التفاسير

< >
عرض

وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً
٨
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً
٩
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
١٠
رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً
١١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً
١٢
-الطلاق

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ }، وصف الله تعالى القرية بالعتو، ومعلوم أنها لا تعتو، ولكن المراد منه، أي: عتا أهلها عن أمر ربهم، وقد يجوز أن يكنى بالمكان عن الأهل، كما قال في آية أخرى { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82] [يعني: وأسال أهل القرية] وفي هذا دلالة أن ما خرج مخرج الكناية في الحقيقة، لم يكن كذبا، وإن كان في ظاهره يرى أنه كذب؛ ألا ترى إلى قوله: { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } [ص: 23]، ومعلوم أنه لم يكن هناك نعجة، ولكن كناية عن النساء، فخرج على الصدق في الحقيقة؛ كأنه قال: إن هذا أخي، لو كان له تسع وتسعون امرأة، فكذلك الأول والله أعلم.
والعتو: النهاية في الاستكبار؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [الفرقان: 21].
وقوله - عز وجل -: { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً }: له أوجه من التأويل:
أحدها: يقول: { فَحَاسَبْنَاهَا }، أي: بلغوا في الكفر والعتو والاستكبار مبلغا صاروا من أهل الحساب الشديد والعذاب المنكر.
أو يجعل ما ذكر الله تعالى من نزول النقمة بالأمم الماضية؛ لعتوهم واستكبارهم حساباً شديداً لهذه الأمة؛ ليتذكروا ويتعظوا.
أو يكون معناه { فَحَاسَبْنَاهَا } أي: سنحاسب حساباً شديداً في الآخرة، كما [كان معنى] قوله - تعالى -:
{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [المائدة: 116] بمعنى: وإذ يقول الله، فكذلك الأول، والله أعلم.
ووجه نزول هذه الآيات: أن يكون له معنيان:
أحدهما: تخويف أمة محمد صلى الله عليه وسلم والكفرة من أهل مكة بما نزل بالأمم الخالية حين تركوا اتباع رسلهم والإيمان بهم، واستكبروا في أنفسهم، وعتوا لكي ينتهي أهل قريته - عليه السلام - عما هم فيه من الكفر والعتو، ويحظروا الوقوع فيه في حادث الأوقات.
ويحتمل أن يكون هذا تسكينا لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهوينا عليه ما يلقى من كفر قومه وعصيانهم وعتوهم، وليعلم ما لقيت الرسل المتقدمة من أممهم حتى بلغ كفرهم واستكبارهم المبلغ الذي وقع اليأس منه عن إيمانهم، حتى أنزل الله تعالى بهم ما أنزل من النقم والعقوبة.
ويجوز أن يكون هذه محنة امتحن بها رسوله؛ ليعلم شفقته على أمته في ترك الدعاء عليهم بالإهلاك، والله أعلم.
وقوله: { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا }.
أي: شدة أمرها، أو نقمة أمرها، وعقوبة كفرها.
وقوله: { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً }.
أي: عاقبة عتوها خسارة في الآخرة.
وقوله: { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }.
أي: فاتقوا الله يا من تدعون أن لهم لُبّاً، فاتقوه عن أن تكفروا به وبرسوله.
وفيه دلالة: أن خطاب الله إنما يتناول العقلاء منهم، وأن من لا عقل له لا خطاب عليه.
وقوله: { قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }، له وجهان:
أحدهما: أن يجعل الذكر والرسول كله واحداً، فيقول: أنزل الله إليكم ذكرا، وهو الرسول، وإنما سماه: ذكرا؛ لوجهين:
أحدهما: أن من اتبعه شرُفَ وصار مذكورا.
أو سماه: ذكرا؛ لأنه يذكرهم المصالح والمضار، وما يرجع إليهم من أمر دينهم وعقباهم.
ويجوز أن يكون فيه إضمار، وهو أن يقول: أنزل الله إليكم ذكراً، وأرسل إليكم رسولا.
وقوله - عز وجل -: { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ }.
[بالخفض؛ فمعناه أنه يبين الحلال والحرام والأمر والنهي ونصب] الآيات والأعلام والحجج.
فمن قرأ { مُبَيِّنَاتٍ } بالخفض، فمعناه: أنها تبين الحلال والحرام والأمر والنهي.
ومن قرأ بالنصب؛ فكأنه يريد به: أن الله - تعالى - أوضح آياته وبينها، حتى إن من تفكر فيها وفي جوهرها، علم أنها من عند الله.
وقوله - عز وجل -: { لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } كل من آمن، فقد خرج من الظلمات إلى النور.
وإذا كان هذا هكذا فحق هذا الكلام أن يقول: ليخرج الذين كفروا من الظلمات إلى النور، ولكن يحتمل أن يكون معناه: ليخرج الذين يؤمنون؛ على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل.
وقوله - تعالى -:
{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } [المائدة: 116].
أي: إذ يقول الله: يا عيسى بن مريم، جاز أن يراد من المستقبل الماضي، وهذا سائغ في اللغة.
ويحتمل أن يقول: ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم إلى النور، والله أعلم.
وقيل قوله: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني: الذين وحدوا الله، وعظموه وبجلوه من معاني الشبه ووصفوه بالتعالي [عن العيوب] والآفات، وعملوا في إيمانهم صالحاً إذا خافوه ورجوه بإيمانهم وذلك عملهم الصالح في الإيمان، وذلك معنى قوله:
{ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً } [الأنعام: 158]، ومعنى ذلك الكسب: ما وصفنا من التعظيم والتبجيل والرجاء والخوف في نفس الإيمان، والله أعلم.
ويجوز أن يكون معنى قوله: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } في أداء الفرائض التي افترض الله عليهم.
وقوله - عز وجل -: { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً }.
أي: طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة؛ وذلك معنى قوله:
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201]، وفي هذه الآية دلالة أن من نال الإيمان، فإنما ناله بفضل الله تعالى وبرحمته، لأنه لولا ذلك، لم يكن ليمن الله - تعالى - عليه بذلك.
وقوله - عز وجل -: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }.
اختلفوا في قوله: { وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }:
منهم من قال { مِثْلَهُنَّ } أي: طباقاً مثل السماوات بعضها طباق فوق بعض.
ومنهم من قال { مِثْلَهُنَّ } يعني: سبع جزائر، على مثل ما قال:
{ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [لقمان: 27]، فكذلك خلق سبع جزائر.
ومنهم من قال: خلق هذه الأرض التي نشاهدها على حد السماء ومقدارها، والست من وراء هذه السماء، والله أعلم.
وليس بنا إلى أن نعرف ما بينها وكيفيتها وعددها حاجة؛ لأنه ليس في تعرفها حكم يتعلق به، والله أعلم.
وقوله: { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ }.
له تأويلان:
أحدهما: ينزل الوحي بينهن، وما ينزل الله تعالى من الكتب والرسل بينهن، ومعناه: أن الله تعالى ذكر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخصوا بمحنة الرسل والكتب والوحي، بل كل من في السماوات والأرض ممتحن بذلك.
والثاني: { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } يعني التكوين، ووجه ذلك: أنه لا يخلو مكان في السماوات والأرض في كل وقت من مكون يكونه الله تعالى، أو محدث يحدثه، وذلك قوله:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82]؛ فيجوز أن يكون المراد بالأمر في قوله: { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ }: أمر التكوين، ومعناه: ما وصفنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
أي: لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السماوات والأرض، وما جرى من التدبير فيهما أن من بلغت قدرته هذا المبلغ كانت قدرته ذاتية، لا يعجزه شيء عما أراده.
أو يدل هذا التدبير أنه خرج عن عالم لا يخفى عليه شيء، والله أعلم.
قوله: { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يحتمل أوجها:
أحدها: أن الله تعالى [على] خلق فعل كل فاعل من خلائقه قدير.
ووجه ذلك: أن الله تعالى قد كان أعلمهم بخلق السماوات والأرضين بقوله: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } فلما قال: { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، لم يكن بد من أن يكون هذا في غير خلق السماوات والأرضين؛ فثبت أن فيه دلالة قدرته على خلق فعل كل مخلوق.
ولأنه لما بلغ قدرته وتدبيره في السماوات والأرضين مع عظم أمرهما وشأنهما، ومع عجز البشر عن تدبير مثلهما؛ فلأن يبلغ قدرته وتدبيره فيما يقع فيه تدبير البشر - وهو أفعالهم - أحق، والله المستعان.
ووجه آخر: أن يقول: { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بما وعد وأوعد أو على كل شيء من منافع العباد [ومضارهم قدير]، وعلى قول المعتزلة: إن الله تعالى لا يقدر على فعل بعوضة فما فوقها، ولا يقدر على إصلاح أحد من خلقه وإن أنفد جميع خزائنه، وإن من صلح فإنما يصلح بنفسه، ومن فسد فإنما يفسد بنفسه؛ وهذا خلاف ما وصف الله به نفسه من أنه على كل شيء قدير.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }.
يعني: أن علمه لا يشذ عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء من الفعل والأمر وغيره، والله أعلم.