التفاسير

< >
عرض

ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ
١٠
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
١١
وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ
١٢
-التحريم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ }.
فجائز أن هذا المثل لمكان الكفرة الذين لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم اتصال من حرمة القرابة، فكانوا يطمعون منه الشفاعة في الآخرة إن كان الأمر على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛ لأنهم عرفوه بالشفقة والرحمة على الخلق جملة، فكيف يدع شفقته ورحمته على قرابته وهو يراهم يترددون في الهلاك؟!
فبين لهم شأن امرأة نوح وامرأة لوط وما كان بينهما وبين نوح ولوط - عليهما السلام - من الاتصال؛ لئلا يغزوا باتصالهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وجائز أن يكون هذا في بدء الإسلام، في الوقت الذي يتفرد الآباء بالإسلام دون الأبناء، والأبناء دون الآباء؛ فيكون المثل لمكان أولئك الذين التزموا وداوموا عليه، ولم يتبعوا آباءهم وأبناءهم فيقول: لا ينفع من دام على الكفر إسلام من أسلم منهم، وإن كان بينهما قرب من جهة الأبوة والبنوة؛ لأن رحمة الإنسان وشفقته على زوجته أكثر من شفقته على من ذكرنا، وكذلك الاتصال، فإذا لم ينفعهما إسلام زوجيهما، فكذلك لا ينفع أولئك الذين داموا على الكفر إسلام من أسلم من آبائهم وأبنائهم.
وجائز أن يكون هذا المثل؛ لمكان أهل النفاق فيما أظهروا موافقة المؤمنين، وأسروا الخلاف لهم، فيخبر أنه لا ينفعهم إظهار موافقتهم في الدين إذا كانوا على خلافه في التحقيق؛ كما لم ينفع زوجتي نوح ولوط - عليهما السلام - إظهار الموافقة منهما لزوجيهما إذا كانتا على خلافهما في السر، والله أعلم.
قال أبو بكر الأصم: في هذه الآية دلالة أن صلاح الصالح لا ينفع للطالح؛ كما لم ينفع صلاح نوح ولوط - عليهما السلام - للزوجين إذا كانتا في أنفسهما فاسدتين، وأراد بهذا نفي الشفاعة لأهل الكبائر.
وليس كما ذكر؛ لأن هذا المثل ضرب للكافرين لا للعصاة؛ إذ لم يقل: "ضرب الله مثلا للذين عصوا"، فليس له تعلق في هذه الآية.
ثم قد نجد صلاح الصالح في الشاهد ينفع الطالح وإن لم ينفع الكافر؛ لأن المرء قد يكون له زوجة طالحة تمتنع عن كثير من الشرور؛ لمكان زوجها إذا كان زوجها من أهل الصلاح والبر؛ وكذلك الولد ينفعه صلاح والديه في الدنيا؛ إذ بخشيتهما ينتهي عن كثير من المناهي لصلاحهما، فقد نفعه صلاح والديه ونفعها صلاح زوجها، فجائز أن ينفع الطالح أيضاً في الآخرة صلاح الصالحين، وأما الكافر فهو لم يمتنع عن الخلاف لمكان أبويه ولا لمكان أحد من الخلق؛ فلم ينفعه إسلام أبويه ولا صلاحهما في الدنيا فكذلك لا ينفعه في الآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ }.
أي: فخانتاهما في الدين.
ومنهم من يذكر أن خيانة امرأة نوح هي أن أخبرت قومه بجنون زوجها، وكانت خيانة امرأة لوط هي أن أخبرت قوم لوط بشأن أضيافه.
ولكن إن كان هذا صحيحا، فهو يرجع إلى الأول؛ لأن الذي حمل كل واحدة منهما على الإخبار بما أخبرت موافقَتُهَا أولئك القوم وخلافها لزوجها في الدين، ولا يجوز أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء.
وذكر بعضهم: أنهما زنيا، فخيانتهما زناهما، وهذا غير ثابت؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - عصموا عما يوجب عليهم العار والشنار، والزوج يعير بزنى زوجته وفراشه، وفيه توهم التهمة في أولادهم؛ فدل أن هذا التأويل غير صحيح، وحاجتنا إلى وجود الخيانة منهما دون التفسير، ولا يجب أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء مزيداً في الحجة.
وقوله - عز وجل -: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ }.
وجه ضرب المثل بها هو أن يعلم المقهور تحت أيدي الكفرة أن لا عذر له في التخلف عن الإيمان بالله تعالى؛ إذ كانت امرأة فرعون مقهورة تحت يديه، وكانت بين ظهراني الظلمة، ولم يمنعها ذلك عن الإيمان بالله - تعالى - وعن التصديق [برسوله موسى] - عليه السلام -.
والثاني: أنها لم تشاهد من زوجها ومن القوم الذين بين ظهرانيهم سوى الكفر بالله تعالى، ثم الله تعالى بلطفه ألهمها الإيمان به فآمنت، وكانت امرأة نوح - عليه السلام - تحت نوح ولم تشاهد منه سوى الطاعة والعبادة لربه - جل وعلا - ثم لم ينفعها إيمانه وعبادته؛ ليعلم أنه لا ينفع أحدا إسلام أحد، ولا يضر أحدا كفر غيره، وإنما يصير مؤمنا بفعل نفسه كافرا بفعل نفسه.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ }.
وهي لم ترد بقولها: { ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً } بقيام الوجه الذي عرفت بناء زوجها وغيره من الخلائق، وإنما أرادت بقولها: { ٱبْنِ لِي }، أي اخلق لي بيتا في الجنة ولذلك لم يفهم أحد من قوله: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } ما فهم الخلق من النفخ في الأشياء، وإنما فهموا به الخلق والإنشاء، فما بال المشبهة فهموا من قوله تعالى:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29]، ومن قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54] ما فهموا من الاستواء المضاف إلى الخلق لولا ضعف اعتقادهم وجهلهم بصانعهم في التحقيق.
ثم الأصل أن ينظر في الأسماء التي هي أسماء الأفعال المشتركة فيما بين الخلق إذا أضيف شيء منها إلى الله تعالى، فنعرضها على الأسماء التي هي أسماء الأفعال المخصوصة لله تعالى، فما أريد بالاسم المخصوص من ذلك، فذلك المعنى هو المراد بالاسم المشترك؛ فالاسم المخصوص لفعل الله تعالى هو الخلق، إذ لا أحد من الخلائق يسمي أحدا من الخلائق: خالقاً، فيفهم بقوله { ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } أي: اخلق لي، ويفهم بقوله: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } الخلق والإنشاء، والذي يبين أن الأسماء [المشتركة يجب عرضها على الأسماء] المخصوصة ويفهم بها ما يفهم بالأخرى قوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [يونس: 22] ومعناه: هو الذي خلق سيركم في البر والبحر، وقال: { هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [غافر: 68]، يعني: هو الذي يخلق الموت والحياة، وقال: { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } [الرعد: 27] أي: يخلق الضلال { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [يونس: 25]، أي: يخلق هدايته، ومن حمل الأمر على ما ذكرنا سلم من الشبه كلها ووسواس الشيطان، وسلم من التشبيه، والله الموفق.
وفي هذا دلالة إيمانها بالبعث [والحساب.
ثم] من الجائز أن تكون وصلت إلى علم البعث والحساب بالتلقين، أو بنظرها وتفكرها في الحجج والبراهين.
وذكر أهل التفسير أنها قالت ذلك عندما عذبها فرعون، واختلفوا في صفة العذاب من أوجه، وحق مثله الإمساك عنه، وألا تشتغل بتفسيرها؛ لما يتوهم من قوع زيادة فيها أو نقصان على القدر الذي بين في الكتب المتقدمة، وهذه الأنباء جعلت حججا لرسالة نبينا - عليه السلام - على أهل الكتاب لما وجدوها موافقة للأنباء التي ذكرت في كتبهم، وإذا وقع فيها زيادة أو نقصان وجدوا فيه موضع الطعن في رسالته؛ فلهذا المعنى ما يجب ترك الخوض فيها والإعراض عن ذكرها.
[وذكر عن الحسن وغيره] أنه قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا وبُني له بيت في الجنة، فإن مات على الإسلام سكن البيت، وإن قبض كافرا ورثه غيره.
وهذا لا يحتمل؛ لأن الله - تعالى - إذا علم أنه يموت على الكفر فهو يبني له ذلك البيت كي لا يسكنه، ومن بنى لنفسه في الشاهد وهو يعلم أنه لا يسكنه، صار عابثا في فعله، وجل الله تعالى عن أن يوصف بالعبث.
وقوله - عز وجل -: { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }.
أي: نجني من شر فرعون وجوره، ومن عمله أي: من كفره؛ فيكون قولها: { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ } راجعا إلى نفسه، والآخر راجعا إلى عمله، { وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ } راجعا إلى قومه، فسألت النجاة عنهم جملة، لما كانوا يمنعونها عن عبادة الله تعالى، فكانت تخاف ناحيتهم، ولا تأمن وتخاف منهم، فسألت النجاة منهم؛ لتصل إلى عبادة ربها.
وقوله - عز وجل -: { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا }.
فأخبر عنها بإحصانها فرجها، وذلك بالأسباب، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس حجابا؛ لئلا يقع بصر الناس عليها، ولا يقع بصرها عليهم لتصل به إلى تحصين فرجها؛ قال الله تعالى:
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } [النور: 30]، وهم إذا غضوا الأبصار، وصلوا إلى حفظ الفروج؛ ففي الحجاب غض البصر، وفي غض البصر وصول إلى حفظ الفرج وإحصانه، وقال في آية أخرى: { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ } [آل عمران: 42]، وتطهيره إياها في أن طهرها من الفواحش والزنى، فأضاف الإحصان إليها في الآية الأولى، وأضاف التطهير هاهنا إلى نفسه، فوجه إضافة الإحسان إليها ما ذكرنا: أنها تكلفت الأسباب التي هي أسباب الموانع للزنى، الدواعي إلى الإحصان، وأضاف إلى نفسه التطهير؛ لأن وقوع ذلك وحصوله كائن به، ففيه دلالة أن كل فعل من أفعال العباد لا يخلو من أن يكون لله - تعالى - فيه صنع وتدبير.
وقوله - تعالى -: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا }.
أي: خلقنا فيه ما به تحيا الصور والأبدان.
وقوله: { فِيهِ }، أي: في عيسى، وقال في آية أخرى:
{ فَنَفَخْنَا فِيهَا } [الأنبياء: 91] أي: في نفس عيسى - عليه السلام - والنفس مؤنث.
ثم تشبيهه بالنفخ: أن الروح إذا خلق فيه انتشر في الجسد كالريح إذا نفخت في شيء انتشرت فيه.
أو التشبيه بالنفخ لسرعة دخوله فيما نفخ فيه كالريح، والله أعلم.
وقوله: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا }.
فجائز أن يكون الكلمات هي التي بشرت بها مريم من قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ } [آل عمران: 45]، وقوله: { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } [آل عمران: 43]، وقوله: { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ } [آل عمران: 42]، وقوله: { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [مريم: 25]، فصدقت بجملتها أنها من عند الله، لا شيء ألقى إليها الشيطان.
أو { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي: بحجج ربها وبراهينه؛ لقوله:
{ وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } [يونس: 82]، أي: بحججه: وأدلته.
ثم تكون الحجج حجج البعث أو حجج الرسالة أو الوحدانية، أو يكون قوله: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا }، أي: بالكلمات التي يستعاذ بها من الشرور، فصدقت أنها تعيذ من تعوذ بها، والله أعلم.
وقوله - تعالى -: { وَكُتُبِهِ }، وقرئ { وكتابه }.
وفي تصديقها بالكتاب تصديق منها بالكتب؛ لأن من آمن بكتاب من كتب الله تعالى، فقد آمن بسائر كتبه؛ لأنها يوافق بعضها بعضاً، ومن آمن بكتبه فقد آمن بكل كتاب له على الإشارة إليه؛ فثبت أن في الإيمان بكتاب إيماناً بسائر الكتب، فكل واحدة من القراءتين تقتضي معنى القراءة الأخرى؛ فإن قوله: { بكتابه } أي: بالإنجيل، وقوله { بكتبه } أي: بالإنجيل وسائر الكتب المتقدمة المنزلة من عند الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ }.
قيل: من المصلين؛ لأنه قال في آية أخرى:
{ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [آل عمران: 43] وإذا وصف الصلاة، فالتزمت هذا الأمر؛ فصارت من القانتين.
وقيل: أي: من المطيعين لربها، والله أعلم بالصواب.