التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
-الممتحنة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ }.
هذه الآية وما أشبهها من قوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [التحريم: 6]، وفي كل ما ذكر { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد في نفسه، وأنه ليس كما قالت الحشوية وأصحاب الحديث: إن الطاعات كلها إيمان، ووجه ذلك أن كلا في نفسه قد فهم من هذا الآية أنه محتمل لهذا الخطاب وأنه له؛ فثبت أنه ذو حد في نفسه وهو التصديق بالقلب، وغيره من الطاعات شرائعه، والله أعلم.
وفيما ذرك من قوله:
{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21] وما أشبهها من الآي دلالة على أن الإنسان ما يشاهد، وليس كما قال النظام: إن الإنسان إنما هو جسم آخر سوى هذال الإنسان، ولا كما قال الناشئ: إن الإنسان إنما هو جوهر بسيط في هذا الإنسان.
ووجه ذلك: أنه ليس كل أحد يعلم كونه جوهراً بسيطاً أو جسماً آخر فيه لطيفاً، وقد فهم الكل من هذه الآيات أنه محتمل للخطاب بها؛ فثبت بما وصفنا أن الإنسان هو ما نشاهده والله [أعلم].
وفيه دلالة أن ما يفهم من هذه الآيات من عموم أو خصوص ليس يفهم بظاهر الخطاب؛ ولكن بما توجبه الحكمة، فإن أوجبت عمومها أجورها على عمومها، وإن أوجبت تخصيصها أجروءا على ذلك، والذي يدل على ما وصفنا أنه قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ }، وهذا مخرجه في الظاهر على العموم، ولكنه لما قال: { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ }، ومعلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاصة لا كل المؤمنين، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص؛ لما بين في سياق هذه الآية، ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية؛ لأنه لو قال لواحد: { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } كان هذا الخطاب لازماً للكل بما توجبه الحكمة، أنه إذا علم من أحد عداوته ألا يتخذه ولياً وكذلك قوله: { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ }.
خرج مخرج العمو في الظاهر، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة، فهذا يبين أن ما أجرى مجرى العموم لم يجر لظاهر اللفظ، ولكن لما يوجب الحكمة والدليل. وكذلك قوله - تعالى -:
{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ... } الآية [الجمعة: 9]: ليس أن السعي إنما فرض يوم الجمعة لتخصيصه بالذكر؛ ولكن لما أن النداء في يوم الجمعة إلى ذكرين، وفي غيره من الأيام إلى ذكر واحد؛ ولأجل أن النداء المضيق في يوم الجمعة هو النداء الأول، وفي غيره من الأيام هو النداء الثاني، فإذا جاز أن يكون فرض السعي في وم الجمعة إنما هو لهذين المعنيين - ثبت أن التخصيص ليس لظاهر اللفظ، والله أعلم.
وفي هذه الآية دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم وذلك أن قوله: { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } أن ذلك الرجل لم يطلع على سره أحداً، وقد أطلع الله - تعالى - نبيه؛ حيث أخبرهم بالكتاب؛ فثبت أنه علمه بالوحي، والله أعلم.
ثم اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟
فقال الحسن: إنها نزلت في أهل النفاق.
وقال غيره من عامة المفسرين: إنها نزلت في حاطب بن [أبي] بلتعة، وهذا أشبه التآويل بالصواب، وأقرب إلى الحق؛ وذلك أن الله - تعالى - [قال]: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ }: فقد أخبر أن الكفرة عدو لهم، ولو كانت الآية في أهل النفاق لم يكن الكفرة عدوّاً لهم؛ بل كانوا أولياء، فثبت أن المراد منه: المؤمنون، والله أعلم.
وفي هذه الآية دلالة أن ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل لم يخرجه من الولاية؛ لأنه قال: { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ }، ولو كان ذلك الذنب بكفره ويخرجه عن الإيمان لم يكن ذلك الكافر عدوّاً له؛ بل يكون وليّاً له بقوله:
{ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [الجاثية: 19]، ولأجل أنه قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }: سماه: مؤمناً، والدليل على أن ذلك الذنب كان كبيرة أنه أخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهزهم للقتال، وفيما أخبر: أمر بأن يستعدوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وحربه، ولا يشكل أن من أمر بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مرتكب كبيكرة، وإذا كان كذلك، وقد أحله الله - تعالى - في جملة المؤمنين بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي } وبما وصفناه من الدليل - ثبت أن الكبيرة لا تكفره، ولا تغير اسم الإيمان عنه، والله الموفق.
ثم فيما نهانا أن نتخذ عدونا وعدوه أولياء دلالة أن ليس في الحكمة اتخاذ الولاية مع الأعداء. ثم من قال المعتزلة: إن الله - تعالى - أراد من جميع عباده أن يؤمنوا، وإذا أراد أن يؤمنوا فقد أراد أن يواليهم مع علمه أنهم يختارون عداوته؛ فكأنهم وصفوا الله - تعالى - بما يخرجه من الحكمة ويدخل في السفه والجهل بالعواقب، وذلك كله منفي عن الله - سبحانه وتعالى - والمعتزلة فيما وصفوا فجرة فسقه، ويخشى أن يكونوا كفرة، والله المستعان.
وقوله - عز وجل -: { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ }، أي: بما كتب في الكتاب.
وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ }، وقوله: { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي }.
يحتمل أ ن يكون ذلك فيمن هاجر من مكة إلى المدينة، وهو أقرب التأويلين؛ لأن حاطباً إنما كان هاجر من مكة إلى المدينة وفيه نزلت الآية.
ويحتمل أن يكون ذلك حين أرادوا الجهاد إلى مكة، والله أعلم أي ذلك كان.
وقوله - عز جل -: { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ }.
أي: هو { أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ } من كتابة الكمتاب إلى أهل مكة، { وَمَآ أَعْلَنتُمْ }: بما أظهرتم من العذر.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ }، أي: من اتخاذ الولاية مع أعدائه، { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }، في الاعتقاد: إن اعتقد ذلك، وفي الفعل: إن لم يعتقده، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ }.
التزام مراقبة الله - تعالى - في السر والعلانية، وتحذير لهم؛ ليجمعوا بين السر والعلانية وتخويف لهم عن أن يطلع رسوله - عليه الصلاة والسلام - على سرائرهم كما أطلعه على أمر الكتاب إلى أهل مكة.
ثم في هذه الآية ما أعظم شيء في زجرهم ونهيهم عن المعاصي، وذلك أنه لما أطلعه على جميع ما يتعاطونه من الذنوب سرّاً وعلانية؛ فإذا علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من سرهم ما يعلم من علانيتهم بما يطلعه الله عليه؛ يحملهم ذلك على الانتهاء عن المعاصي في السر والعلانية، وعلى الإجابة إلى ما يدعوهم إليه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ }.
فوجه ذلك وتأويله عندنا - والله أعلم -: أنه لما رآهم رغبوا في أموالهم ومودتهم رغبة منهم في الكفرة أن يحفظوا أولادهم وأموالهم، أخبرهم أن كيف يرغبون في حفظهم ذلك، وهم لو قدروا عليكم وظفروا بكم قتلوكم وآذوكم بألسنتهم؟! فكأنه يقول: كيف توالونهم من حيث تسرون إليهم بالمودة، وهم لو ظفروا بكم قتلوكم، وكانوا لكم أعداء؟!
وقوله - عز وجل -: { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ }.
يعني: أنهم يودون أن يكفروا، ومع ما يودون أن يكفروا: لو قدروا عليكم قتلوكم، فمن كانت حالهم معكم مثل هذا: فكيف تطمعون أن يحفظوا أولادكم وأموالكم؟!
وقوله - عز وجل -: { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ }، له وجهان: أحدهما: أن كيف توالون الكفرة؛ لمكان أولادكم وأرحامكم، وهم لا ينفعونكم يوم القيامة؟!
والثاني: أن أرحامكم لا تنفعكم ولا تشفع لكم يوم القيامة.
وقوله: { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [يحتمل - أيضاً - وجهين:
أحدهما:] أي: بينكم وبين أرحامكم؛ لقوله - تعالى -:
{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [عبس: 34-35].
والثاني: أي: يفصل بينكم وبين أرحامكم؛ لاختلاف أعمالكم؛ فينزل كل واحد منكم منزل عمله.