التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٠
وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الممتحنة

تأويلات أهل السنة

وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ }.
المعنى عندنا - والله أعلم -: { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ }، يعني: قائلات: إنهن مؤمنات.
{ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ }.
لأنه لو كان على حقيقة الإيمان لم يكن لقوله: { فَٱمْتَحِنُوهُنَّ } معنى، فلما أمر بالامتحان ثبت أن تأويل قوله: { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ } ما وصفنا بدءاً.
ومثل هذا ما قال:
{ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [النحل: 106]، وكان المعنى منه: من تكلم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فكذلك يجوز أن يكون المعنى من الأول ما سبق ذكره، والله أعلم.
ثم إن المفسرين ذكروا وصف امتحانهن: أنهن يحلفن بالله ما أخرجهن من دارهن بغض أزواجهن، أو يحلفن أنهن ما أردن بخروجهن أرضا سوى أرضهن؛ وإنما أردن بذلك الإسلام. وهذا تأويل فاسد؛ وذلك أنها إذا أسلمت كان الحق عليها في دنيها أن تبغض زوجها الكافر، كقوله - تعالى -:
{ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: 4]، فكيف يجوز أن يكون صفة امتحانهن ما ذكروا، وحكم الشريعة والدين يوجب ما كن يفعلنه؟! فلذلك قلنا: إن هذا التأويل - الذي ذكره بعض المفسرين في وصف الامتحان - غير مستقيم.
ويجوز أن يكون تأيول امتحانهن على وجهين:
أحدهما: أن يستوصفن عن الإيمان: ما هو؟ فإذا أخبرن عن حقيقة الإيمان علم أنهن مؤمنات.
والثاني: يعرض عليهن ما على المؤمنات في إيمانهن، كما قال - تعالى -: { وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ }، فإذا قبلن ذلك كله كان ذلك امتحانهن، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بِإِيمَانِهِنَّ }.
هذا يدل على أن الذي كلف به المؤمنون من امتحانهن؛ إنما هو لما يعلمون من إيمانهن في الظاهر وأن الحقيقة إما يعلمها رب العالمين، وهذا يبين أن العلم علمان:
علم العلم وعلم الشهادة، فعلم العمل: ما يعلمه الخلق في الظاهر فيعلمون به، وعلم الشهادة: ما يجوز أن يشهد على الله به، وذلك إنما يوصل إليه، وذلك بما يطلعم الله عليه نصا إما بكتاب أو بسنة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلم العمل هو الذي يساغ فيه الاجتهاد، نحو: خبر الآحاد وجهة القياس وغير ذلك.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ }.
ذكر في القصة
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عام الحديبية مشركي أهل مكة على أن من أتاه ن أهل مكة فهو عليهم رد، ومن أتى مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لهم، وغير ذلك، وكتب بذلك كتاباً وهو بالحديبية، فلما فرغ من الكتاب إذ أتت سبيعة مسلمة، فجاء زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رد علي امرأتي؛ فإنك قد شرطت لنا ذلك، وهذه طيبة لم يخف بعد؛ فأنزل الله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ }" ، يقول: لا تردوهن إلى أزواجهن الكفار.
{ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }.
يقول: لا يحل نكاح مؤمنة لكافر ولا نكاح كافر لمؤمنة.
وقوله - عز وجل -: { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ }.
يقول: أعطوا زوجها الكافر ما أنفق عليها، على مكان جرى من الصلح بينهم وبين المسلمين: أن ما خرج من نساء أهل مكة إلى المدينة مؤمنات لم يرجعوهن إلى الكفار، وأعطوا أزواجهم ما أنفقوا من المهور، وما خرج من نساء المسلمين مرتدات لم يردوا إلى المدينة، وأعطوا أزواجهن ما أنفقوا.
ثم معلوم أنه كان يؤخذ بإعطاء الصداق وإيتاء ما أنفق غير الذي أخذ الصداق، ولكن كان يؤخذ به من كان من جنسه على ما ذكرنا نظائره فيما تقدم؛ ولذلك قال أصحابنا: إن أهل الإسلام يأخذون من تجار أهل الحرب مجاواة لما يأخذه أهل الحرب من تجار المسلمين، وإنما يؤخذ ذلك ممن كان من جنسه، وأن ذلك غير الذي أخذ منه؛ وعلى ذلك نقول: إن المحنة قد يجوز أن تستوي على البر والفاجر وأن ما ينزل بالآدمي من المحن يجوز ألا يكون جزاء؛ لما تعاطى من الذنوب والسيئات؛ لأن الله - تعالى - أن يجزي كل بعمله: إن شرا فشر، وإن خيراً فخير، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }.
يقول: لا إثم عليكم - يعني: المسلمين - أن تتزجوهن (إذا آتيتموهن مهورهن).
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم بعد ذلك زوجها، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول قبل أن ينزل: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }، فلما نزلت كان إذا أسلم الزوج، وخرج إلى دار الإسلام انقطعت [الصلة] بالإسلام بينه وبين امرأته، وكذلك المرأة إذا خرجت وبقي الزوج.
ثم قوله: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }، قال بعضهم: أي: بعقد الكوافر، فمن كانت له امرأة بمكة كافرة فلا يقيدن بالمرأة الكافرة؛ فإنها ليست بامرأة له، وقد انقطعت العصمة بينهما.
وقال بعضهم: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }: حظر علينا الامتناع والكف والإمساك من نكاح المهاجرة لأجل زوجها الحربي. وعُصِمَتْ العصمة: المنع،والكوافر يجوز أن يتناول الرجال، وظاهره في هذا الموضع للرجال؛ لأنه في ذلك المهاجرات، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ }.
يقول: إذا لحقت امرأة المسلم بكفار مكة فأسلوا مهرها من أهل مكمة، وردوا إلى زوجها، { وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ }، يقول: إن جاءت امرأة من أهل مكة مهاجرة إليكم فردوا على زجها المشرك ما أعطاها من المهر؛ وذلك من أجل العهد الذي كان بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ }. يقول: هذا هو حكم الله بين المسلمين والكافر من أهل العهد من أهل مكة في أن يرد بعضهم على بعض النفقة، أي المهر.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
أي: فيما حكم بين المسلمين وأهل العهد ما ذكرنا من الحكم.
وقوله: { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ }.
يقول: إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار مكة من أهل الحرب ممن ليس بينكم وبينهم عهد، لها زوج عندكم مسلم، { فَعَاقَبْتُمْ }: أي: أعقبكم مالا من الغنيمة، { فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ }، من المهر مما أصبتم من الغنيمة قبل القسمة.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }.
فيما فرض عليكم من هذا.
{ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }.
أي: مصدقون؛ فلا تنقصوه، والله أعلم. وهكذا روى مسروق،رحمه الله .
وعن الزهري أنه قالك من حكم الله - تعالى -: أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأُمِر المؤمنون إذا ذهبت امرأة مسلمة ولها زود إلا الكفار: أن يردوا إلى زوجها ما أعطاها من المهر من صداق كان في أيديهم مما يودون أن يردوا إلى المشركين بمهاجرة امرأة مسلمة إلينا، وإن لم يكن في أيديهم صداق وجب رده على أهل الحرب فعوضهم من غنيمة أصبتموها.
وأصل هذا - والله أعلم -: وإن فاتكم شيء مما أنفقتم على أزواجكم، ثم ظفرتم على أعدائكم وغنتم - فآتوا الذي ذهبت أزواجهم ما فات عنهم مما أنفقوا؛ فكأنه يقول: واسألوا أولئك الذين ذهبت نساؤكم إليهم ما أنفقتم، فإن سألتم ولم يعطوكم شيئاً، وفاتكم ذلك من ذلك الوجه، ثم قاتلتموهم وغنتم - فأعطوا الذين فات عنهم أزواجهم ما أنفقوا.
قال [المصنف] -رحمه الله -: أعلم بأن هذه الآية تنتظم أحكاماً:
أحدها: جواز الاجتهاد والعمل بالعلم الظاهر؛ فإنه قال: { فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }، أي: بالاجتهاد والامتحان { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ }، وهذا حكم مبني على العلم الظاهر؛ دل أن العمل به جائز.
والثاني: أن أحد الزوجين إذا أسلم في دار واحد إما دار الإسلام أو دار الحرب - هل تقع الفرقة بنفس الإسلام أو بانضمام شيء آخر إليه؟
قال بشر المريسي بأن الفرقة تقع للحال من غير انضمام شيء أخر إليه.
وقال الشافعي: إن كانت المرأة مدخولا بها لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاث حيض، وإذا كانت غير مدخول بها وقعت الفرقة للحال.
وقال أصحابنا: إذا كانا في دار الحرب، فأسلم أحدهما - لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاثا، وإذا كانا في دار الإسلام ذميين، فأسلم أحدهما - لم تقع الفرقة حتى يعرض السلطان الإسلام على الآخرة، فإذا عرض عليه الإسلام وأبى، يفرق بينهما.
فأما بشر: أحتج بظاهر قوله - تعالى -: { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ... } إلى قوله: { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }؛ فقد أخبر أ نه لا يحل واحدج منهما لصاحبه، ولم يذكر شيئاً آخر؛ فلا يقرن به شيء آخر.
وأما أصحابنا - رحمهم الله - فإنهم احتجوا، وقالوا: إن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام بقوله: { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ } [إذا] كانت الفرقة واقعة بمجرد الإيمان لم يكن للامتحان معنى، فلما لم يذكر الحرمة إلا بالامتحان ثبت أن الفرقة لا تقع بمجرد الإيمان.
ويجوز أن يكون مثال هذا قوله - تعالى -:
{ ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 3]، ثم قال: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } [النور: 6]؛ فلو كان الزنا يوجب الحرمة لم يكن هو رامياً للزوجة؛ بل إذا قال لها: زنيت؛ فكأنه قال: لم يكن بيني وبينك نكاح، ولما ثبت رمي الزوجات بقوله: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ } [النور: 4] ثبت أن الزنى لا يوجب حرمتها عليه؛ فكذلك الإيمان بمجرده لو كان يحرمها على الأزواج لم يكن للأمر بالامتحان معنى، فلما أمر بالامتحان على إيمانها، بعد أن أظهرت في نفسها الإيمان، ثبت أن الحرمة [لا] تقع بنفس الإيمان حتى ينضم إليه شيء آخر، وتبيين أن العلم بظاهر الآية غير ممكن؛ إذ لا يجري على إطلاقها، والله أعلم.
ودليل ذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتجديد النكاح؛ ثبت أن الفرقة لاتقع بمجرد الإسلام، والله أعلم.
والوجه في ما روي عنه الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - على اختلاف الأسباب باختلاف الدارين ونحوه: روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنهما على النكاح حتى تحيض المرأة ثلاث حيض إذا كانا في دار الحرب.
وعن علي - رضي الله عنه -: أنهما على النكاح بينهما الهجرة.
وعن عمر - رضي الله عنه -: أنهما إذا كانا في دار الإسلام، فأسلم أحدهما فهما على النكاح حتى يعرض السلطان الإسلام على الآخر.
فهؤلاء قد ثبت عنهم أن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام إلا أن يضامه شيء آخر، ولم يثبت عن غيرهم خلاف ذلك؛ فيكون إجماعا؛ فلذلك أخذ أصحابنا - رحمهم الله - بقولهم، والله أعلم.
والثالث: أن أحد الزوجين إذا خرج إلى دار الإسلام مهاجراً، وبقي الآخر في دار الحرب - تقع الفرقة بينهما عندنا.
وعند الشافعي: لا تقع الفرقة بتباين الدارين؛ قال: لأن المسلم إذا دخل بأمان لم يبطل نكاح امرأته، وكذلك لو دخل حربي إينا بأمان لم يقع الفرقة بينه وبين زوجته؛ وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ودخل أحدهما إلى دار الإسلام لم يقع الفرقة؛ فعلم أنه لا يعتبر باختلاف الدارين في إيجاب الفرقة.
ولكن عندنا ليس معنى اختلاف الدارين ما ذكر؛ إنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام: إما بالإسلام أو بالذمة، والآخر من أهل دار الحرب أي: يكون حربيّاً كافراً. فأما إذا كانا مسلمين فيهما من أهل دار واحدة وإن كان أحدهما مقيماً في دار الحرب والآخر في دار الإسلام، وفي هذه الآية دلالة على ما قلنا من وجوه:
أحدها: أنه قال: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ }، ولو كانت الزوجية باقية بعد التباين، لكن الزوج أولى بها، وبأن تكون معه، فلا معنى للنهي عن الرجوع إلى الزوج الكافر.
وكذا قال - عز وجل -: { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }: أثبت الحرمة بين المهاجرات وأوزاجهن، ولا يتصور بقاء النكاح في غير محل الحل.
أو كأن معناه تحريم الاستمتاع، ولكن النكاح لما لم يكن المقصود إلا الاستمتاع وما هذا من آثاره؛ فكان في تحريم الاستمتاع تحريم النكاح.
وكذا قوله - تعالى -: { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } دليل عليه أيضاً؛ فإنه أمر برد مهرهن إلى الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج استرداد المهر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله.
وكذا قوله - تعالى -: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }، ولو كان نكاح الأول باقياً، لما جاز للمسلم في دار الإسلام أن يتزوجها.
وكذا قال الله - تعالى -: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }: نهانا عن الإمساك والامتناع من تزويجها لأجل عصمة الزوج الكافر وحرمته؛ دل أن الحرمة تقع بالتباين.
ودليل آخر من جهة المعقول على ما ذكرنا، وهو أنهم أجمعوا أنها إذا سبيت وقعت الفرقة حتى يحل للسابي وطء المسبية بعد الاستبراء، فإما أن تقع الفرقة بإسلامها، وقد اتفق الجمهور من الفقهاء على أنه لا تقع الفرقة بنفس الإسلام إذا كان بعد الدخول - ما لم ينضم إليه شيء آخر - أو بحدوث الملك للسابي، ومعلوم أن الملك لا يمنع النكاح؛ ألا ترى أنه يجوز ابتداء العقد على المملوك؛ ولهذا لو بيعت الجارية لم تقع الفرقة، وإن وجد الملك فيها للمشتري، وكذلك إذا مات رجل وخلف أمة منكوحة: ثبت الملك فيها للوارث ولا يبطل النكاح. وإذا لم يثبت الفرقة بهذين الوجهين - لم يبق إلا تباين الدارين؛ فدل أن سبب الفرقة هو تباين الدارين في المسبية، والتابين موجود في المهاجرة، والله أعلم.
فإن احتجوا بما روي عن عكرمة عن ابن عباس قال:
"رد النبي صلى الله عليه وسلم بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنين" ، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها مشركاً بمكة، ثم ردها عليه بالنكاح الأول؛ فدل أن اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة.
فنقول له: لا يصح الاحتجاج به من وجوه:
أحدها: أنه رها بعد ست سنين بالنكاح الأول؛ ولا خلاف بين الفقهاء لا يرد إلى الزوج بالعقد الأول بعد انقضاء ثلاث حيض، وملعوم أنه ليس في العادة ألا يكون ثلاث حيض في ست سنين؛ فسقط الاحتجاج به.
والثاني: أنه روي عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في اليهودية تسلم قبل زوجها: "إنها أملك بنفسها"، فكان من مذهبه أن الفرقة وقعت بإسلامها، والراوي متى عمل بخلاف ما روى؛ دل على انتساخ ذلك؛ إذ لا يظن به أنه خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم رد بنته زينب - رضي الله عنها - على أبي العاص بنكاح ثانٍ؛ فوقع التعارض بين الحديثين؛ فبطل احتجاجه بالحديث. ثم الترجيح لما رويناه؛ لأن فيما رواه إخباراً عن كونها زوجهة له بعدما أسلم الزوج، ولم يعلم حدوث عقد ثانٍ. وفي حديث عمرو بن شعيب إخبار عن حدوث عقد ثانٍ بعد إسلامه، والثاني: إخبار عن معنى حادث علمه، وهذا كما رجحنا حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميموننة وهو محرم على حديث يزيد الأصم: أنه تزوجها وهو حلال؛ لأن في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - إخبارا عن حالة حادثة.
وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول، ولحديث بريرة أنه كان زوجها حرّاً حتى أعتقت، ورواية من روى أنه كان عبداً يكون الأول أولى؛ لإخباره عن حال حادثة والثاني إخبار عن ظاهر الحالح؛ فكان الأول أولى؛ فكذلك هذا.
والرابع: أن المهاجرة لا عدة عليها عند أبي حنيفة -رحمه الله - وعلى قولهما: عليها العدة. وهذه الآية دليل لأبي حنيفة -رحمه الله - من وجوه:
فإنه - عز وجل -: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ }: نهى عن الرد إلى الزوج الأول، ولو كانت عليها العدة، لكان للزوج أن يردها إلى مسكنة لتعتد؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } [الطلاق: 6]: كيف أمر الأزواج بإسكانهن في بيوتهن ما دمن في عدتهن، فلما قال - هاهنا -: { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ } دل على [ان] لا عدة عليها.
وكذا قال: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } فأباح نكاحها مطلقاً من غير ذكر العدة.
وكذا قال: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }، ولو كانت العدة عليه واجبة لكانت باقية بقوله:
{ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب: 49]؛ ألا تراه كيف جعل العدة في حقه، وإذا كان للزوج عليها حق كانت هي في عصمته، وقوله: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } يوجب قطع العصمة، فلما كان في إيجاب العدة إبقاء العصمة بينهما، ونهى الله - تعالى - عن ذلك؛ فقطعناها وأسقطنا العدة عنها، والله أعلم.
ولأنهم أجمعوا أنها إذا سبيت وقعت الفرقة وسقطت العدة، والملك ليس بسبب لإسقاط العدة؛ ولكنه سبب لنقص العدة، فلما سقطت العدة عند السبي والمهاجرة، والسبي لا يوجب الإسقاط دل [على] سقوط العدة لاختلاف الدارين، والله أعلم.
والخامس: فيه دليل على أن الكتاب يجوز أن ينسخ حكمه بترك الناس العمل؛ فإن في قوله: { لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ }، وقوله: { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } الحكم متروك من غير أن يكون في تركه كتاب أو سنة، ولكن الناس إنما أجمعوا على تركه، وهذا وأمثاله في حكم عرف ثبوته على الخصوص لمعنى، ثم ينعدم، [و]ما لا يعقل معناه يجب العمل بالكتاب ولا يترك بترك الناس، ولا يجوز لهم الإجماع على تركه، ولا يتحقق الإجماع على ذلك وجماعة من أصحابنا قالوا: إنه صار منسوخاً بقوله:
{ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [النساء: 29]، وبقوله - عليه السلام -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا من طيبة من نفسه" ، والله أعلم.
والسادس: في قوله - تعالى -: { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } دلالة على أنه سوى في الحكم بين أموالنا وأموالهم ثم الإجماع جرى على أنا إذا غلبنا على أموال أهل الحرب ملكناها، فكذلك إذا غلبوا على أموالنا يجب أن يملكوها، وفيما أوجب من الحرمة إذا جاءت النسوة إلينا مؤمنات مهاجرات - دلالة على أن الأحكم في الأنفس مختلفة؛ وعلى هذا ما خلف كل واحد منهما من المال في الدار التي هاجر منها إلى أخرى أنه يصير فيئاً؛ لما لم يرو عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما فتح مكة أن يكون تفحص عن شيء من ملك الأموال التي كانت مخلفة حين هاجروا إلى المدينة؛ فلا بد أن يكون ذلك للتوارث، أو لما ذكرنا أنها تكومن فيئاً لهم، ومعلوم أن التوارث بين أهل الإسلام وأهل الكفر منقطع، وإذا بطل وجه التوارث ثبت الوجه الآخر، والله أعلم.
والسابع: في قوله: { ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } دلالة على وجوب العدل بين الأعداء، وهو كقوله - تعالى -:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ... } [المائدة: 8]، وقال: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } [المائدة: 2]، وقال - هاهنا -: { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } سوى بين أموالنا وأموالهم، وهو العدل؛ فكأنه يقول: ذلك [الذي] أمر من العدل بينكم وبين أعدائكم حكم الله يحكم بينكم، لكي إذا علموا أن العداوة لا تحملكم على ترك العدل - حملهم ذلك على التآليف والتعطف، وعلموا أنكم إذا تركتم شهواتكم وأنفقتم العدل والتسوية: فليس ذلك من عندكم، ولكن من عند الله - تعالى - فرغبهم ذلك في الإسلام؛ فكأنه قال: ذلك الذي أمر من العدل وجعله سبباً، يرغب أعداءكم في الإسلام، ويحملهم على التآلف { حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }، يعني: بما أمر من العدل والتسوية، { حَكِيمٌ } لا يلحقه الخطأ في التدبير؛ فدل أن العدل واجب بينهم، والله الموفق.
والثامن: في الآية دلالة على أن النساء إذا ارتدن لم يقتلن؛ فإنه قال: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ }؛ ثبت أنهم إذا لم يعلموهن مؤمنات رجعوهن إلى الكفار؛ لما كان جرى بينهم من الصلح، ومعلوم أنه إذا رجعن إلى الكفار بعدما أظهرن الإيمان كن مرتدات، ولو كانت المرتدة تقتل كلان إذا ظهر ذلك عندهم قتلوها ولم يرجعوها إلى الكفار، فلما ثبت بما وصفنا أنهم كانوا يصرفون النساء إليهم مع علمهم أنهن مرتدات ثبت أن المرتدة لا تقتل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ... } الآية.
المبايعة والهجرة كانتا واجبتين في عهد النبيي صلى الله عليه وسلم، ومعناهما اليوم واجب أيضاً: وذلك أن الهجرة إنما كانت من مكة إلى المدينة؛ لما كان أحدهم إذا أسلم يخاف على نفسه من فساد الدين بالكفران لو قأم بين أظهرهم، وكان أيضاً يحتاج إلى علم الشرائع والأحكام، وإنما ارتفعت الهجرة اليوم من مكة إلى المدينة. فأما واجد من أهل الحرب إذا أسلم وخشي على نفسه فساد الدين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى دار الإسلام؛ ليأمن فساد دينه، ويحصل على علم الشرائع.
وأما المبايعة فإن معناها في النساء: ترغيب الكفرة في الإسلام، وفي الرجال: حمل الكفرة إلى الإسلام، وذلك أن الذي أمر به النساء من المبايعة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والكفرة إذا علموا أن هذا يؤمر فيه بمحاسن الأمور: رغبهم ذلك في الإسلام. والذي أمر به الرجال إنما هو من جهة النصر والمجاهدة مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يظهر الإسلام ويبين، وهذان المعنيان على كل في نفسه في زماننا هذا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً }.
يتوجه إلى الاعتقاد والمعاملة جميعاً.
وقوله: { وَلاَ يَسْرِقْنَ }.
يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال كافة، والنقصان عن العبادة جملة؛ لأنه يقال: أسرقُ السارق من سرق من صلاته.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَزْنِينَ }.
يحتمل أن يكون على حقيقة الزنا وعلى دواعيه؛ على ما روي من قوله - عليه السلام -: "اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصق ذلك أو يكذبه".
وقوله: { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ }.
يحتمل أن يكون نهياً عن إلحاق الولد بأزواجهن وهن يعلمن أنه من الزنا، وهكذا روي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ }.
فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله:
{ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } [التوبة: 71]، يجوز أن يكون هذا كناية عن الأمر؛ لأنه بين النواهي والمناكير، ثم قال الله - تعالى -: { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ }؛ فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [الأعراف: 157].
وقوله - عز وجل -: { فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ }، ولم يقل هاهنا: امتحنوهن، كما قال في المهاجرات، وعنى ذلك عندنا وجهان:
أحدهما: أنه قد تبين هاهنا وجه الامتحان بقوله: { لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ }، فاستغنى عن ذكر الامتحان.
والوجه الثاني: أن المهاجرات إنما كن يأتين من دار الحرب، ولم يكن علمن الشرائع؛ فاحتجن إلى الامتحان، وأما هؤلاء: كن في دار الإسلام، وقد علمن شرائعه؛ فلم يذكر الامتحان لذلك، والله أعلم.
وقوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ } هذا يدل على أن الكبائر لا تخرجهن عن الإيمان؛ لأنه يعلم أن الاستغفار لما يجيء منهم من تضييع هذه الحدود ولو كن يخرجن بتضييعها من الإيمان لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهن؛ لأن الاستغافار طلب المغفرة، ويستحيل أن يطلب منه مغفرة من ليس له غفران؛ فدل على ما وصفنا: أن ارتكاب الكبائر لا يخرج صاحبه من الإيمان، والله أعلم.