التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
١٠
تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
١١
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ
١٤
-الصف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
الإيمان بالله: أن يؤمن بأنه الواحد الأحد، الصمد الفرد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ويؤمن بأن له الخلق والأمر، وأنه قادر لا يعجزه شيء، وعليم لا يخفى عليه شيء، وحيكم لا يخرج خلقه الأشياء والمختلفة من السراء والضراء، والظمة والنور، والمرضى والصحة، عن حكمته.
وأنه ليس كما قالت الثنوية: إن خالق الظلمة والشر والقبيح غير خالق النور؛ بل يعلمه أنه خالق كل شيء، سواء من ظلمة ونور، وشر وخير، وقسم وصحة.
ولا على شبيه ما قالت المجوس: إن الله تعالى غفل غفلة فتولد منه الشيطان؛ بل هو لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ولا على ما قالت النصارى: حيث شبهوه بالخلق حتى أجازوا أن يكون له ولد.
ولا على ما قالت القدرية: إنه لا يقدر شيئا من الشر والقسم والوجع.
وعلى ما قالت المعتزلة: إنه ليس له في أفعال العباد صنع وتدبير؟ بل يعلمه عليما بكل شيء، قديرا على كل شيء، متعاليا عن كل شيء من معاني الخلق، متنزها عن كل آفة وحاجة وعيب، فهذا هو الإيمان بالله تعالى عندنا، والله تعالى أعلم.
والإيمان بالرسول: هو أن يؤمن من بأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم فهو حق وصدق.
وقوله: { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
هذا على وجهين:
أحدهما: أن يقاتلوا أعداء الله تعالى.
والثاني: أن يجاهدوا في طاعة الله تعالى، وفيما دعا إليه من الأمر بالجهاد ينصرف إلى أنواع أربعة:
جهاد في سبيل الله بمقاتلة أعدائه، والاستقصاء في طاعته.
وجهاد فيما بين الإنسان ونفسه أن يجاهد في قهرها ومنعها عن لذاتها وشهواتها، وعما يعلم أنه يهلكها ويرديها.
وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع فيهم، وأن يشفق عليهم ويرحمهم، وألا يرجوهم ولا يخافهم.
وجها فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده، أو مَرمَّة لمعاشهن ولا يأخذ منها ما يضره في عقباه.
وكل هذه الأنواع يستقيم أن يسميها جهادا في سبيل الله.
ثم إن هذه الآية تنتظم مسائل ثلاثاً:
إحدها: أن كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }؟
والثانية: أن كيف يرجى له النجاة إذا آمن بالله ورسوله، ولم يجاهد في سبيل الله وقد أوجب عليه ذلك؟
والثالثة: أن كيف يخاف عليه العذاب إذا آمن بالله ورسوله، وجاهد في سبيل الله، وأتى بالكبيرة مع قوله: { تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }؟
أما الجواب عن المسألة الأولى: أنه يحتمل أن يكون المراد من هذه الآية أهل النفاق؛ فيكون المعنى من قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } في الظاهر، { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }، أي: تصدقون بقلوبكم.
ويجوز أن تكون من أهل الكتاب أيضاً فكأنه قال - عز وجل -: يأيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة، آمنوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا الكتاب.
هذا إذا كان الكفار.
فأما إذا في المؤمنين يجوز أن يكون أمر بالإيمان من بعد ما آمنوا، بمعنى: الثبات عليه أو الزيادة وبحق التجدد، وأن الإيمان من حادث الأوقات له أسما ثلاثة: الزيادة، والثبات، والتجدد؛ وذلك أن الله تعالى ذكر هذا النوع في كتابه مرة باسم الزيادة؛ حيث قال: { لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } [الفتح: 4]، ومرة باسم الثبات بقوله: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [إبراهيم: 27]، ومرة بالإيمان بقوله: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ } [النساء: 136].
فإن كان الزيادة والثبات، فذلك لطف من الله تعالى؛ وذلك أن الزيادة والثبات هذا اسمان يطلقان على فعل دائم، وفعل الإيمان منقضٍ، ولكنه يجوز أن يكون الله تعالى بلطفه جعل المنقضي كالدائم؛ فيخرج هذه الفعل مخرج الزيدة والثبات، والله أعلم.
وإن كان على التجدد في الأوقات الحادثة، فذلك مستقيم؛ وذلك لأن المرء منهي عن الكفر في كل وقت يأتي عليه إذا أتى بالإيمان في ذلك الوقت انتهى عن الكفر؛ فصار لإيمانه حكم التجدد، والله أعلم.
وجائز أن يكون المراد بقوله: { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }: الاعتقاد، وإذا كان المراد منه ذلك، وأتى بما أمر من الاعتقاد بهذه الأمور، ولكنه لم يف بالفعل، فهو في رجاء من النجاة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ }.
يعني: ذلك الذي أمركم به من الإيمان بالله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهوائكم.
{ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
عيانا بعلمكم أن ذلك خير لكم.
وقوله تعالى: { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }.
يعني: يغفر الله لكم بتلك النجاة.
وقوله - عز وجل -: { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً }.
يجوز أن يكون رغبهم في هذه الآية بما أمرهم بتركها؛ وذلك أنه أمرهم بمفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد بأنفسهم، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ذلك آتاهم مكان كل ما فات عنهم خيراً منها: مكان ما فارقوا من المساكن يؤتيهم مساكن طيبة، ومكان ما أنفقوا من أموالهم يؤتيهم النعيم الدائم، ومكان ما أفنوا من حياتهم وأنفسهم يؤتيهم حياة دائمة باقية، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }.
يعني: ذلك الثواب الدائم هو الفوز العظيم.
وقوله - عز وجل -: { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ }.
فكأنه يقول يعطيكم الله بتلك التجارة التي دلكم عليها ما ذكر من الثواب في الآجل، وأخرى تحبونها نصر من الله على أعدائكم في الدنيا، وفتح البلاد.
{ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }، بهما، وقد فعل الله تعالى ذلك بهم.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } هذا كلام يورث شبهة في القلب أن كيف قال { كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } والله تعالى لا يخاف [أحداً] حتى يستنصر عليه غيره؟
ولكن السبيل في كشف هذه الغمة عن القلوب هو المعنى في هذا وفي قوله: { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [المائدة: 12] وقد وصفنا في ذلك أن الله تعالى جعل ما يصلون به أرحامهم ويتصدقون على فقرائهم كأنهم أقرضوا الله؛ كرماً منه وفضلا ولطفا، فكذل يحتمل أن يكون جعل ما ينصرون به دينه أو رسوله نصرا له تعالى.
وكذلك قوله: { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [محمد: 7]، والمعنى في هذا: إن تنصروا دين الله ينصركم، أو إن تنصروا رسول الله أو تنصروا الحق، والله أعلم أي ذلك كان.
ويحتمل أن يكون المراد من ذلك كله، أي: اجعلوا ما تنصرون به دينكم لله تعالى ولوجهه. وكذلك قوله: { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ } [الحديد: 18] تعالى: اجعلوا ذلك لله ولوجهه الكريم، ولا بد من أن يكون في هذه الآية إضمار: إما في الابتداء أو في الانتهاء حتى تستقيم عليه.
وقوله - عز وجل -: { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } فكأنه يقول: قل للذين آمنو: كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟
أو يكون معناه وإضماره في حق الإجابة، أي: أجيبوا لله ورسوله وكونوا أنصار له كما أجاب قوم عيسى بقولهم: { نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ }. والحواريون: المتبصرون المنقون دينهم عن الشبهة، وهم قوم كانوا خيرة عيسى - عليه السلام - وخاصته حيث دعاهم إلى دينه فأجابوه وآمنوا به، ونقوا دينهم عن كل شبهة وآفة وعيب.
وقوله - عز وجل -: { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } هذا يحتمل أن يكون في حياة عيسى - عليه السلام - حين اتبعه الحواريون ثم دعا بعد ذلك قومه إلى دينه فآمنت طائفة وكفرت طائفة، { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالبراهين، والحجج على الطائفة الذين كفروا؛ { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } على أعدائهم بالحجج والبراهين.
ويجوز أن يكون بعد وفاة عيسى - عليه السلام - حين اختلفوا في ما هيته: فمنهم من قال: هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله؛ فكفرت به هذه الطائفة وآمنت به طائفة أخرى، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم حين وقع لهم قتال؛ فنصروا عليهم وظفروا، والله أعلم.