التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٤
-الجمعة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
قال: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ }، ولم يقل: يسبح الله، وقد جرت العادة في الناس التسبيح بالإله؛ كقولهم: سبحان الله، وسبحان ربي العظيم، فكان حق هذا القول على ما جرت به العادة في اللسان أن يقول: يسبح الله ما في السماوات وما في الأرض، ولكنه يجوز أن يكون هذا من نوع ما يجري فيه اللفظان جميعاً؛ كما يقال: شكره وشكر له، ونصحه ونصح له.
والتسبيح يحتمل أوجها ثلاثة:
أحدها: تسبيح الخلقة: أنك إذا نظرت إلى كل شيء على الإشارة إليه والتعيين، دلك جوهره وخلقته على وحدانية الله تعالى، وعلى تعاليه عن الأشباه وبراءته عن جميع العيوب والآفات؛ فذلك من كل شيء تسبيحه.
والثاني: تسبيح المعرفة، ووجه ذلك: أن يجعل الله تعالى بلطفه في كل شيء حقيقة المعرفة؛ ليعرف الله تعالى وينزهه، وإن كان لا يبلغه عقولنا؛ ألا ترى إلى قوله:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
ولكن عندنا بواسطة إحداث نوع حياة فيه؛ إذ المعرفة بدون الحياة لا تتحقق.
والوجه الثالث: هو أن يكون التسبيح تسبيح ضرورة وتلقين، ووجهه: أن الله تعالى يُجري التسبيح على ذلك الجوهر من غير أن يكون له حقيقة المعرفة، كما أظهر من آياته وأعلامه على عصا موسى، وكما أجرى السفينة على وجه الماء، وإن لم يكن لها حقيقة المعرفة؛ وذلك تسبيح كل شيء، والله أعلم.
وقوله: { ٱلْمَلِكِ }.
يعني: الملك الذي له ملك الملوك، أو الذي له الملك في الحقيقة.
وقوله - عز وجل - :{ ٱلْقُدُّوسِ }، له تأويلان:
أحدهما: الطاهر من كل عيب وآفة وحاجة، أو الطاهر مما يحتمله غيره.
والثاني: المبارك، يعني: به ينال كل بركة وخير.
ويجوز أن يجمع في المبارك معنى التنزيه من العيوب ومعنى البركة؛ لأنك إذا وصفته بالبركة فقد وصفته بالبراءة من كل عيب وأضفت إليه كل بركة ويمن؛ كما روي في الخبر أن قول:
"سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان" ، وكان معناهما عندنا أن قول: "سبحان الله" يختص بتبرئته من العيوب، "والحمد لله" ينتظم معنى التنزيه من العيوب، ومعنى إضافة النعم كلها إليه، فإذا كان فيه هذان المعنيان جميعاً، جاز أن يمتلئ به الميزان، ولما اختص "سبحان الله" بتطهيره من العيوب، ولم يتعده إلى غيره، أخذ نصف الميزان، والله أعلم.
وكذلك هذا الاختلاف في تأويل قوله:
{ ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ } [المائدة: 21].
وقوله - عز وجل -: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }.
العزيز: يعني: الغالب القاهر، لا يعجزه شيء.
أو يجوز أن يكون العزيز مقابل الذليل، والذليل ينتظم كل فقر وحاجة وضعف؛ فالواجب: أن يتنظم العزيز - إذا كان ضدّاً ومقابلا - كل شرف ومكرمة وغناء وقوة، والله الموفق.
والحكيم: قالوا: هو الذي يضع الأشياء مواضعها، فالله تعالى حكيم حيث وضع الأشياء مواضعها التي جعلها الله تعالى مواضع لها، أو الحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، وهو معنى المصيب أيضاً، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ }.
احتج أهل الكتاب علينا أن الله تعالى إنما بعث محمدا رسولا إلى الأميين خاصة بهذه الآية، وفهموا منها تخصيص الأميين بإرسال الرسول إليهم، فيقتضي نفيه عن غيرهم.
ولكن نقول: لا يجب أن يفهم من الآية نفي ما ذكر في ظاهرها، بل يفهم منها ظاهرها دون النفي، والتخصيص بالذكر لا يحتمل على النفي؛ لأنه إذا حمل التخصيص بالذكر على نفي غيره، أدى إلى ما لا يستقيم ولا يحل؛ ألا ترى إلى قوله:
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت: 48] حيث لم يفهم أنه لم يخطه بيمينه أن كان خطه بشماله، ولا من قوله: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ } [العنكبوت: 48] أنه كان يتلى عليه، ولكن المعنى من ذلك كله والله أعلم: أن الله بعث رسوله أميّاً في قوم أميين لا يعلمون الحكمة وماهيتها، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته؛ لأنه إذا كان أميّاً لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ثم آتاهم الكتاب مؤلفاً منظوماً يوافق كتب أهل الكتاب دل أنه إنما علم ذلك بالوحي، وأنه لم يختلقه من عند نفسه، والله أعلم.
ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعاً قوله:
{ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [سبأ: 28]، وما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" يعني: إلى الإنس والجن، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته، علم أنه رسول إلى غيرهم؛ إذا لم يكن لهم رسول آخر؛ لأن الطائفة الأخرى إذ لم يكن لهم رسول آخر، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم؛ دل أنه رسول إليهم جميعاً، والله أعلم.
وقوله: { بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ }.
معناه: أنه بعث صلى الله عليه وسلم في قوم أميين لا يعرفون عبادة الله ولا يقرءون الكتاب، بل كانت عادتهم عبادة الأصنام.
وقيل في تأويل الأميين: هم الذين لم يؤمنوا بالكتب، ولكن هذا فاسد؛ لأن الله تعالى سمى نبيه - عليه السلام - أميّاً بقوله:
{ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } [الأعراف: 157].
وقيل: سماهم: أميين؛ لأنهم لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون على الأعم الأغلب، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ويكتب، ومن هذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم: أميّاً؛ لأنه كان لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ولم يعلم ذلك؛ قال الله تعالى:
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت: 48]، وعلى ذلك روي عن النبي - عليه السلام -: "الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصبعه، وقال: إنما نحن أمة أمية لا تحسب ولا تكتب" .
وقال الزجاج: الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولم يتعلم، ويكون على ما سقط من أُمِّهِ فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه؛ لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري فيها المولود.
ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته، بحيث يعلم أنه ما اخترع ذلك من لدن نفسه؛ إذ لم يعرف الكتابة والقراءة ولا اختلف إلى أحد؛ ليتعلم منه، ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه؛ لحسن نظمه وتأليفه؛ ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة، والله أعلم.
وقوله: { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ }.
الآيات: الأعلام، فكأنه يقول: يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته وتظهر نبوته.
أو يجوز أن يكون الآيات: الحلال والحرام وما أشبهه.
أو الآيات: الحجج التي يستظهر بها الحق، والله أعلم.
وقوله: { وَيُزَكِّيهِمْ }.
قال بعضهم: يصلحهم، يعني: يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أذكياء أتقياء.
ويجوز [أن يكون] معنى قوله: { وَيُزَكِّيهِمْ } أي: يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال، والله أعلم.
وقوله: { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }، اختلفوا فيه:
قال الحسن: هذا كلام مثنى؛ الكتاب والحكمة واحد.
وقال أبو بكر: الكتاب: ما يتلى من الآيات، والحكمة: هي الفرائض.
وقال بعضهم: الحكمة: هي السنة؛ لأنه كان يتلو عليهم آياته، ويعلمهم سنته؛ إما بلطف من الله تعالى وإلهامه إياه أو بالوحي.
ومنهم من قال: الكتاب: ما يتلى من الآيات نصّاً، والحكمة: ما أودع فيها من المعاني؛ [والله أعلم] أي: ذلك كان؟
وقوله - عز وجل -: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
أي: أنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بين ظاهر؛ لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام، ليس عندهم كتاب، ولا يعرفون الحكمة.
ويحتمل أن يكون معنى قوله: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: في الشرك وعبادة الأصنام، فدعاهم الرسول إلى توحيده وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام.
قال الفقيه -رحمه الله - في قوله: { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }: إن الله تعالى قد جعلهم أتقياء أذكياء علماء بعدما كانوا أميين جهالا سفهاء؛ آية ودلالة على حقية دينه - عليه السلام - على سائر الأديان؛ حيث لم يكن أهلها كذلك، ويكون فيه ترغيب للآخرين؛ ليصيروا علماء حكماء.
وقوله: { وَيُعَلِّمُهُمُ }.
يجوز أن يكون هذا تعليماً من الله تعالى؛ فيجعلهم علماء بعدما كانوا سفهاء، وأذكياء بعدما كانوا أنجاساً وأقذارا عبدة الأوثان، وذلك من لطف الله تعالى بهم؛ لأن ما أضيف من هذه الأفعال إلى الله تعالى، فهو على حقيقة الوجود، وما أضيف إلى الرسول فهو على الأسباب، وذلك أنه لا يجوز أن يعلم الله تعالى أحدا فلا يصير عالما؛ لأن تعليمه خلق العلم في المحل الذي أراد، وما أراد وخلق يكون لا محالة، فأما [الرسول] فيجوز أن يعلم البشر فلا يتعلم؛ لأن تعليمه بسبب؛ لأنه ليس له قدرة الخلق والإيجاد؛ فثبت أنه على جهة السبب، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ }.
فإن كان معناه الخفض، فهو منسوق على قوله: { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } ومن آخرين لم يلحقوا بهم؛ فيكون فيه إخبار أن رسالته تبقى إلى آخر الدهر.
وإن كان معناه النصب فهو منسوق على قوله: { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }، فيكون فيه بشارة أنه يكون في الآخرين علماء أتقياء حكماء كما كان في هؤلاء.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذا في أهل النفاق؛ فيكون معناه: فهو الذي بعث في الأميين رسولا فيصيرون علماء حكماء مؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن، وآخرين من هؤلاء الأميين في الظاهر لما يلحقوا بهم في الباطن؛ والتأويل الأول أصح وأقرب.
وقوله: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل به والفقر إليه.
وقوله: { ٱلْحَكِيمُ }.
في أمره حيث أمرهم بالحكمة.
أو الحكيم في تدبيره؛ حيث جعل في كل مخلوقاته ما يشهد بوحدانيته وتدبيره فيه.
أو هو الحكيم في تقديره؛ حيث خلق الأشياء المتضادة من نحو النور والظلمة والليل والنهار؛ لأنه وضع كل شيء موضعه، لم يخلط ظلمة بنور ولا نورا بظلمة، ولا ليلا بنهار ولا نهارا بليل.
وقوله: { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ }:
يعني: ذلك الفضل: - النبوة والرسالة - يؤتيه من يشاء، يعني: يخلق من البشر من يصلح للنبوة والرسالة.
أو ذلك الفضل من تعليم الكتاب والحكمة يؤتيه من يشاء.
وفيه دلالة على كذب قول المعتزلة؛ لأن من قولهم: إن الله لا يؤتي أحدا شيئاً بفضله، بل حق عليه أن يفعل ذلك، فإذا كان هذا على الله فعله كان ذلك حقّاً يقضيه، ومن قضى حقّاً، فليس يوصف بالفضل، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفضل، فثبت بهذا كذب قولهم، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }.
أي: ذو الفضل العظيم في الدنيا؛ حيث تفضل عليهم بالكتاب والحكمة بعدما كانوا جهالا.
أو يجوز أن يكون هذا في الآخرة أن الله يجزيهم عن أعمالهم الجنة؛ فضلا منه عليهم.
{ ٱلْعَظِيمِ } هو الدائم الباقي، والله أعلم.