء بها والكفر بها، لما كانوا يرغبون في مجالسة المؤمنين، فيتذكرون عند قيامهم عنهم، فيتقون الخوض والاستهزاء، ولا يخافون أن يعرفوا في الناس بترك مجالستهم المؤمنين، فيحملهم ذلك على الكف عن الاستهزاء بالآيات وبرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } أي: وذر الذين اتخذوا لعبا ولهوا دينا؛ على التقديم والتأخير.
والثاني: اتخذوا اللعب واللهو دينهم؛ حتى لا يفارقوا اللعب واللهو؛ لأن الدين إنما يتخذ للأبد، فعلى ذلك اتخذ أولئك اللعب واللهو للأبد كالدين.
ثم هو يخرج على وجوه:
أحدها: اتخذوا دينهم عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم، ومن عبد من هذا وصفه، واتخذ ذلك دينا - فهو عابث لاعب.
والثاني: اتخذوا دينهم ما هوته أنفسهم، ودعتهم الشياطين إليه، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه، وما دعته نفسه إليه - فهو عابث لاعب.
والثالث: صار دينهم لعباً وعبثاً؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ومن لم يقصد بدينه الذي دان به عاقبة فهو عابث مبطل؛ كقوله - تعالى -:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً... } الآية [المؤمنون: 115] صير عدم الرجوع إليه عبثاً.
وقوله: { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا }.
أي: شغلهم ما اختاروا من الحياة الدنيا والميل إليها عن النظر في الآيات والبراهين والحجج.
أو أن يكون قوله: { وَغَرَّتْهُمُ }، أي: اغتروا بالحياة الدنيا؛ أضاف التغرير إلى الحياة الدنيا [لما بها] اغتروا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ }.
قيل: وذكر به قبل أن تبسل نفس بما كسبت، وإنما يذكرهم بهذا لئلا يقولوا غداً:
{ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172].
وأصل الإبسال: الإهلاك، أو الإسلام للجناية والهلاك.
ثم اختلف في قوله: { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ }: عن ابن عباس قال: أن تفضح نفس بما كسبت.
وقيل: تبسل: تؤخذ وتحبس؛ وهو قول قتادة؛ وكذلك قال في قوله: { أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ }، أي: حبسوا بما كسبوا.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: { أُبْسِلُواْ } أي: فضحوا؛ على ما قال في { تُبْسَلَ }.
وعن الحسن: { تُبْسَلَ }، [أي]: تسلم وعن مجاهد كذلك.
قال أبو عوسجة: { تُبْسَلَ نَفْسٌ }: أي: تسلم، وذلك أن الرجل يجني جناية، فيسلم إلى أهل الجناية.
وقال القتبي: { تُبْسَلَ } أي تسلم للهلكة.
وعن الكيساني: { تُبْسَلَ }: تجزي نفس بما كسبت.
وقال الفراء: { تُبْسَلَ }: ترهن.
وأصل الإبسال: هو الإسلام، [وتفسيره] ما ذكر على أثره، وهو قوله: { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ }؛ كما يكون بعضهم شفيعاً لبعض في الدنيا، وأعواناً لهم وأنصاراً في دفع المضار والمظالم عنهم وجر المنافع إليهم، وأما في الآخرة: فإن كل نفس تسلم بما كسبت، لا شفيع لها ولا ولي؛ كقوله:
{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ... } [عبس: 34].
وكقوله:
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } [البقرة: 167]، وغير ذلك من الآيات تسلم كل نفس إلى كسبها لا شفيع لها ولا ولي.
وقوله: { وَذَكِّرْ بِهِ }، يحتمل بالقرآن والآيات ويحتمل { بِهِ }، أي: بالله، أي: عظ به أن تهلك نفس بما كسبت.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ }.
اختلف فيه: قال بعضهم: العدل: الفداء؛ يقول: وإن فدت [نفس] كل الفداء لتتخلص مما حل بها، لم يؤخذ منها ولم يقبل منها ذلك.
وقال الحسن: العدل: كل عمل البر والخير، أي: وإن عملت كل عمل البر والخير من الفداء والتوبة، لم يقبل منها ذلك؛ يخبر أن الدار الآخرة ليست بدار العمل، ولا يقبل فيها الرشا كما تقبل في الدنيا، وأخبر ألا يكون شفعاء يشفعون لهم، ولا أولياء ينصرونهم، ليس كالدنيا؛ لأن من أصابه في هذه الدنيا شيء، أو حل به عذاب أو غرامة - فإنما يدفع بإحدى هذه الخلال الثلاثة، إما بشفعاء يشفعونه، أو بأولياء ينصرونه، أو بالرشا، فأخبر أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا، فتدفع ما حل بهم، أو أولياء ينصرونهم في دفع ذلك عنهم، أو شفعاء يشفعونهم.
فإن قيل: ما معنى ذكر العدل والفداء، وليس عنده ما يفدي [ولا يبذل وما يمكَّن] من العمل؟
قيل: معناه - والله أعلم - أي: لو مكن لهم من الفداء ما يفدون في دفع ذلك عن أنفسهم، ومكن لهم من العمل ما لو عملوا، لم يقبل ذلك منهم.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ }.
قد ذكرنا الاختلاف في الإبسال، وأصله: الإسلام يسلمون لما اكتسبوا لا يكون لهم شفعاء ولا أولياء، ولا يقبل منهم الرشا.
وقوله - عز وجل -: { لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ }.
قيل: الحميم: هو ماء حار قد انتهى حره يغلي ما في البطن إذا وصل إليه، فيشبه أن يكون لهم من الشراب ما ذكر؛ لما تناولوا في الدنيا من الشراب المحرم، فكان لهم في الآخرة الحميم مكان ذلك، والعذاب الأليم؛ لما أعطوا أنفسهم في الدنيا من الشهوات واللذات جزاء ذلك.