التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٩
وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠
وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١١
-المنافقون

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ }، واختلف فيه:
فمنهم من قال: هذه الآية في المنافقين.
ومنهم من قال: في المؤمنين.
فإن كانت في المنافقين، فكأنه يقول: يا أيها الذين أظهرتم بلسانكم الإيمان، لا تلهكم أموالكم [ولا أولادكم] عن ذكر الله.
وإن كان في المؤمنين، فكأنه قال: يا أيها الذين حققوا الإيمان، لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله.
ثم اختلفوا في معنى ذكر الله:
فمنهم من قال: معناه القرآن على مثال قوله:
{ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ... } [الطلاق: 10-11] يعني: قرآنا ورسولا.
ومنهم من قال: معنى الذكر التوحيد.
فإن كان تأويله القرآن، فهو يتوجه إلى المنافقين والمؤمنين جميعاً، فإن كان في المنافقين فكأنه قال: لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن النظر والتأمل في القرآن؛ لأن الله تعالى بين [في القرآن] أموراً تطهر سرائرهم وما يظهر عندهم أن الرسول لا يختلقه من تلقاء نفسه، وأنه إنما يقوله بالوحي، فكأنه يقول: إذا تأملتم النظر في القرآن، حملكم ذلك على التحقيق في الإيمان، فلا يحملكم حب المال والولد على ترك التأمل في القرآن؛ لأنكم إذا نظرتم فيه، وتأملتم، حصلتم منه على تحقيق الإيمان، والله أعلم.
وإن كان في المؤمنين، فمعناه: ألا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن النظر في القرآن؛ فإنكم إذا نظرتم فيه، صرتم من أهله، وجل قدركم.
وإن كان المراد من الذكر التوحيد، فهو راجع إلى الناس كافة: فأما المؤمنون، فكأنه حذرهم عن حب المال والولد أن يحملهم غاية حبهما على أن ينسوا وحدانية الله تعالى والإيمان بالرسل والبعث، فكأنه يقول: لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم كما ألهى الكفرة، فيحذرهم عن أن يقعوا في الهلاك من حبه كما قال:
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131] يعني: اتقوا السبب الذي يفضي بكم إلى النار المعدة للكافرين، فكذلك الأول.
وإن كان في المنافقين فكأنه قال: لا يحملكم حب المال والولد أن تتركوا حقيقة الإيمان به والتوحيد له والطاعة لرسوله، عليه السلام.
وقوله تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }.
فعلى ما ذكرنا من التأويلين في إنكار البعث والتوحيد ظاهر، وإن كان في المؤمنين فمعنى الخسار: هو الخوف من أن يقع به الوعيد.
وقوله - تعالى -: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ }.
يجوز أن يكون صلة قوله: { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } فيمنعكم ذلك عن الإنفاق؛ فإنكم إذا امتنعتم عن الإنفاق ازداد حبكم، فتنسون وحدانية الله تعالى وطاعة رسوله، عليه السلام.
وقوله - تعالى -: { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ }.
قال بعضهم: تمنى الرجعة؛ لما رأى من الهلاك والعذاب حيث ترك الحقوق.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "لو كان ثمة خير لما تمنى الكرَّة".
ولكن المعنى في ذلك عندنا - والله أعلم - أنه يتمنى الرجوع؛ ليتصدق ليس الإنفاق خاصة، ولكن ليتصدق، وليكون من الصالحين، أي: من الموحدين، وذلك مستقيم أن يقال إذا ترك التوحيد فنزل به الموت: إنه يتمنى الرجوع؛ لما يرى من الهلاك والعقوبة.
ويجوز أن يكون المعنى في هذا إن كانت الآية في المؤمنين الموحدين: أنهم يتمنون الرجوع؛ حياء من ربهم؛ لما ارتكبوا من الزلات وتركوا ما يستوجبون به الحسنات، وقصروا فيما فرض الله عليهم من العبادات، وحق على كل مؤمن أن يستحي من ربه إذا لقيه بما ترك من حقوقه التي ألزمها عليه والأسباب الواجبة.
وقوله: { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ... } الآية.
ليس يحتمل تأخير الله تعالى أجله إذا جاء؛ لأنه لو أخره، دل على أنه بدا له في أجله، ومن بدا له في أمر فذلك دليل الجهل بالعواقب، ولا يوصف [رب] العالمين بذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالكم: سركم وعلانيتكم، والله أعلم [بحقيقة ما أراد، والحمد لله رب العالمين].