التفاسير

< >
عرض

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٤
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٥
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٦
-الممتحنة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ... } الآية.
الأصل في أنباء المتقدمين أنها عِبَرٌ لهذه الأمة، فما ذكر منها في المؤمنين منهم فهو تذكير للمؤمنين من هذه الأمة، وتعليم لهم معاملة الكفرة ومنابذتهم على مثل ما فعل المؤمنون منهم بكَفَرتهم من سائر الأمم.
وما ذكر منها في الكفرة من الأمم الماضية؛ فهو تخويف لكفرة هذه الأمة لئلا يصنعوا مثل صنيعهم فيستوجبوا من النقمة مثل ما استوجب أولئك.
وما كان منها في حق الرسل - عليهم السلام - فهو في حق التسلي لرسولنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن بعض ما مسه.
وأصل آخر: أن الخطاب قد يلزم المخاطب مرة بما يخاطب في نفسه، ومرة بما يؤمر بالاقتداء بغيره إذا كان ذلك الغير لم يفعل ما فعله إلا عن أمر.
ثم إن الله - تعالى - أمر المؤمنين من هذه الأمة الاقتداء بإبراهيم - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين، وأخبرهم عن معاملتهم إياهم وترك مولاتهم؛ فكأنه قال: اتركوا موالاة الكفرة والإسرار إليهم بالمودة ما داموا على كفرهم، كما فعله إبراهيم - عليه السلام - والذين معه { ذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ }: فنابذوهم ولم يوالوهم، فافعلوا كفعلهم.
{ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ }.
فكأنه قال: اقتدوا بهم إلا بما قال إبراهيم لأبيه: { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ }، يعني: لا تستغفروا للمشركين مثلما استغفر إبراهيم لأبيه المشرك؛ لأنكم لا تعلمون المعنى الذي استغفر إبراهيم - عليه السلام - لأبيه.
ثم اختلفوا في المعنى الذي استغفر إبراهيم لأبيه:
فقال أبو بكر: إنه كان - صلوات الله عليه - وعد أن يستغفر لأبيه، وأرى أن إيجاب الوعد لازم عليه؛ فاستغفر لهذا المعنى.
قال الحسن: إنه إنما اسغفر له لوقت توبته لا في حال الشرك؛ لأنه لا يتوهم أنه لم يعلم أنه لا يحل له أن يستغفر للمشر، ومن علم أنه يحل له لم يكن مسلماً ومؤمناً؛ فثبت [أنه] إنما استغفر لوقت إسلامه.
وعندنا: الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة من الله - تعالى - على وجهين:
أحدهما: مغفرة رحمة وفضل وكرم.
والثاني: أن يوفقه للسبب الذي إذا جاء به غفر له؛ ألا ترى إلى قوله:
{ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [نوح: 10]، أي: السبب الذي إذا جئتم به غفر لكم، وإذا كان كذلك جاز أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه على هذا الوجه أن يكون طلب من الله - تعالى - التوفيق له بالسبب الذي إذا جاء به غفر له، وذلك مستقيم، ولكنه لم تبين أنه لا يوفقه لذلبك السبب تبرأ منه، والله أعلم.
وقوله: { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ }.
أي: لا أملك أن أدفع عند عذاب الله من شيء، أو لا أملك أن أهديك دون أن يهديك الله؛ فكأنه قال: [لا أملك] سوى أن أدعو لك بالتوفيق للهداية لا أملك لك من عذاب الله من شيء.
وقوله - عز وجل -: { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا }.
يجوز أن يكون هذا عند المنابذة وإظهار العداوة مع الكفرة، يعني: عليك معتمدنا في النصر على أعدائنا عند قلة عددنا وكثرة عددهم، وإليك مرجعنا ومفزعنا.
{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }، إذا قبضنا.
وقوله - عز وجل -: { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
ذكر أهل التفسير أن تأويل هذه الآية يخرج على ثلاثة أوجه:
أحدها: أي: لا تسلط علينا أعدائنا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل.
أو لا تنزل علينا العذاب دونهم؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل.
أو لا توسع عليهم الدنيا وتضيق علينا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل.
ولو كان التأويل هو الثاني لكان يجء على هذا أن يكون الواجب على العدول من هذه الأمة أن يسألوا الله - تعالى - العافية؛ لئلا يتوهم فساقهم أنهم على حق.
ولكن الجواب عن هذا أن الفساق من هذه الأمة قد علموا أن الذي هم فيه من الفسق محظور، وأما الكفرة فإن عندهم أن ما يدينون به من الكفر حق؛ فإذا سلطوا على المؤمنين توهموا أن الذي حسبوه حقّاً: حق، وأما الفسقة من هذه الأمة إذ علموا أن الفسق منهي عنه محظور، لا يقع لهم هذا الحسبان، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون المعنى من قوله: { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً }، يعني: عذاباً، أي: سبباً يعذب به الكفرة؛ كما قال:
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } [آل عمران: 194]، وكان تأويله أن آتنا السبب الذي نستوجب به ما وعدتنا على رسلك، فكذلك الأول، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.
يعني: المنتقم من أعدائه.
وقوله - عز وجل -: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ }.
يعني: لقد كانت لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة تحسنون بها إذا اقتديتم بهم وأطعتموهم.
وقوله: { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } يحتمل معنيين:
أحدهما: أي: لمن كان يرجو ثواب الله تعالى.
والثاني: أن يؤمن بالبعث؛ وذلك أن الله - تعالى - وصف أمر البعث في كتابه بصفات مختلفة: مرة أضافه إلى نفسه بقوله:
{ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } [الكهف: 110]، وكان المعنى منه البعث. ومرة وصفه بصفة أخرى.
وإن كان المراد: الثواب؛ ففيه إخبار أن الراجي في الحقيقة هو الطالب لما يرجوه بالأسباب التي يرجو الوصول بها إلى ما دعا ورجا، والخائف في الحقيقة هو الحذر عما حذر، والمنتهي عما نهى عنه وحظر. فإن من اعتمد على مجرد الرجاء والخوف دون التمسك بسببهما، فهو متمن على الله تعالى.
والدليل على تأييد ما نقول: قوله - عز وجل -:
{ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ } [البقرة: 218] ألا تراه كيف حقق معنى الرجاء بالمجاهدة في سبيل الله والعمل بطاعته، والله أعلم.
وإن كن على البعث فكذلك أيضاً؛ لأنه أضرب عما نهي عنه، وطلب لما أمر به؛ فقد تبين أنه يوالي من تفضي موالاته إلى ثواب الله ورحمته، وأنه يعادي من تفضي موالاته إلى نقمة الله وعذابه، ومعلوم أنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالبعث؛ فإنما يوالي من رجا منهم منفعة الدنيا ويتولى عمن يضره في هذه الدنيا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَتَوَلَّ }.
يعني: من يتول عن طاعة الله فيما أمره من معاداة من عادوا ربهم.
{ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ }.
يعني: عن طاعة الخلق؛ ليعلم أن ما أمرهم به لم يأمرهم لحاجة له في طاعتهم أو لمنفعة ترجع إليه؛ بل هو غني عن كل ذلك؛ وإنما أمرهم لحاجتهم إلى ذلك، ولما علم أن منافع طاعتهم ترجع إليهم خاصة.
وقوله - عز وجل -: { ٱلْحَمِيدُ } له معنيان: معنى: الحامد، ومعنى: المحمود.
فإن كان المراد منه: المحمود، ففيه أن الله - تعالى - يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم.
وإن كان المراد: الحامد، فمعناه: أن الله يحمد الخلق ويشكرهم، حتى يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال فيتفضل عليهم بأعمالهم، فهو حميد من هذين المعنيين.