التفاسير

< >
عرض

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
١٧
وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
١٨
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ
١٩
فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ
٢٠
فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
٢١
أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
٢٢
فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
٢٣
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
٢٤
وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ
٢٥
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ
٢٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٢٧
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
٢٨
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ
٣٠
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
٣١
عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ
٣٢
كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٣٣
-القلم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ }، فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون أهل مكة ابتلوا بالإحسان إلى أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ابتُلي أصحاب الجنة بالإحسان إلى المساكين ثم أخبر أن أولئك امتنعوا عن الإحسان إلى المساكين فحل بهم من البلاء ما ذكر؛ لامتناعهم عن الائتمار، فيذكر أهل مكة: أنهم إن امتنعوا عن الإحسان إلى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، حل بهم ما حل بأولئك، وقد وجد منهم الامتناع فابتلوا بسنين كسني يوسف - عليه السلام - حتى اضطروا إلى أكل الجيف والأقذار.
ثم إن أصحاب الجنة لما مسهم العذاب، وأيقنوا به أنابوا إلى الله تعالى، وانقلعوا عن مساويهم، فتاب الله عليهم ورفع البلاء عنهم، وأهل مكة تمادوا في غيهم ولم يتوبوا فانتقم الله منهم بالقتل يوم بدر في الدنيا، وسيردهم إلى العذاب في الآخرة.
وجائز أن يكون الله تعالى لما أعزهم وشرفهم وصرف وجوه الخلق إليهم، امتحنهم في الدنيا بتبجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فلما أساءوا صحبته عاقبهم بما ذكرنا، ووسع على أصحاب الجنة فامتحنهم بما وسع عليهم بأن يوسعوا على غيرهم، فلما امتنعوا عن ذلك عوقبوا بزوال النعمة عنهم، وعوقب هؤلاء بزوال العز عنهم، وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ }.
فقوله: { مُصْبِحِينَ } أي: لأول وقت ينسب إلى الصباح، وذلك يكون في آخر الليل، كما يقال: مُمْسِين، لأول وقت ينسب إلى المساء، وإذا كان كذلك فالانصرام يقع بالليل؛ ألا ترى إلى قوله: { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ }، وهم لا يملكون بعد مضي الليل منع المساكين عن الدخول.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ }.
قيل: أي: لا يقولون: إن شاء الله، وقيل: لا يقولون: سبحان الله، فإن كان على هذا، ففيه أن التسبيح كان مستعملا في موضع الاستثناء، وقد يجوز أن يؤدي معنى الاستثناء؛ لأن في التسبيح تنزيه الرب تعالى، وفي الاستثناء معنى التنزيه؛ لأن فيه إقرارا أن الله تعالى هو المغير للأشياء والمبدل لها.
ثم أصحاب الجنة بقسمهم قصدوا قصدا يلحقهم العصيان فيه، وكان عهدهم الذي عاهدوا عليه معصية وعوتبوا بتركهم الاستثناء، ففيه دلالة أن الله تعالى يوصف بالمشيئة، لفعل المعاصي ممن يعلم أنه يختارها؛ لأنه لو لم يوصف به، لم يكن لمعاتبته إياهم بتركهم الاستثناء معنى؛ إذ لا يجوز استعمال الاستثناء فيما لا يجوز أن يوصف به الرب جل وعز، ألا ترى [أنه] لا يستقيم أن يقال: إن شاء الله جار وإن لم يشأ لم يجر، وإن شاء ضل وإن شاء لم يضل، وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، فلو لم يوصف أيضاً بإضلال من يعلم منه أنه يؤثر الضلالة، لم يجز أن يلاموا على ترك الاستثناء، ولا مدخل للاستثناء فيه، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله:
{ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام: 39]؛ فتبين أنه يشاء إضلال من ذكرنا.
وفيه دلالة أن خلق الشيء غير ذلك الشيء؛ لأنه يستقيم أن يوصف الله تعالى بالإضلال، ولا [يجوز أن] يوصف بالضلال وإن كان الإضلال خلقاً له، ويوصف أنه المحيي والمميت، ولا يستقيم أن يقال: إن شاء حيا وإن شاء مات، وإن كان هو الذي خلقهما.
ثم ليس في قوله: { إِذْ أَقْسَمُواْ }: إبانة أن قسمهم كان بماذا: فإن كان بغير الله تعالى، ففيه إبانة أن القسم قد يكون بغير الله تعالى، وإن كان قسمهم بالله تعالى، ففيه حجة لأبي يوسف على أبي حنيفة - رحمهما الله - أن اليمين إذا كانت مؤقتة فإن هلاك الشيء المحلوف بها قبل مضي وقتها لا يسقط اليمين، بل تبقى بحالها، ويلزم على صاحبها حكم الحنث إذا مضى وقتها؛ لأن الثمر الذي حلفوا على صرمه قد هلك قبل الوقت الذي أوجب فيه الصرم، فلو كانت اليمين تسقط عنهم بهلاك الثمر، لم يكونوا يحتاجون إلى الاستثناء؛ لأن الحاجة إلى الاستثناء لإسقاط المؤنة التي تلزمهم بالحنث في اليمين، فلو كان هلاك الثمر مسقطا لليمين ومؤنة الحنث لاستغنوا عن الاستثناء، فلما لحقتهم اللائمة؛ لتركهم الاستثناء، دل أن المؤنة تبقى عليهم إذا عَرِيَتْ عن الاستثناء وإن كانت مؤقتة.
ولكنْ أبو حنيفة -رحمه الله - يسقِط عنه اليمينَ بهلاك الشيء المحلوف عليه إذا كانت يمينه بالله تعالى، ولا يسقطها إذا كانت بشيء من القرب والطاعات - أعني: الندب -، وليس في الآية إبانة أن يمينهم كانت بالله تعالى؛ فجائز أن يكون يمينهم بشيء من القرب؛ فبقيت عليهم؛ ولأنه عاتبهم على ترك الاستثناء؛ لعزمهم على المعصية، والاستثناء يسقط العزيمة؛ لأن من عزم على المعصية، وقال فيه: إن شاء الله - لم يصر آثما بمقالته، ولا صار عازما على المعصية، وأبو حنيفة -رحمه الله - ليس يخرجه عن المعصية في اليمين المؤقتة إذا عقدت على أمر من أمور المعصية.
والذي يدل على أن العتاب [في ترك] الاستثناء؛ للوجه الذي ذكرنا: أنه لم يذكر في شيء من الأخبار، ولا ذكر في الكتاب أن أحدا منهم أمر بالتكفير، ولو كان الحنث لازما، لكانوا يلامون على ترك التكفير أيضاً، كما [لحقتهم اللائمة] بترك الاستثناء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ }.
طائف من ربك: قيل: عذاب ربك، وسمي: طائفا لأنه أتاهم بالليل، وكل آت بالليل [فهو] طائف.
وقوله - عز وجل -: { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ }.
قيل: أي: الجنة كأنها صرمت، وهم أصبحوا ليصرموها.
وقوله - عز وجل -: { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ }.
قيل: يتسارُّون فيما بينهم؛ فيجوز أن تكون مسارتهم كانت في الأمر بالإسراع في المشي؛ لئلا يشعر بهم أحد من المساكين.
أو يتعجلوا في الخروج [والمشي] قبل الوقت الذي يصبح فيه المساكين.
وقوله - عز وجل -: { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ }.
فمنهم من ذكر أن اسم جنتهم كان حردا.
وقيل: غدوا على أمر قد استثنوه فيما بينهم.
وقال الزجاج: الحرد له أوجه ثلاثة:
أحدها: القصد، واستدل عليه بقول الشاعر:

أقبلَ سيلٌ كان من أمر اللهْ يحرد حردَ الحيةِ المُغِلَّهْ

أي: بقصد قصدها.
والثاني: هو المنع، يقال: أحردت السنة؛ إذا قحطت وذهبت بركتها.
والثالث: الغضب، فغدوا على حرد قادرين، أي: على غضب على الفقراء.
وقوله: { قَادِرِينَ }.
أي: قادرون عليها في أنفسهم.
ولقائل أن يقول بأن في هذه الآية دلالة تقدم القدرة على الفعل؛ لأنه أثبت لهم القدرة قبل الفعل، ولكن هذه القدرة ليست هذه قدرة الأفعال، وإنما هي قدرة الأسباب والأحوال.
وقوله - عز وجل -: { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ }.
أي: قد ضللنا الطريق، فكان عندهم أنهم قد ضلوا الطريق لذلك لم يتوصلوا إلى ثمارها ثم ظهر لهم أنهم لم يضلوا الطريق، بل حرموا بركة الثمار بجنايتهم التي جنوها، فتذكروا صنيعهم، وندموا على ذلك، فأقبلوا بالاستكانة والتضرع إلى الله تعالى، فتاب عليهم، فلعل الذي قال: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } يخرج على هذا، وهو أنا بلونا أصحاب الجنة، فتذكروا؛ فرفع عنهم العذاب، ولم يتذكر أهل مكة فحل بهم العذاب يوم بدر، كما قال:
{ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [المؤمنون: 76].
وقوله: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ }.
أي: أعدلهم.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ }.
جائز أن يكون معناه: لولا تصلون الفجر، ثم تخرجون.
وجائز أن يكون معناه: لولا تستثنون.
وقد ذكرنا أن في الاستثناء معنى التسبيح؛ لأن فيه إقرارا بأن الأمور كلها تنفذ بمشيئة الله تعالى، وأنه هو المغير والمبدل دون أحد سواه.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ }.
فهذا منهم توحيد وتنزيه.
وفي قوله: { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } اعتراف بما ارتكبوا من الذنوب وإنابة إلى الله تعالى، وتمام التوبة منهم في قوله: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ * قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ }.
فذكر المفسرون في قوله: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ }، أي: أقبل بعضهم على بعض باللوم يقول: أنت أمرتنا أن نصرمها ليلاً، وقال هذا لهذا: بل هو عملك أنت. وهذا لا معنى له؛ لأن هذا يوجب تبرئة كل واحد منهم عن ارتكاب الذنوب، وقد سبق منهم الإقرار بالذنب بقولهم: { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }، وبقولهم { يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ }، فكيف يبرئون أنفسهم عن الذنوب وقد اعترفوا بها؟! فهذا تأويل لا معنى له، بل معناه - والله أعلم - فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون على إدخال كل منهم نفسه في ذلك [القول، فأقبل] كل واحد منهم باللائمة على نفسه حتى يكون [هذا] موافقا لقوله: { إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ }.
وقوله - عز وجل -: { يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ }.
ففي هذا إتمام التوبة، ففيه أنهم أظهروا الندامة على ما سبق منهم من أوجه ثلاثة:
مرة بما وصفوا أنفسهم بالظلم.
ومرة بما لاموا أنفسهم.
ومرة بما وصفوا أنفسهم بالطغيان.
وقوله - عز وجل -: { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ }.
أي: يبدلنا خيرا منها إذا تبنا، وأنبنا إلى ربنا؛ لأنه لا يجوز أن يتوقعوا خيراً منها وهم مصرون على ذنوبهم؛ إذ قد عرفوا أنهم إنما حرموا بركة الثمار بما ارتكبوا من الذنوب؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا.
ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة يقولون: { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } في الآخرة إذا تبنا وأنبنا إليه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ }.
إلى ما عند ربنا من العطايا والمنن لراغبون.
أو إلى ما وعد ربنا للتائبين من الذنوب لراغبون.
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ }.
كأنه يخاطب أهل مكة أن كذلك العذاب في الدنيا في أن يأخذ أهله آمن ما كانوا، أو أغفل ما كانوا، كما أخذ أصحاب الجنة عند الأمن؛ إذ كان عندهم أنهم يقدرون على صرم تلك الثمار ولا يأخذهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
ففي هذا إيجاب العذاب على من لم يعلم بالعذاب ولم يؤمن به؛ لأنهم لم يؤمنوا بعذاب الآخرة ولا علموا به، ثم أوجب لهم العذاب وإن لم يعلموا ولم يعذروا بالجهل؛ لأنهم قد وقفوا على السبب الذي لو تفكروا لعلموا بالعذاب ولأيقنوا به، وفيه هذا حجة لأن لا عذر لمن تخلف عن التوحيد والإيمان بالله تعالى وإن جهل، إلا أن يكون جهله جهل خلقة؛ لأن الذي أفضى به إلى الجهل هو التقصير في الطلب، وإلا لو لم يقصر في الطلب لوجد من يدله على معرفة الصانع ووحدانية الرب - تعالى -.