التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢٢
-الملك

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا... } الآية.
وإذا ذلل لكم الأرض؛ لتمشوا في مناكبها، وتأكلوا من رزقه، فلا يجوز أن يكون خلقاً عبثا باطلا، فلا بد من الرجوع إليه، ليسألكم عما له خلق، أوفيتم بالذي خلق له، أو لم تفوا؛ وذلك أن المرء في الشاهد إذا أعطى إنسانا مالا استعمله في جهة من الجهات، فلا بد من أن يرجع إليه فيسأله هل استعمله في الذي أذن له فيه أم لا؟
وإذا ثبت أنه لم يخلقها عبثا باطلا، وإنما خلقت للمحنة؛ فلا بد من أن ينشروا إليه؛ ليخبروه عما بلاهم به وامتحنهم.
ثم احتمل أن يكون هذا صلة قوله:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ } [الملك: 2]، وقوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [الملك: 3] فخلق تلك [الأشياء] كلها؛ ليمتحن أهلها [بها]، فعلى ذلك خلق الأرض ذلولا ليبلوكم بها.
ويحتمل أن يكون هذا صلة قوله:
{ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } [الملك: 3] فأمر هناك بالنظر مرة بعد مرة هل ترى فيه تفاوتا أو فطورا؛ ليتبين عنده إذا لم ير فيه تفاوتا ولا فطورا وحدانية الرب وقدرته وسلطانه وحكمته، فأمرهم - أيضاً - بالمسير في الأرض والمشي في مناكبها وهي أطرافها - هل يرون فيها فطوراً أو تفاوتا؟ فإذا لم يروا فيها شيئا من ذلك، تقرر عندهم بجميع ما ذكرنا من الحكمة هناك، فهو في قوله: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } موجود؛ ولأنه ذكرهم لطيف خلقه وتدبيره في خلق الأرض، وما له على الخلق من [عظيم النعمة] في حقهم، وهو أنه قدر لهم فيها أرزاقهم إلى حيث يمشون فيها، وهيأ لهم الرزق هنالك، ولا يحتمل أن يذلل لهم الأرض؛ فيضربون فيها حيث شاءوا ويستخرجون منها أقواتهم أينما تصرفوا عبثا باطلا، بل لا بد أن يستأديكم شكر ما أنعم عليكم به.
وقوله - عز وجل -: { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }.
هذه الآية في موضع المحاجة على منكري البعث، فكأنه يقول - والله أعلم -: إذا أنكرتم البعث وقد عرفتم الفرق بين العدو والولي وبين المطيع والعاصي، فكيف أمنتم عذابه في الدنيا أن ينزل بكم من فوق رءوسكم أو من تحت أرجلكم.
أو قد عصيتموه وعاديتموه بتكذيبكم رسوله واختياركم عبادة غيره، فكيف أمنتم نزول عذاب عليكم في حالتكم هذه، وأنتم لا تقرون بالآخرة؛ ليتأخر عنكم العذاب؟!
ثم قوله: { أَءَمِنتُمْ } أي: قد أمنتم.
والثاني: أنكم كيف أمنتم عذاب الله تعالى وأنتم تنكرون البعث؛ لتكون المحنة في الدنيا للجزاء في الآخرة، وهم يرون المحنة في الدنيا للجزاء في الدنيا؛ لأنهم كانوا يزعمون أن من وسع عليه في رزقه والنعيم في الدنيا فإنما وسع جزاء لعمله، ومن ضيق عليه العيش فإنما ضيق عقوبة له بما أساء من عمله، كما قال الله تعالى:
{ فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [الفجر: 15-16]، فكانوا يعدون التضييق والتوسيع في الدنيا جزاء لصنيعهم، وكانوا يقرون بالمحنة في الدنيا، والمحنة تكون من الرجاء والخوف، وقد رجوتم إنزال الرزق عليكم من السماء، ورجوتم أن يخرج لكم من الأرض ما تتعيشون به وترزقون منه؛ فكيف لا تحذرون نزول العذاب عليكم من السماء أو إتيانه من الأرض، كما رجوتم النفع منهما جميعاً؟!
والثالث: أنكم إذا أنكرتم الرسول وجحدتموه، وقد انتهى إليكم حال من سبقكم من مكذبي الرسل، كيف عذبوا واستؤصلوا: فمنهم من أهلك بإمطار الحجارة [عليه من السماء]، ومنهم من أهلك بالخسف بالأرض، فكيف أمنتم أنتم أن ينزل عليكم ما نزل بهم وقد أوجدتم أنتم وتعاطيتم ما تعاطاه الذين أهلكوا من التكذيب؟!
ثم [قوله]: { مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } أراد نفسه تعالى، أخبر أنه إله السماء، لا على تثبيت أنه في الأرض سواه وعلى النفي أن يكون هو إله الأرض، بل هو في السماء إله وفي الأرض إله؛ وهو كقوله تعالى:
{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [المجادلة: 7] ليس فيه أن النجوى إذا كانت بين اثنين فهو لا يكون ثالثهم.
وجائز أن يكون قوله: { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } أي: أأمنتم [من] في السماء ملكه وسلطانه، ولم تروا أحدا انتهى ملكه إلى السماء، فكيف تأمنون ممن بلغ ملكه السماء [؛ فكيف تأمنون مكره وتعادونه، وأنتم لا تجترئون على [معاداة] ملك من [ملوك الأرض] الذي لا يجاوز ملكه الأرض؛ هيبة منه وخوفاً من سلطانه، فكيف تأمنون عذاب من بلغ ملكه ما ذكرنا؟!
وقوله - عز وجل -: { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }.
قيل: تهوي في الأرض أبداً إلى أسفل السافلين.
وقيل: تمور بأهلها في قعرها على ما كانت من قبل تمور على ظهرها قبل أن توتد بالجبال، والحاصب: الحجارة.
وقوله - عز وجل -: { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }.
أي: ستعلمون حال نذري الذين أنذروكم بالعذاب أنهم كانوا محقين فيه ولم يكونوا كاذبين كما زعمتم.
أو ستعلمون ما أنذركم به إذا وقع العذاب.
وقوله: { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ }.
يذكرهم حال من تقدمهم من المكذبين وما حل بهم من النكير؛ ليرتدعوا عن التكذيب؛ فلا يحل بهم ما حل بأولئك.
ثم قوله: { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي: كيف كان إنكاري عليهم أليس وجدوه شديدا وحقّاً؟!
وقوله - عز وجل -: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ }.
قيل: صافات بأجنحتها لا يتحرك منها شيء، ويقبضن فما يمسكهن إلا الله تعالى في الحالين جميعاً، أعني: القبض والبسط.
وقال في آية أخرى:
{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأََيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل: 79]، [والجو: هو الهواء.
ثم قوله: { لأََيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }]، أي: لآيات للمؤمنين على الكفرة، وهكذا شأن الآيات إنما جعلت آيات للمؤمنين والأولياء على الكفرة والأعداء؛ لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين؛ ليحتجوا بها على أهل الكفر.
ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء مثل السماء والأرض فيما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء ويقر عليهما الخلائق، وإذا كان كذلك [فإن الله] تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها ووقت قبضها في الهواء، ومن قدر على إمساك الطير مع ثقله وتقريره في مكان لا تقر فيه الأشياء، لقادر على ما يشاء.
ثم في هذه الآية إنباء: أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء؛ لأن الفعل الذي يوجد من الطائر الطيران إذا طار والوقوف إذا قبض، ثم أضاف فعل الإمساك؛ وكل ذلك إلى نفسه.
وذكر عن جعفر بن حرب في قوله:
{ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النحل: 79]: أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه؛ لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم؛ يقول الرجل لآخر فيما يعلم الرماية: أمسكت على يده حتى رمى، فيريد به، أي: توليت تعليمه الرماية، فقوله: { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } أي: ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا الله تعالى؛ وكذلك وقت القبض.
والجواب عن هذا أن القائل يقول: (أمسكت على يده حتى رمَى)، إنما يستجيز إطلاق هذا اللفظ من نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما يهم الرامي بالرمي، وأما إذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك، لم يستقم أن يقال: أمسكت على يده، وإن كان هو الذي علمه الرمي؛ ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة إذا خاط ثوباً، لم يستجز أستاذه أن يقول: أنا الذي خطته، وإن كان هو الذي علمه الخياطة؛ وكذلك من بنى بناء، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه؛ فيقول: أنا الذي بنيته، ويريد به: أنا الذي علمته، وإذا لم يستقم هذا، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى الله تعالى، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم، فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة، فيقال: خائط وبانٍ وحائك؛ لأنه هو الذي علم، وإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال وإن كان هو الذي علم الخلق، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك من حيث التعليم، والله الموفق.
واحتج جعفر بن حرب - أيضا - في نفي الفعل عن الله تعالى، فقال: إن الله - تعالى - لم يقل: ما خلق طيرانهن إلا الله ولا خلق القبض إلا الله، وإنما قال: { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ }، فثبت أنه لا صنع له في الإمساك، وبان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا.
فالجواب عن هذا: أن الأمة فهمت من قوله: { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } ما يفهم من قوله: ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا الله؛ إذ هو يقتضي ما يقتضيه ذكر الخلق، وإذا كان كذلك، فلا فرق بين أن يضيف الخلق نفسه، وبين أن يضيف فعل الإمساك، ثم لو ذكر الخلق مكان الإمساك، أمكن [جعفرا أن يتأول] في الخلق ما تأول في الإمساك، فيقول: معنى قوله: خلق طيرانهن، أي: علم طيرانهن، وقوَّاهن على الأسباب التي بها تطير، فلا يتهيأ لله تعالى على قوله أن يثبت لخلقه و [لا] يقرر عندهم خلق شيء من الأشياء.
ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن إنما ذكرت لإثبات أوجه خمسة:
أحدها: في تثبيت القدرة على البعث، وهي لا تثبت القدرة، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة؛ وذلك أن الله تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث بقدرته على ابتداء الخلق، فقال:
{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } [يس: 77]، وقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27]، [فاحتج بأمر الابتداء] على تثبيت القدرة على الإعادة، [وليس فيه ما يثبت القدرة على الإعادة] عندهم؛ لأنهم نفوا خلق الأفعال عن الله تعالى مع إقرارهم أن الله تعالى هو الذي ابتدأ الخلائق، وهو الذي أنشأهم، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان إثبات قدرة منه على خلق الأفعال، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق على تثبيت القدرة على الإعادة، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها أوجد منه في أمر البعث؛ وذلك أنك تجد من الأفعال أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة، ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا بها ويتمتعوا بها؛ فثبت أن لغيرهم فيها تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك؛ ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال لا تبلغها أوهامهم ولا تقدرها عقولهم؛ لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ما لا تقدره الأوهام ولا تبلغه العقول؛ فثبت أن لغيره فيه صنعا وتدبيرا؛ ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن، لا [يبلغ علم] فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ، وينتهي في الحسن مبلغا لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك، فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليه ليست لهم، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ولا وجد فيه التدبير؛ فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال، ولم يوجب القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء؛ فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها الله تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم.
والوجه الثاني: في تثبيت الوحدانية، وجعل دليل وحدانيته توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } [الرعد: 16]، وقال: { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [المؤمنون: 91]، وعلى قول المعتزلة: هو غير متوحد بخلق الأشياء، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا بالله تعالى، وإذا لم يوجد منه التوحد والتفرد بخلق الأشياء ارتفع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ووحدانيته، وإذا كان كذلك، لم تثبت وحدانية الله تعالى - على قولهم - من الوجه الذي جعله دليل الإثبات.
والوجه الثالث: وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة الله تعالى، وجعل دليل حكمته خلق السماوات والأرضين وغيرهما من الأشياء، ونحن إنما عرفنا خلق السماوات والأرضين بما شاهدناهما مجتمعين، والاجتماع حادث فيهما، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث، والحادث لا بد له من محدث، ولولا ذلك لم نعرفه ولا يثبت لنا خلقهما، وعلى قول المعتزلة: الجمع والتفريق لا يدل على الخلق؛ لأن كل من له القوة يقدر على جمع الأشياء وتفريقها، والاجتماع والتفريق فعل الجامع والمفرق؛ لقولهم بالمتوالدات، فمن استحكمت قوته أمكنه جميع الأشياء؛ لقوته ومن ضعفت قوته جَمَعَ على قدر ما ينتهي إليه قوته، وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم: إن الله - تعالى - هو الذي خلق السماوات والأرضين؛ إذ خلقهما لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا؛ وذلك مما [لا] يجوز تحققه إلا بالله تعالى.
وجائز أن يكون الله تعالى أقدر ملكا من ملائكته وقواه على خلق السماوات والأرض، وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا: أن الله تعالى هو الخالق لهما؛ فبطل أن يكون في خلق السماوات والأرضين وفي خلق سائر الأشياء - دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته، وقد جعل الله تعالى خلقهما دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها.
والثاني: أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به، ثم لم يجعل الله - تعالى - لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته، بل صار دليلا على عجزه وضعفه، حيث لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك؛ ولأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ويتبين ما له مما ليس له، ومن قولهم: إن الله تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه، مع علمه أنه لا يؤمن به، وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد؛ لأن المرء إذا قام بسقي أرض وعمارتها بالكِرَاب والبنيان وألقى البذر فيها مع علمه أنها لا تنبت شيئاً عد ذلك منه سفهاً وجهلاً، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيماً، وقال - تعالى -:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2]، وعلى قول المعتزلة: قد خلق غيره الحياة والموت جميعاً؛ لأن القتيل ميت بالاتفاق، ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله - تعالى - في موته صنعاً، ويزعمون أنه مات قبل أجله، فإذا قدر غيره على الإماتة، ويقدر غيره أيضاً على الإحياء بالأسباب؛ لأنه يسقي الأرض والزرع ويكون في سقيه إحياؤها، فلم يتفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم، بل شركه غيره في خلق الأشياء، فيبطل امتداحه - على قولهم - نفسه بأنه خالق الأشياء.
والوجه الرابع: أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال، وذلك قوله:
{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 14]، وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال، وإذا انتفى لم يقع له بها علم؛ فصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم، ويكون فيه كذب في الخبر، تعالى الله عن ذلك.
والوجه الخامس: أنه سمى نفسه: محسنا منعما، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه، وما من نعمة أنعم بها على العباد إلا وقد كانوا لها مستوجبين على الله تعالى؛ فيصير الله تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة، ومن قضى آخر حقّاً كان [عليه] لم يصر به منعما مفضلا، وإنما صار قاضي حق، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مثبتة على قولهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
قوله - عز وجل -: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }.
أي: بكل شيء لَطُفَ أو جل أو استتر أو ظهر أو اختلط بغيره أو تميز، فهو بصير يبلغه إلى أجله الذي ضرب له، ويأتيه بالرزق الذي قدر له.
أو بصير بأفعال الخلق ما كان وما يكون؛ لأنه ذكر على أثر ذكر الأفعال، وهو قوله:
{ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 13-14].
ثم في قوله: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } ترهيب وترغيب وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر؛ وكذلك في قوله: أنه
{ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [هود: 57] و { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 29]؛ لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا يعلم بكل شيء يتعاطاه فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال والمرضي منها.
وقوله - عز وجل -: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ }.
فهذا صلة قوله: { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ }، وقوله: { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً }، ثم قال: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } إذا خسف بكم الأرض وأرسل عليكم حاصبا من السماء.
وجائز أن يكون على التقديم والتأخير؛ فيكون معناه: أمن هذا الذي هو جند لكم من دون الرحمن ينصركم من عذاب الله إن حل بكم.
أو يكون قوله: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } يدفع عنكم العذاب من دون الله إذا حل بكم.
وجائز أن يكون أريد بالجند: آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، فكانوا يعبدونها لتنصرهم ويعزوا بها؛ قال الله - تعالى -:
{ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [مريم: 81]، وقال: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [يس: 74]، ثم هم قد علموا أنها لا تقوم بنصرهم ولا تدفع الذل عنهم فيعزوا بها؛ لأنهم كانوا يفزعون إلى الله تعالى عندما يحل [بهم الشدائد] والذل، كما قال - تعالى -: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } [الزمر: 8]، ويتركون الفزع إلى آلهتهم؛ لعلمهم أنها لا تعزهم ولا تنصرهم، فذكرهم في حالة الأمن ما قد عرفوا وقوعه في حالة الخوف؛ لينقلعوا عن عبادة الأصنام ويقبلوا على عبادة رب الأنام؛ ليدفع عنهم الشدائد والأهوال والآلام إذا حلت بهم من خاص أو عام، ويقوم بعزهم إذا لحقهم الذل.
وقوله - عز وجل -: { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ }.
أي: اغتروا في عبادتهم آلهتهم؛ لتقوم بنصرهم وعزهم، مع ما علموا أنها لا تدفع عنهم شدة ولا تحصل لهم عزّاً.
وقوله - عز وجل -: { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }.
هم كانوا يرجون رزقهم من السماء والأرض، فيقول: من [ذا] الذي يرزقكم إن لم يرسل عليكم من السماء مطرا، ولا زلل لكم الأرض للنبات.
وقد علموا أيضاً أن لا رازق لهم غير الله تعالى؛ لأنهم كانوا يفزعون إليه بالسؤال للرزق عندما يبلون بالقحط والجدوبة، فذكرهم في حال السعة ما له عليهم من عظيم النعمة في توسيع الرزق عليهم؛ ليشكروه ولا يكفروه.
وقوله - عز وجل -: { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }.
فالعاتي: هو المارد الشديد السفه؛ فكأنه يقول: لجوا وعتوا في قبول الحق، وتمادوا في طغيانهم، ولم يتذكروا ولم يراقبوا الله تعالى، ولم يشكروا له، بل بعدوا عن قبول ذلك كله، فقوله: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ }، وقوله: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ } يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدها: على التخويف والتهويل.
والثاني: على التنبيه والتذكير، وتسفيه أحلامهم.
والثالث: على البشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر له [وبإجابة دعوته] على أهل الكفر.
فوجه التنبيه والتذكير وتسفيه الأحلام ما ذكرنا: أنهم قوم كانوا يعبدون الأصنام لتنصرهم وتعزهم في الدنيا، وليبتغوا به الرزق من عندها؛ إذ هم كانوا لا يؤمنون بالبعث؛ ليطلبوا بعبادتها عين الآخرة والنصر فيها، وإنما كانوا يطمعون ذلك منها في الدنيا، ثم هم في الدنيا كانوا إذا نزلت بهم الشدة والفزع تضرعوا إلى الله تعالى، كما قال:
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67]، ولم يكونوا يفزعون إلى أصنامهم؛ فكيف اتخذوها جندا ينصرهم عند النوائب، وقد أحاط علمهم أنها لا تنصرهم ولا تغني عنهم من عذاب الله شيئاً؟! فيكون فيه تسفيه أحلامهم، وتنبيه من عذاب الله؛ ليمنعهم ذلك عن عبادة غير الله تعالى، ويدعوهم إلى عبادة من يملك دفع الشدائد عنهم إذا حلت بهم.
وأما وجه التخويف، فهو: أنه يجوز أن يكون قيل لهم هذا عندما ابتلوا بالشدائد وضيق العيش، فيقول لهم: استنصروا من آلهتكم واسألوا الرزق من عندها، هل يملكون لكم رزقا أو يدفعون عنكم ذلا، وهل يقوون على نصركم؟!
وجائز أن يكون فيه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر له [وبإجابة دعوته] وقد وجد النصر له؛ لأنه غلب عليهم يوم فتح مكة، ولم يتهيأ لأهلها أن ينتصروا، بل غلبوا وقهروا وفاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلبة والقهر ومن كان معه حتى استكانوا ولانوا وتضرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى دعا لهم، وابتلوا أيضاً بالقحط والسنين؛ بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رفع الله عنهم القحط.
وقوله - عز وجل -: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
ففي هذه الآية تذكير وتنبيه وتخويف وتهويل وتعريف حال هي على خلاف ما هم عليها في الحال.
ثم ذكر الصراط في الذي يمشي [سويّاً، ولم يذكر الصراط في الذي يمشي] مكبّاً، فهو على الإضمار كأنه يقول: أفمن يمشي مكبّاً على غير الصراط أهدى، أمن يمشي سويّاً على [صراط مستقيم]؟! فيكون هذا تذكيراً وتنبيهاً وتسفيهاً لأحلامهم؛ لأن الذين آثروا الإيمان وسلكوا طريقه، فإنما سلكوا بالحجج والبراهين، والذين آثروا الكفر آثروه من غير حجة، بل حيرتهم وسفههم هما اللذان دعواهم إلى التزام الكفر [والتدين به]، ومن آثر [الحيرة والعمى] على الهدى والرشاد فهو سفيه.
وجائز أن يكون قوله: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ } أي: أهدى طريقا، أم الذي يمشي سويا على صراط مستقيم، وحق هذا الكلام أن يقال: بل الذي يمشي على صراط مستقيم هو الأهدى من الذي يختار الطريق المعوج الزائغ عن الرشاد، فيكون في الوجه الأول معنى التخويف والتذكير والتنبيه جميعاً، وفي الوجه الثاني تذكير وتنبيه.
وقولنا بأن فيه تعريف حَالٍ خلاف الحال التي هم عليها: أن كل واحد من الفريقين - أعني به: أهل الإسلام وأهل الكفر - يزعم أنهم على الهدى، والفريق الآخر على الضلال، وإذا اتفقت الدعاوي على تضليل أحد الفريقين، ثم لا بد أن يكون جزاء الضال غير جزاء المهتدي، وجزاء الولي غير جزاء العدو.
ثم الدنيا تمر على الفريقين على جهة واحدة؛ فلا بد من تثبيت دار أخرى، والقول بها للجزاء، فيكون فيما ذكروا إيجاب القول بالبعث والإقرار به؛ فهذا الذي ذكرنا هو يعرفهما خلاف الحالة التي هم عليها؛ ولأن الذي يمشي مكبا على غير الطريق هو الأعمى الذي لا يبصر، [و] المقعد الذي لا يقوى على المشي، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو الذي ليست به زمانة ولا به عمى يمنعه عن الصراط؛ فيكون قوله: { يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ } هو الأعمى، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو السميع البصير؛ فيكون معناه ما قال في سورة هود:
{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [هود: 24].