التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }.
قيل: تعالى وتعاظم، و { تَبَارَكَ } تفاعل من البركة، والبركة كناية عن نفي كل عيب؛ قال - عز وجل -:
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً } [ق: 9] أي: ماء لا كدورة فيه ولا قذر، بل هو ماء مطهر من كل آفة وعيب، فمعنى قوله: { تَبَارَكَ } أي: تعالى من أن يكون له شبيه وعديل، وتعاظم عما قالت فيه الملاحدة ومن أن يلحقه المعايب والآفات.
وقوله: { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }.
أي: الذي له ملك الملك؛ لأنه قال في موضع آخر:
{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26] [أي: الذي له الملك]، فذكر اليد هاهنا مكان المالك هناك؛ فامتدح - جل وعلا - بملك الملك وكونه مالكا له.
والمعتزلة يقولون بأن مِلْكَ مُلْكِ الكفرة ليس له، وأنه لا يولي الملك للكافر، ويقولون في قوله:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } [البقرة: 258] أن الذي آتاه الله الملك هو إبراهيم - عليه السلام - والهاء تنصرف إليه، لا إلى الذي حاجه، وإذا لم يجعلوا مِلكَْ مُلْكِ الكافر في يده، لم يصر ممتدحا بما ذكرنا؛ لأنه يكون في يده بعض الملك لا كله، وقال في آية أخرى: { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } [آل عمران: 26]، وعلى قولهم يصير الملك في يد من لا يشاء؛ لأنه لا يشاء الملك للكافر، ومع ذلك يوجد فيهم الملك.
ثم ما ينبغي لهم أن يقطعوا القول بأن الله تعالى لا يؤتي الملك للكافر، بل عليهم أن يقولوا: إن كان إيتاء الملك أصلح لهم آتاهم إياه، وإن كان شرّاً لهم لم يؤتهم؛ إذ من مذهبهم أن الله لا يفعل بعبده إلا [ما هو الأصلح] له في الدين والدنيا في حقه، فهذا جملة اعتقادهم، ثم هم لا يعرفون الوجه الذي صار أصلح في كل شيء على الإشارة إليه؛ لأنهم يقولون: في إبقاء إبليس اللعين إلى اليوم المعلوم صلاح، وإن كنا لا نعرف الوجه الذي لأجله صار أصلح، وإفناء الأنبياء والرسل - عليهم السلام - كان أصلح وإن لم نعرف من أي وجه صار أصلح؟! فليقولوا هاهنا بأن إيتاء الملك إن كان أصلح لهم لم يكن له إلا يؤتيهم، وإن كان شرّاً فعليه ألا يؤتيهم؛ لئلا يجعلوا الأمر على النفي.
ثم الملك اسم عام، وهو عبارة عن نفاذ التدبير والسلطان والولاية، والملك هو أن يكون للمالك خاصة في الشيء، لا يتناول من ذلك الشيء إلا بإذنه، وقد يكون المرء مالكا، وليس بملك، وقد يكون ملكا ليس بمالك، فكل واحد من الوجهين يقتضي معنى [غير ما] يقتضيه الآخر.
وجائز أن يكون [تأويل] قوله: { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }، أي: ملك كل من ملك من أهل الأرض بيده؛ لأنه إن شاء أبقى له الملك، وإن شاء نزعه؛ فما من ملك في دار الدنيا إلا وملكه في الحقيقة لله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
امتدح نفسه تعالى [بأنه على ما يشاء قدير، وذلك من أوصاف ربوبيته أيضاً ومن قول المعتزلة]: إنه على أكثر الأشياء غير قدير؛ لأنهم يجعلون المعدوم شيئاً؛ فشيئية الأشياء كانت بأنفسها لا بإنشاء الله تعالى، ويجعلون ظهورها بالله - تعالى - فقط، وإذا كان كذلك فإنه لم يصر قادرا على شيئية الأشياء، وكذلك ينفون الخلق والقدرة على أفعال العباد.
ومن قولهم - أيضاً - إن إقدار العبد بيد الله، وإذا أقدر عبداً من عبيده على الهداية، خرجت القدرة من يده؛ فتصير هذه القدرة مستفادة لا ذاتية، وإذا كان كذلك فقد نفوا عنه القدرة عن أكثر الأشياء، فلا يصير هو قادرا على كل شيء، وإنما هو قادر على البعض، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }.
قال أبو بكر الأصم: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ } أي: خلقكم أمواتا: نطفة وعلقة ومضغة، ثم أحياكم { لِيَبْلُوَكُمْ }.
وقال غيره: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ } ليجزيكم بعده، والحياة؛ ليبتليكم بها، واستدل بقوله - تعالى -:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7]، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض، وهي حالة الحياة، [ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم] صعيدا جرذا بعد الابتلاء بقوله: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [الكهف: 8].
وعندنا: أنه خلقهما جميعا للابتلاء؛ لأن الله - تعالى - خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس، وتنفر عنه، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها، والمحنة في الترغيب والترهيب، فثبت أن في خلق الموت محنة؛ فيكون قوله - تعالى -: { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } كأنه يقول: خلق الموت مرهبا، وخلق الحياة مرغبة؛ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }، أي: ليبلوكم أيكم أرهب من الشر، وأرغب في الخير؟
ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد، ولا مخلص لمخلوق، وكذلك الحياة، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب، ولا مما يوجد بالكد والسعي؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة، [وصار الموت] مرهبا عن الموت الدائم، والموت الدائم هو العذاب الدائم، الذي لا ينقطع كما قال - تعالى -:
{ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم: 17]، أي: لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم، والحياة صارت مرغبة في مثلها، فنقوم بطلبه، ووجب القول بالبعث أيضاً؛ إذ الراغب إنما يصل [إلى] ما يرغب فيه بالبعث، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث.
وفي إيجاب القول بالرسالة؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة عن العذاب، وهما جميعاً غائبان، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم.
ثم الأصل في قوله - تعالى -: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [أنه إنما يحسن عمله] بحسن رغبته ويسوء عمله بسوء رغبته ورهبته، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء، ويعتبر بهما، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله، ومن لم يتفكر فيهما، ولم يعتبر بهما، ساء عمله، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين، وكذلك الدنيا وما فيها [أنشئت] دلالة على طريق الآخرة، فالسمع يدل على السمع، والبصر على البصر، وآلامها تدل على آلام الآخرة، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة، والله أعلم.
ثم قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [فيه دليل على إضمار قوله: وأيكم أسوأ عملا] على مقابلة الأول، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، والله أعلم.
فإن قال قائل: كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله: { لِيَبْلُوَكُمْ }، والابتلاء في الشاهد؛ لاستظهار ما خفي، ولاستحضار ما غاب، والله تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟!
فجوابه أن نقول: إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا، وهذا كما أضيف [الاستدراج والمكر] إلى الله تعالى؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته، فيعتبر بإحسانك إليه، ثم تأخذه من وجه أمنه، ومن حيث لا يشعر به، هذا هو معنى المكر في الشاهد، وقد وجد الإحسان من الله تعالى إلى أعدائه، ووجد منهم الاغترار بالنعم، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم.
والثاني: أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود إليه، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى؛ لنفي مضرة تصل إليه، والله تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم لمنفعة يجلب بها إلى نفسه، أو لمضرة يدفعها عن نفسه، وإنما أمرهم ونهاهم؛ لمنافع ترجع إليهم ومضار تلحقهم، ثم أضيف إليه الأمر والنهي وإن كان لا منفعة له ولا مضرة عليه؛ فكذلك ابتلى خلقه؛ ليظهر للمبتلى عداوته وولايته، لا لتظهر له، وأضاف الابتلاء إلى نفسه وإن كان هو مستغنيا عن الابتلاء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ }.
ففيه إبانة أنه لم يبتلنا لمنفعة أو لعز يرجع إليه، أو لذل يدفع عنه، ولكن لعز يحرزه الممتحن إذا أحسن العمل وذنوب تغفر له وتستر عليه، وهو عزيز بذاته.
وجائز أن يكون معنى قوله: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ }، أي: القوي على الانتقام ممن ساء عمله، واختار عداوته، { ٱلْغَفُورُ }: الستور على من حسن عمله، يستر عليه ذنبه، ويجزيه بحسن عمله، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ }.
ففي ذكر السماوات السبع إيجاب القول بتصديق ما يأتي به الرسل؛ [لأن كون السماوات سبعا لا يعرف إلا من طريق] الخبر، وقد ثبت وجود هذا القول [على ألسن الرسل] وهذه الآية أثبتت تصديق ما يأتي به الرسل؛ فلزمنا القول [في السماوات] أنها سبع وإن لم تشاهد.
ثم يحتمل قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً }؛ ليبلو أهلها: أيهم أحسن عملا؛ لأنه بين أنه لم يخلق السماوات والأرضين باطلا، ثم السماوات بأنفسها لا تمتحن، وإنما يمتحن أهلها، لكنه اقتضى [ذكر السماوات] ذكر أهلها، واقتضى ذكر الأرض ذكر أهلها، فأخبر بذكر الأرض عن ذكر أهلها، وبذكر السماوات عن ذكر أهلها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ }.
أي: انظر في خلق الرحمن، هل ترى [فيه] من تفاوت أو فطور؟! فإنك إن رأيت فيه فطوراً، ظننت أن في مدبره عدداً، وإن رأيت فيه تفاوتا، ظننت في منشئه سفهاً، فإنك إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر، فعند ذلك يقع التدافع، وإذا لم ير فيه فطوراً أو شقوقاً، بل رآه متسقا مجتمعا؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه.
وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره؛ فيكون في ارتفاع [الفطور والتفاوت] إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء؛ لأن العدد إذا ثبت، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله.
أو يشتغل كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة؛ ألا ترى [إلى] قوله:
{ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [المؤمنون: 91] قيل: يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي خلقه؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله.
وقيل في قوله: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } أي: من حيث الدلالة على وحدانية الرب - تعالى - أو من حيث الحكمة والمصلحة؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها؛ لأن بين السماوات والأرضين تفاوتاً، وكذلك بين الحياة والموت تفاوت، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره.
وقوله - عز وجل -: { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ }.
فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه.
وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب.
أو يكون أحدهما على بصر الوجه، والثاني على بصر القلب.
والأشبه أن يكون على بصر القلب؛ لأنه قد سبق منه النظر إلى السماوات والأرضين ببصر الوجه، وسبق منه العلم من حيث النظر أنه لا تفاوت فيها ولا فطور، فدعاه إلى أن ينظر ببصر القلب؛ ليدله ذلك على المعاني التي ذكرناها؛ وهو كقوله - تعالى -:
{ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران: 137]، وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الروم: 9]، ولم يرد به السير بالأقدام؛ إذ قد سبق منهم السير فيها، ولكن معناه: أو لم يتفكروا في عواقب من تقدمهم من مكذبي الرسل أنهم بأي سبب أهلكوا؟ ولأي معنى عوقبوا واستؤصلوا؟
ثم قوله: { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ... } الآية منهم من قال: إن الكرتين هاهنا كناية عن مرة بعد مرة، ليس على تثنية العدد، فكأنه أمره أن يكون أبداً معتبرا ناظرا في خلق الرحمن؛ وإلى هذا يذهب الحسن والأصم.
وجائز أن يكون قوله: { كَرَّتَيْنِ } مرتين، ولكن على اختلاف الوقتين؛ فيكون أحد النظرين [بالليل] والآخر بالنهار؛ لأنه يرى بالليل آيات وبالنهار آيات سواها، وثبوت كل ذلك يدل على وحدانيته وعجيب حكمته ونفاذ قدرته وسلطانه.
أو أن تكون النظرة الأولى ببصر الوجه والنظرة الثانية ببصر القلب؛ لأنه إذا نظر النظرة الأولى ببصر وجهه، فرأى ما فيه من العجائب أشعر قلبه ما رأى، فينظر فيه مرة أخرى ببصر القلب؛ ليتأكد ذلك ويتكرر.
ويجوز أن يكون النظران جميعا ببصر الوجه؛ لأنه لا يستوعب النظر بالجملة في المرة الأولى؛ فينظر [مرة أخرى]؛ ليدرك ما غاب عنه في المرة الأولى.
وقوله - عز وجل -: { خَاسِئاً }.
أي: صاغرا مستسلما معترفا بالقصور عن درك كنه سلطانه والإحاطة بعظمته وجلاله.
{ وَهُوَ حَسِيرٌ }.
أي: منقطع عن درك بلوغ حكمته ونفاذ أمره.
ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر؛ لأنه إنما أراد بالنظر في خلق الله تعالى؛ ليتقرر عنده عظمة الله تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان تقرر عنده علم ذلك كله؛ فلم يكن يحتاج إلى النظر فيما ذكر؛ ليتقرر صرف النظر إلى المكذبين بالبعث، فأمروا بالنظر فيما ذكر؛ ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذ تدبيره، وأنه ليس بالذي يعجزه أمر وأن قدرته ليست بمقدرة بقوى البشر، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقرير الأمور بقوى أنفسهم، فإذا نظروا في هذه الأشياء وعرفوا فيها لطائف وحكماً لا تدركها عقولهم وقوة لا تبلغها حيلهم، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث؛ فيحملهم على الإيمان.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ }.
سماها: سماء الدنيا؛ لدنوها إلى المخاطبين الممتحنين، لا أن تكون السماء الثانية سماء الآخرة، والذي يدل على صحة ما ذكرنا: أن مقابل الآخرة ليست هي الدنيا بل مقابلها الأولى، ومقابل الدنيا القصوى؛ فثبت أن ليس فيها تثبيت أن السماء الثانية هي سماء الآخرة، والمصابيح هي النجوم، فذكر عباده عظم ما أودع من النعيم في النجوم عليهم، فجعل فيها ثلاثة أوجه من النعيم:
أحدها: أنه جعلها زينة للناظرين؛ كما قال - تعالى -:
{ وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16]، ثم هذه الزينة إنما تظهر عندما تخفى على الناظرين زينة الأرض، وذلك في ظلم الليالي؛ فأبدل الله لهم زينة في السماء مكان الزينة التي أنشأها في الأرض، وفضل هذه الزينة على سائرها؛ لأن سائرها لا يظهر إلا بالدنو إليها والقرب منها، ثم جعل هذه الزينة بحيث تظهر فترى من البعد؛ فثبت أن لها فضلا وشرفا على زينة الأرض.
والنعمة الثانية: ما ذكر في قوله:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [الأنعام: 97]؛ فجعلها هدى من ظلمات أحوال تقع فيسلم بها المرء عن الوقوع في المهالك.
والنعمة الثالثة: ما ذكر من قوله - تعالى -: { وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ }، وفي جعلها رجوما للشياطين رفع الاشتباه عن الخلق وإخراجهم من ظلمات الأفعال إلى النور، وذلك أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء؛ فيستمعون إلى الأخبار التي يتحادث بها أهل السماء، فيما بينهم مما يراد بأهل الأرض، فيسترقون السمع منهم، فيأتون بها أهل الأرض ويلقونها إلى أهل الأرض بعدما يخلطونها بأكاذيب من عند أنفسهم فيشبهون على الخلائق ويضلونهم بذلك عن سبيل الله تعالى؛ فملأ الله - تعالى - السماء بالحرس والشهب؛ ليدفعوا الشياطين عن استراق السمع؛ ليكون تبليغ الأخبار إلى أهل الأرض بمن يؤمن عليه الكذب، وهو الرسول - عليه السلام - فتسلم تلك الأخبار عن التخاليط والشبه؛ فيسلم الناس عن الوقوع في الظلمات.
ثم يكون في جعل النجوم زينة للسماء: أن أهل [السماء ابتلوا] أيهم أحسن عملا؟ كما ابتلي به أهل الأرض؛ ألا ترى إلى ما ذكر في أهل الأرض من قوله:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7] فأخبر أن الزينة للامتحان.
وقوله - عز وجل -: { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ }.
ففيه أنهم وإن عذبوا بالنيران التي جعلت في النجوم الرجوم، لا يدفع عنهم ما استوجبوا من العذاب الدائم، بل قد أعد لهم عذاب السعير، كما أعد لغيرهم من الشياطين وأهل الكفر.